مما لا شك فيه أن التداعيات الصحية والاقتصادية لفيروس كورونا على الاقتصادات المحلية والعالمية «خطيرة»، بل وتنذر، في رأيي المتواضع، بكساد عالمي وشيك إذا لم تتغلب البشرية في حربها على الفيروس خلال شهرين من الآن على الأكثر. ليس هذا فقط لكن أيضا على الجانب الاجتماعي فالفيروس أوضح مدى هشاشة العقد الاجتماعي في كثير من مجتمعاتنا الحديثة، وأن هناك حاجة لإصلاحات جذرية لتشكيل مجتمع يعمل لصالح الجميع.
لكن الخبر السعيد أن محنة الفيروس منحتنا إيجابيات كثيرة يمكن اختصارها، في أنه قفز بنا إلى المستقبل! نعم للمستقبل الصحي والذكي، والمستدام، حيث يكون الفرد متصلا، وإنسانيا، ويعيش حياة أبسط، وأقل تلويثا.
على الجانب البيئي، المزايا عديدة والفوائد عظيمة.. الحد من السفر، وإغلاق المصانع كليا وجزئيا، منح استراحة للبيئة والسماء والهواء…الخ. هل تصدق أن تشهد أجزاء من الصين سماء زرقاء للمرة الأولى منذ أمد مع إغلاق المصانع هناك؟! كما لحقت إيطاليا وإسبانيا بالصين حيث كشفت صور الأقمار الصناعية عن أن تلوث الهواء في إنحفض بشكل حاد، بعد أن أجبر الفيروس السلطات على إغلاق المصانع، وحظر السفر، بالإضافة إلى العمل عن بعد بدلا من التواجد داخل أماكن العمل، وتحولت المدن المكتظة بالسيارات، والانبعاثات الكربونية إلى مدن أشباح. فالوباء البشري صحح من أوضاع المناخ المتأزمة منذ عقود (بصورة مؤقتة)، ولكنه أثبت للجميع أن الاقتصاد منخفض الكربون أمر سهل ممكن تحقيقه على أرض الواقع.
وعلى الجانب الاجتماعي منحنا الفيروس فرصة لإعادة التواصل بالعائلة، حيث أصبحنا نقضي وقتا أطول في المنزل، خاصة مع إجازات المدارس والأمهات، بالإضافة إلى العمل من المنزل لكثير من المهن. إنها فرصة للتأمل العميق وتهدئة الذات وتدعيم أهمية الإحساس بالتكافل والتضامن (الأسرة، الحي) في المجتمعات، فرأينا كيف يدعم اللبنانيون والايطاليون مثلا بعضهم البعض بالغناء والموسيقى من شرفات منازلهم. والسؤال الهام هنا هو ما إذا كانت المشاعر الحالية تجاه هدف مشترك ستشكل المجتمع فيما بعد الأزمة؟
الإجابة باختصار أن كثيرا من التغيرات الاجتماعية ستستمر بلا شك بعد انتهاء الأزمة خاصة مع ثبوت العديد من مزاياها الاقتصادية والبيئية للأفراد والشركات والدول بل والعالم أجمع. فمثلا سيشهد العالم اتجاها متزايدا للسماح للموظفين في مختلف القطاعات بالعمل من المنزل. فلماذا يتحمل صاحب العمل تكاليف استثمارية وتشغيلية لمساحة عمل مكتبية تقدر بحوالي 7000 دولار في المتوسط سنويا (من توفير مكتب وحاسب إلى وتكاليف انتقالات وكهرباء…إلخ)، في الوقت الذي يمكن فيه إنجاز العديد من مهام العمل اليومية العمل من المنزل، وسيتم الحكم على أداء الموظف بناء على الإنتاجية، وليس على ساعات العمل التي يقضيها العامل. لكننا بالطبع بحاجة إلى مجتمع وشركات مجهزة بالبرامج التكنولوجية وأدوات الـ(فيديو كونفيرانس) اللازمة وغيرها.. لضمان فاعلية أداء الأعمال والإجتماعات. أضف لذلك أن ظاهرة «التعلم عن بعد» التي صاحبت انتشار الفيروس- متخطية حواجز المكان والزمان بطريقة جذابة وتفاعلية مصحوبة بمؤثرات بصرية وسمعية ستحل محل من غالبية العملية التعليمية «الجامدة».
