قد يمر بنا قطار العمر بمحطات وأماكن لا نشعر بجمالها إلا عندما نبتعد عنها.. وقد يؤثث مشهد حياتنا فنانون فرضوا علينا الاحترام بأدائهم و مشاعره الإنسانية الجميلة. وفي أكثر الأحيان لا نشعر بقيمتهم ومدى تأثيرهم في حياتنا إلا بعد أن يغادروننا ويصبحون مجرد ذكرى فيتركون ذكريات قد تثير فينا الشجن والحزن والفرح والابتسامة أو الألم والحسرة.. ولكن تبقى ذكرياتهم محفورة داخلنا، تذهب بنا إلى العالم جميل نستنشق من خلاله عبق المحبة والحنين إلى الماضي حيث نتذكر فيهم وبهم أجمل اللحظات برونق خاص وغصة بالقلب…
رحلوا عنا الغوالي وتركوا لنا ذكريات نتعايش معها وتنبض الحياة في أعضائنا، وصورهم مازالت ماثلة أمام أعينينا..
هكذا هي الحياة، كما هي الممات، لقاء وفراق، دمعة وابتسامة.. فبالأمس رحل عنا العظماء ممن كنا نحبهم لأنهم تركوا بصمات على دركنا وفهمنا للحياة من علماء وشعراء وأدباء وفنانون فهم شخصيات عامة إلا أنهم أناس عاشوا وتعايشوا معنا ليرحلوا بهدوء دون أن ترحل آثارهم وتأثيراتهم..
الحلقة 11
الفنان الراحل سعد الله عزيز
الفنان سعد الله عزيز، المزداد بمدينة الدار البيضاء (درب السلطان) سنة 1950 والمتوفى بها (بوسكورة) يوم الثلاثاء 13 أكتوبر 2020، ممثل ومنشط ومؤلف ومخرج ومنتج مسرحي وتلفزيوني وسينمائي معروف بأعماله الفنية الفرجوية الغزيرة داخل المغرب وخارجه. فقد أمتع بهذه الأعمال، ذات الطبيعة الكوميدية في غالبيتها، الملايين من الناس على امتداد نصف قرن من الزمن، رفقة زوجته الممثلة والمؤلفة والمنتجة والمنشطة خديجة أسد، حيث كانا يشكلان ثنائيا فنيا ناجحا بامتياز أحدهما يكمل الآخر.
وظهر على عزيز منذ مرحلة الطفولة ميل إلى التشخيص والتنشيط الثقافي وتقليد الممثلين الكوميديين الكبار وعلى رأسهم العبقري شارلي شابلن، خصوصا في إطار الأنشطة المدرسية الموازية للتعليم عندما كان يافعا في كوليج ابن حبوس بالدار البيضاء ابتداء من سنة 1963. ولعل هذا الميل القوي والمبكر إلى فنون الفرجة هو الذي دفع به إلى الالتحاق سنة 1968 بالمعهد البلدي للموسيقى والرقص والفنون الدرامية بمسقط رأسه، الذي كان يشرف على إدارته ويدرس به آنذاك الفنان الراحل أحمد الصعري (1940- 2019)، حيث درس به إلى حدود سنة 1971 على يد أساتذة ورواد مسرحيين كبار من عيار أحمد الطيب العلج (1928- 2012)، إلى جانب زملاء له أصبحوا مثله فيما بعد فنانين محترفين من بينهم خديجة أسد والحسين بنياز (باز) ومحمد كافي وفؤاد سعد الله وبوشعيب الطالعي وإسماعيل أبو القناطر وميلود الحبيشي وغيرهم.
بعد تخرجه متفوقا من المعهد المذكور، سافر إلى الديار الفرنسية لمتابعة دروس في الإخراج المسرحي بجامعة فانسين (Vincennes) بباريس من 1971 إلى 1973.
من الأعمال الفنية الأولى التي شارك فيها الراحل سعد الله عزيز كممثل بمشاركة خديجة أسد وهما طالبان بالمعهد نذكر على سبيل المثال مسرحيات “الدروج” (1969) مع صلاح الدين بنموسى و”ديوان سيدي عبد الرحمان المجدوب” (1969) للصديقي و”مونسيرا” (بداية السبعينات) للكاتب الفرنسي إمانويل روبلز… ومباشرة بعد مرحلتي التكوين المسرحي بالدار البيضاء وباريس دخل ميدان الاحتراف بانضمامه سنة 1974 إلى فرقة المسرح البلدي التي كان يرأسها عميد المسرح المغربي الطيب الصديقي (1938- 2016)، حيث شارك معها وإلى حدود سنة 1976 في مجموعة من المسرحيات من بينها “النور والديجور” و”المولى إدريس”…
تجدر الإشارة إلى أن الطيب الصديقي شغل من 1965 إلى 1977 منصب مدير المسرح البلدي بالدار البيضاء، وهي المؤسسة التي تم تشييدها في العشرينيات من القرن الماضي من طرف المستعمر الفرنسي.
