حين مراجعة المجاميع القصصية المغربية وكذا الأجنبية التي صدرت على امتداد عدة عقود، سواء للرواد أو للكتاب الجدد على حد سواء، من النادر أن نعثر على نموذج منها يتناول الموضوع الذي له ارتباط بشهر رمضان.
هل معنى هذا أن الشهر الكريم لا يوحي للأدباء بأي شيء؟
الملاحظة الأخرى التي يمكن تسجيلها ونحن بصدد إعداد سلسلة من النصوص القصصية للنشر في هذا الفضاء الرمضاني، هو أن أغلب هذه النصوص تتطرق إلى يوم بعينه من رمضان، ألا وهو يوم السابع والعشرين، أو ليلة القدر بالأحرى، وهذا ليس مفاجئا، على اعتبار ما تحبل به هذه الليلة من رموز وإيحاءات.
إننا نفتقر إلى أنطولوجيات في مختلف فنون الأدب، تخص موضوعات بعينها. إن عملية جمع النصوص الخاصة برمضان، بقدر ما هي متعبة؛ فهي كذلك ممتعة ومفيدة، ولا شك أن مكتبتنا بحاجة إلى هذا النوع من الأنطولوجيات التي تتيح لنا الإحاطة الشاملة بالنصوص التي تتناول موضوعا أو قضية بذاتها، بأصوات متعددة.
رؤية رمضان
> بقلم: مصطفى عطية
“) (سنذهب كلنا لنرى “رؤية رمضان
هكذا قال الأولاد في الحي، تزاحم في عيوني مشهد الرؤية، إنه اليوم الذي يسبق أول الشهر الكريم، يشبهونه بيوم طلعة محمل الكعبة المشرّفة في القاهرة، وقد شاهدتُها في التلفزيون في فيلم تسجيلي قديم بالأبيض والأسود، مسجّل من سنوات الستينيات، في موكب مهيب يخترق شوارع القاهرة القديمة، والناس متجمعون حول موكب يضرب في حفريات الزمن القاهري منذ قرون، هكذا شاهدت، وهكذا اختزنت ذاكرتي ما رواه أبي الذي حضر طلعة المحمل مرات خلال سني إقامته في المحروسة، وسمعته أيضاً من جدي الذي رواه عن أبيه، وعن أهل الخير الذين كانوا يسافرون للعاصمة خصيصا لحضوره.
***
في رؤية رمضان، يتجمع أهل الفيوم (المدينة) في ميدان ” قارون ” خلف السواقي التي تدور دافعة المياه من ترعة بحر يوسف، ثم تقذفها في قنوات خرسانية، فتتلوى موجاتها، وأستعيد في ريقي لذة ماء النيل.
منذ الخامسة من عمري؛ اعتدت الذهاب مع أخي الأكبر، أتعلق بملابسه خائفا أن أتوه في الزحمة، يصرخ فيّ لأترك يدي القابضة على كُمّ قميصه، أتشبث أكثر، لا أرى إلا الأكتاف، بحنو يحملني على كتفه، أشرف من عليائي على الرؤوس، رصيف الشارع يلمع تحت أشعة شمس العصر الصفراء، الناس يصفّرون ويلوحون، رافعين بيارق خضراء وصفراء، وعلم مصر القديم ذا الهلال والنجوم، وعلمها الحالي ذا الألوان الثلاثة، يمر مشهد الرؤية: عربات الجيش والشرطة مزدانة بالأعلام. أشعر بخجل والعيون تتطلع نحوي، ضحكات من رفاق أخي، تمردت من عليائي معترضاً، فأنزلني أخي.، هكذا تلاعبت الذكرى بي.
***
هذه السنة، قررت وأنا في الصف الثالث الابتدائي ألا أذهب مع أخي الأكبر، لن أتقيد به، سأذهب بمفردي، أعرف السّكة جيدًا، فكم مرة سرت في شارع البحر، وجلست عند السواقي آكل اللب، أو أقفز إلى داخل الحديقة أتطلع إلى عمارة الأوقاف أعلى عمارات بلدنا ذات الطوابق الاثنتي عشرة، وأسفلها المحلات التجارية، بزحامها الدائم.