يخطيء من يظن أن ضحايا كوفيد-19 هم من كبار السن فقط. بل الرجال والشباب ممن يمثلون قوة العمل الأساسية بالمجتمعات من أكبر ضحايا عمليات الإغلاق، الذين يُطلب منهم تعليق تعليمهم ووظائفهم وأعمالهم خاصة أن الكثير منهم في أمس الحاجة لهذا الدخل اليومي أو الشهري. لكن يمكن القول بلا غرور إن التضحيات أمر لا مفر منه، فالنضال من أجل احتواء الوباء كشف عن عدم استعداد الأنظمة الصحية، وكذلك هشاشة اقتصادات غالبية البلدان، حيث تتدافع الحكومات لدرء حالات الإفلاس الجماعي، والتعامل مع البطالة الجماعية. لكنه يجب على كل مجتمع أن يثبت كيف سيقدم التعويض لمن يتحملون العبء الأكبر للجهود الوطنية، ووضع سياسات مستقبيلة لضمان عقد إجتماعي قوي، سليم، متوازن وعادل.
بكل ثقة نستطيع القول إنه ستكون هناك إصلاحات جذرية مختلفة تماما عما كان سائدا بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، ومن أهم ملامحها:
> سيتعين على الحكومات قبول دور أكثر نشاطا في الاقتصاد عكس الاتجاه العام في العقد الأخير خاصة، حيث بات يتحتم عليهم أن ينظروا إلى الخدمات العامة على أنها استثمارات بدلا من كونها التزامات. ومن أهم الخدمات أو السلع العامة (البيئة بمفرداتها وخدماتها) فهي سلعة عمومية لا يقلل استهلاكها أو استخدامها من قبل الفرد الكمية المتاحة للتخزين، وبالتالي فإن السلع العامة ليست مستبعدة وغير متنافسة.
> سيتعين على الحكومات أن تبحث عن طرق لجعل أسواق العمل أكثر أمنا. كما ستكون إعادة التوزيع للدخل والثروة (عن طريق الضرائب مثلا) على رأس جدول الأعمال.
> سيصبح العمل والتعلم من المنزل واقعا ولو بصورة جزئية، وسيتحتم دعم المجتمعات بالتكنولوجيات اللازمة، خاصة أن العديد منها متاح حاليا.
> ستصبح قضايا البيئة وتغير المناخ على سلم الأولويات ليس فقط نتيجة لما شهد العالم من أزمات نتيجة الفيروس ومن قبله حرائق غابات الأمازون وأستراليا وفقدان التنوع البيولوجي…الخ، بل لأن حماية الموارد البيئية هي حماية لأصول الأمم وثرواتها، والأزمة أوضحت بجلاء أنه في الإمكان في ظل التكنولوجيات المتاحة حاليا تحقيق الاقتصاد الخالي من الكربون، بإجراءات وسياسات سهلة التطبيق.
يقول الحق سبحانه وتعالي في كتابه الكريم في سورة البقرة «وعسىٰ أَن تكرهوا شيئا وهو خير لكم»، وطبقا لإحصاءات منظمة الصحة العالمية فإن تلوث الهواء يتسبب في 7 ملايين حالة وفاة سنويا حول العالم، أي أضعاف مضاعفة لوفيات الفيروس الحالية والمتوقعة، فلربما أراد الفيروس تنبيهنا بأهمية تحسين جودة الهواء والبيئة بصفة عامة، كي نحيا نحن وأطفالنا وأحفادنا حياة أفضل.
خلاصة القول بأنه بلا شك، وشئنا أم أبينا، فإن عالم ما بعد كورونا سوف ينتج قيم وأولويات مختلفة، وواقعا اجتماعيا جديدا بعقد اجتماعي جديد.
* خبير اقتصاديات الطاقة والبيئة
د. محمد عبد الرؤوف – القاهرة *