كما اشتغل من 1976 إلى 1979، كممثل ومؤلف ومخرج، مع فرقة مسرح الجيب في أعمال من بينها مسرحيتان هزليتان لأحمد الطيب العلج هما “الناعورة” و”عريس بزز منو” شارك فيهما إلى جانبه بوشعيب الطالعي وخديجة أسد والراحلون أحمد الصعري ومحمد الحريشي (1939- 2012) وأحمد الرداني (توفي سنة 2016) وآخرين…
في موسم 1980- 1981 أسس سعد الله عزيز رفقة زوجته خديجة أسد فرقة “مسرح الثمانين” المحترفة وترأسها، وهي الفرقة التي كانت وراء إنجاز العديد من المسرحيات الناجحة نذكر منها بالخصوص ما يلي: سعدك يا مسعود (كتبها سعد الله وأخرجها حميد الزوغي وشارك في تشخيص أدوارها محمد مفتاح وسعاد صابر والراحلين ثريا جبران وعائد موهوب)، النخوة على لخوا، فكاك الوحايل، خلي بالك من مدام (أخرجها عزيز سنة 1984 بتأليف مشترك بينه وبين سعد الله عبد المجيد)، برق ما تقشع، كوسطة يا وطن، صاروخ أمزميز، كاري حنكو. وقد تم تنظيم العديد من العروض لهذه المسرحيات داخل الوطن بمختلف المدن المغربية وخارجه لفائدة الجاليات المغربية المتواجدة بأروبا وأمريكا والشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم.
وتعتبر “فكاك الوحايل” آخر مسرحية عرضتها فرقة مسرح الثمانين بالمسرح البلدي بالدار البيضاء قبل هدمه سنة 1984 بمشاركة حمادي عمور وسعاد صابر وخديجة أسد وخاتمة العلوي وصلاح الدين بنموسى والراحل محمد بلقاس، وذلك بنجاح منقطع النظير (لا مقعد فارغ) لمدة 10 أيام متتالية. كما نظمت بها حوالي مائة عرض بمختلف المدن والقرى المغربية.
وبالموازاة مع ذلك اشترك عزيز وزوجته في ملحمتين من إخراج الطيب الصديقي هما “مسيرتنا” (1985) و”نحن” (1986).
تجدر الإشارة إلى أن فرقة “مسرح 80” تمكنت من إنتاج 8 مسرحيات طويلة وحوالي 10 مسرحيات قصيرة مع تنظيم عشرات الجولات الوطنية والدولية (الشرق الأوسط، فرنسا، بلجيكا، هولاندا، ألمانيا، المملكة المتحدة، السويد، الدنمارك، النرويج، كندا، الولايات المتحدة الأمريكية) بهذه المسرحيات في الفترة المتراوحة بين 1980 و2003. وقد اضطلع سعد الله عزيز، بتعاون مع زوجته ومبدعين آخرين، بمهام الإنتاج والإخراج والتأليف والتشخيص والدعاية وغير ذلك من الأمور.
