عاش المغرب، نهاية أربعينات القرن الماضي، وبداية خمسينياته، أحداثا دموية واسعة النطاق كرد فعل على إقدام المستعمر الفرنسي على نفي الملك الراحل محمد الخامس خارج الوطن. خلال هذه الفترة العصيبة، ومن رحم الغليان الشعبي، والانتفاضات العارمة التي واجهتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية بالقمع، تأسست مجموعة من التنظيمات السرية التي حاولت الرد على هذا النهج القمعي، كان أبرزها على الإطلاق منظمة “الهلال الأسود” التي اعتمدت أساليب شكلت ضغطا على المستعمر وأذنابه من الخونة.
من داخل هذه المنظمة، برزت أسماء سيظل تاريخها محفورا في ذاكرة المقاومة، سواء منها تلم التي تعرضت للاعتقال أو الاغتيال أو تلك التي كتب لها النجاة لتروي للأجيال أحداثا قوية مفعمة بالوطنية والغيرة على هذا الوطن.
المقاوم عبد القادر بهيج من هؤلاء المقاومين الذين يكتب التاريخ نشاطهم ضمن التنظيم السري”الهلال الأسود”، والذي رغم تقدمه في السن استقبل بيان اليوم ليروي ما علق في ذاكرته من وقائع وأحداث نقدمها لقرائنا فيما يلي:
الحلقة 12
سجن القنيطرة وحكاية حجاج والعفو الملكي
بعد النطق بالأحكام القاسية في حقنا، والتي تراوحت بين 15 و40 سنة بالمحكمة العليا بالرباط، تمت إعادتنا إلى زنازيننا بالسجن المركزي بالقنيطرة، وسط حالة من الذهول والصدمة، التي ستتبدد مع الأيام محاولين التكيف مع أجواء السجن وقصص المجرمين والعتاة هناك.
في إحدى الأيام، ونحن بالسجن، استشعرنا حركة غير عادية داخل العنابر وفي ساحة السجن، وبالفعل، كان هناك وفد رفيع المستوى به شخصيات مهمة، من ضمنهم مدير السجون، حيث سنعلم فيما بعد أن الأمر يتعلق بالمسمى “حجاج” الضالع في قتل المقاوم عباس المساعدي قائد جيش التحرير.
تم إدخاله إحدى غرف السجن بعيدا عن أعين باقي السجناء، ومنع من الاختلاط معهم، وكان يحظى بمعاملة جد خاصة، سنعلم فيما بعد أنه اعترف بقتل المقاوم عباس المساعدي قائد جيش التحرير ونقل إلى هناك من طرف مسؤولين كبار في الدولة حينها، ليظل بعيدا عن الأعين كي لا يتم الانتقام به من طرف من بقي من أعضاء جيش التحرير.
وقصة حجاج هذا، كانت تردد على كل لسان، بين من اعتبره نفذ أوامر من جهات عليا لتصفية المساعدي، وبين من يتهم قادة حزب الاستقلال الذين كانوا يمسكون بزمام الأمور في البلاد، بدءا بالأمن ثم الجيش وباقي القطاعات الحيوية، خصوصا وأنهم من الضالعين المباشرين في تصفية عدد من القادة والمقاومين في منظمات عدة، ومن ضمنها منظمتنا “الهلال الأسود”، وكنا قد تحدثنا عن ذلك في حلقات سابقة، كما أنهم مسؤولون بشكل مباشر عن سجننا أيضا..
هكذا أمضى حجاج، والذي كان للأمانة من المقاومين أيضا في فترة الاستعمار، سجنه إلى جانبنا في السجن المركزي بالقنيطرة، لكن نحن في جهة، وهو في جهة أخرى، له امتيازات خاصة، ومقام يليق بفندق خمس نجوم، حتى الأكل كان يأتيه من خارج السجن ويحظى بالزيارات كيف يشاء.
أما نحن، فاستمر التضييق علينا وعلى أسرنا التي كانت تأتي لزيارتنا من بعيد، وأذكر عناء أمي رحمها الله وهي تنتقل بين الدارالبيضاء والقنيطرة لزيارتي، وأذكر مشقتها وسط التضييق الذي عانينا منه، لدرجة اعتقال شخص كان يساعدها في التواصل معي بالسجن، وكان يوصلها من المحطة بالقنيطرة إلى السجن المركزي، قبل أن يتم إطلاق سراحه في وقت سابق.
بالمقابل، كان ينعم المدعو بمقام سعيد هناك، قبل أن يخرج فيما، حينما هدأت الأوضاع، وسيستفيد من مأذونيات نقل خاصة بالحافلات، وسيحظى برئاسة فريق الرجاء البيضاوي لفترة معينة.. قبل أن تنتهي حياته بشكل مأساوي
بعد مرور خمس سنوات، وبشكل مفاجئ لا ندري سياقه، سيجري الإفراج عنا، وسيتم إخبارنا بأن الملك الراحل الحسن الثاني أعطى أوامره بالعفو عن جميع من اعتقلوا من التنظيمات السرية بعد الاستقلال، وهكذا ستطوى صفحة السجن، وتفتح صفحة العطالة التي عانينا منها عكس البعض ممن تم إدماجهم في قطاعات مختلفة.
سألجأ إلى الرياضة، حيث سأدرب مجموعة من الأندية البيضاوية، من ضمنها فريق النجم البيضاوي وفرق أخرى، وسأجول بعض دول العالم، سواء في كرة القدم أو مع أبطال في رياضات أخرى، قبل تتذكرنا بعد عقود من الزمن مندوبية المقاومة وأعضاء جيش التحرير بعد القيام بإحصاء المقاومين.
وهنا لا بد من أتوقف على نقطة مهمة، وهي تمييع المقاومة، ذلك أن بنود إثبات المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي كانت بسيطة، تقوم على تقديم أربع شهادات بأن هذا الشخص مقاوم، وهو ما جعل مجموعة من الخونة يشهدون لبعضهم البعض، وبعدما كانوا يشتغلون إلى جانب الاحتلال أصبحوا بين ليلة وضحاها مقاومين، حتى بلغ العدد حوالي 30 ألف وهو رقم لم يكن موجودا حينها، لاسيما وأن عدد من عمليات الاغتيال والخطف قد تمت في أغلب المقاومين.
هكذا أغلقت صفحة المقاومة، ضحينا بأنفسنا ولم نهب الموت في سبيل تحرير البلاد، لكن في النهاية كان السجن مصيرنا، وحتى حينما تم تذكرنا، وتقديم مجموعة من الوعود ظلت مجرد وعود، كما كنا قد قمنا بمبادرات لتجميع المقاومين لكنها فشلت في النهاية، بسبب بأس البعض وبسبب طمع البعض الآخر، وغيرها من المشاكل التي وأدت مبادرات لتجميع المقاومين والحفاظ على ما تبقى من تراثهم في سبيل تحرير الوطن..
اعداد: محمد توفيق امزيان