كعادته، تعلّق أخي ” أحمد ” الصغير بي، عمره أربع سنوات، يأتي معي واثقًا أنني سآخذه إلى أمكنة إن لم يحبها، سيجد فيها تسالي وألعابا. ابتسمت له، واستجابت كفي بمعانقة كفّه.
في الطريق، راح يشير إلى معالم شارع البحر الرئيسي المتوسط لمدينتنا، أجيبه، وأحكي له ما سمعته من أخي الأكبر، عن الأبنية العالية، والقصور المزخرفة، والبيوت ذات الشرفات الواسعة، يستمتع بكلامي، يظنه حواديت، وأجد متعة وأنا أجيب عن أسئلته المتصلة.
شدّني بقوة، توقفتُ، رفع ذراعيه عالياً، يريد أن أحمله، حملته، استراح على صدري، واصل إشاراته، وواصلت حكاياتي.
اقتربت من مكان الطلعة، الزحام كثيف، عليّ أن أقترب من المقدمة لأشاهد كل شيء، استجابت عيون الناس وعطفت على جسدي الصغير الحامل لطفل أصغر، وسمحت لي أن أتقدم حتى صرتُ في الواجهة، كان العيال رفاقي ورفاق أخي على الجانب الآخر، ” لا شك أنهم يحسدونني الآن على مكاني”.
ما لبثت أن ارتفعت أصوات الطبول، وتراءت البيارق، وتتابعت سيارات المطافئ، مكسوة بعناقيد الخضرة والورود، وقد رفعت كل سيارة صوت السارينة عالياً، لنغرق في موسيقى صاخبة، تلتها سيارة المدفع، الذي سينطلق مغرب كل يوم معلنا الإفطار ثم يدوي قبل الفجر معلنا الإمساك، مدفع قديم، ماسورته سوداء، وعجلاته بنيّة، همست لأخي – الذي ارتكن برأسه على كتفي – أنه متوارث منذ أيام الملك المعظّم، هكذا أخبرني جدي، يضع الجندي القنبلة من الخلف، ثم يشدّ الحبل، لتنطلق الدانة منفجرة، يقولون إنها قنبلة ” فشنك “، لا تأثير لها، وهذا ما جعلني غير مندهش من وجود المدفع في ساحة مديرية الأمن.
جاءت عربات الجيش تنثر الزهور البيضاء والحمراء والصفراء، والناس تهلل، وتكبّر، ثم سيارات البلدية تنثر الماء في الهواء، فيتطاير قطراتٍ، مرطبا الجو والرؤوس، أضحك مع الناس، وأنا أتحسس شعري والماء البارد يقطّر منه.
سأعود متباهياً أمام والديّ وأصحابي؛ لذهابي دون مساعدة من أحد إلى الطلعة، ولأخذي أخي ” أحمد ” معي، وكانت أول مرة يشاهد الرؤية على يدي.
خبا صوت الطبول، مع انتهاء عربات الموكب، الناس تصافح بعضها مهنئين بالشهر الكريم، فغدًا صيام وقيام، وإفطار وسحور.
وعليّ أن أبدأ الشهر بصيام الأيام الأولى، ثم أتفاوض مع أبي في إفطار أيام أخرى.
هكذا رويت لأخي أحمد، الذي ما زال على كتفي، وأنا أنفذ بين الأرجل، متخذاً طريق العودة.
***
قابلتُ رفاقي، ورفاق أخي، توقعت كلمات الثناء، كلهم
يضحكون، ينظرون إليّ، سألت أخي متعجباً: لماذا؟
حين اقتربت منهم، قالوا لي في أصوات متداخلة:
ــ طوال وقت الرؤية، تتكلم مع أخيك وهو نائم؟
يضيف أحدهم:
ــ وغارق في النوم
أمسكت برأس أخي، عيناه مغمضتان بعمق، وتقاطيع وجهه مرتخية، ورائحة عرقه تملأ أنفي.
قال أخي الأكبر:
ناديتك كثيرًا في الطلعة أن الولد نائم لتنتبه، لكن صوتي ضاع وسط الطبول.
< عبد العالي بركات