لم يقتصر نشاط الثنائي الفني سعد الله عزيز وخديجة أسد على المسرح وحده، بل انفتح منذ سنة 1975 على التلفزيون المغربي، بقناته الوحيدة أولا ثم الثانية فيما بعد، بأعمال كوميدية لقيت استحسانا كبيرا لدى المشاهدين، وذلك من خلال سكيتشات فكاهية ومسرحيات هزلية مصورة وسلسلات كوميدية واجتماعية عديدة وسيتكومات ومسلسلات وبرامج… لعل أشهرها “هي وهو” (أواخر السبعينيات) وفيلم “إثنان ناقص واحد” (1979) لمصطفي الدرقاوي، وهو من بطولة سعد الله عزيز ومحمد مفتاح لا غير، ومسلسل “الشرع عطانا ربعة” (1980) وبرنامج “ت ف 3” أو “تليفزيون 3” (1984)، من إعداد وإخراج حميد بن الشريف (1940- 1986)، و”كاريكاتير” و”صور ضاحكة”، من إخراج الراحل حسن المفتي (1935- 2008)، وغيرها… كما شارك بعد ذلك مع القناة الثانية في أحد أشهر سيتكوماتها “لالة فاطمة” لنبيل عيوش على امتداد ثلاثة مواسم من 2001 إلى 2003، هذا بالإضافة إلى كتابتهما لمجموعة من الأعمال التلفزيونية ومشاركتهما كممثلين في سكيتشات “مواقف” وسيتكومات أخرى من قبيل “دور بها يا الشيباني” (2013) لزكية الطاهري و”ماشي بحالهم” (2018) لجميلة البرجي بنعيسى، وفيلمي “الزواج الثاني” لعزيز سعد الله (سيناريو وحوار خديجة أسد) و”الطبيب” لعزيز الجاحضي، وسلسلة “بنت بلادي”، والسلسلة الكندية “قطع من الحياة” (2010- 2013) للمخرجين الكيبيكيين فرانسوا بيجان وجيلبير دوما…
لقد تميزت الفترة المتراوحة بين 1975 و2014 بمشاركة سعد الله عزيز، كممثل ومنتج منفذ وكاتب سيناريوهات، في مجموعة من الأعمال التلفزيونية التي بثتها القناة الأولى (18 فيلما، 5 مسلسلات، 6 سلسلات، 3 سيتكومات وتنشيط أكثر من 30 سهرة فكاهية). كما تميزت الفترة المتراوحة بين 1998 و2003 بإنجازه، كممثل ومخرج ومنتج منفذ، لسلسلة المسابقات “إلى قلعتي شنو”، التي كانت تبثها القناة الثانية مباشرة بعد حلقات سيتكوم “لالة فاطمة”، وقد بلغ عدد حلقاتها 96 مدة كل منها 10 دقائق صورت بالمغرب وفرنسا وبلجيكا وهولاندا وألمانيا وإسبانيا ومصر والسينغال.
ووقف سعد الله عزيز أمام كاميرا السينما في أول فيلم روائي طويل لحكيم نوري بعنوان “ساعي البريد” (1980) حيث تألق فيه بتمكنه وأدائه العفوي الصادق ونال إعجاب جمهور عريض بما فيه سينفيليو الأندية السينمائية في عصرها الذهبي. بعد هذا الفيلم شارك كممثل مع مخرجين آخرين في مجموعة من الأفلام السينمائية الروائية الطويلة وكان مقنعا فيها بشكل كبير، وهذه الأفلام هي تباعا “عنوان مؤقت” (1984) لمصطفى الدرقاوي و”بادس” (1988) لمحمد عبد الرحمان التازي و”عرس الآخرين” (1990) أول أفلام حسن بنجلون و”لقاء مع الإنجيل” (1994) للألماني هانس فيرنر شميت و”أبواب الليل السبعة” (1995) لمصطفى الدرقاوي و”رجلنا” (1996) للألماني فيرنر بار و”بيضاوة” (1998) لعبد القادر لقطع و”نامبر وان” (2008) لزكية الطاهري و”الطعم” (2010) لإيف سيمونو (بكندا). كما أخرج فيلما سينمائيا طويلا بعنوان “السيناريو” (2011) أو “زمن الإرهاب”، كتبه رفقة السيناريست علي أصمعي وشارك بمعية زوجته في بطولته إلى جانب ممثلات وممثلين آخرين. هذا بالإضافة إلى مشاركته كممثل في فيلم روائي متوسط الطول (33 دقيقة) بعنوان “مكتوب الجمعة” (1994) من إخراج محمد حسيني.
وكغيره من الممثلين والممثلات المغاربة شارك الفنان سعد الله عزيز وزوجته خديجة أسد باستوديوهات عين الشق بالدار البيضاء في دبلجة مجموعة من الأفلام إلى الدارجة المغربية، خصوصا الهندية منها، تحت إشراف الرائد إبراهيم السايح (1925- 2011)، حيث أعارا صوتيهما لبعض الممثلين والممثلات كما هو الشأن مثلا في الفيلم الشهير “الحب هو الحياة”، حيث نطق الممثل الهندي ريشي كابور بصوت سعد الله عزيز ونطقت حبيبته في الفيلم الممثلة الهندية نيتو سينغ بصوت خديجة أسد. هذا بالإضافة إلى أن سعد الله عزيز كان حينها بمثابة الذراع الأيمن للأستاذ السايح، كما أكد لنا ذلك الأستاذ محمد الحسيني، مدبلج الأفلام الهندية المعروف، وأقدم عاشق للموسيقى والأغاني الهندية بالمغرب.