في كل سنة عندما يحل يوم 10 دجنبر كيوم عالمي لحقوق الإنسان نحاول الوقوف عند المنجزات والمكتسبات التي تحققت في بلادنا، دون أن ننتبه إلى أن هناك حاجة إلى تقييم هذه المنجزات بقصد استخراج العبر من الحصيلة المحققة بغاية تحديد مسؤولية الجميع، وبهدف ضمان تحويل هذه المنجزات إلى واقع ملموس في مشروع بناء ثقافة حقوقية إنسانية ترتقي إلى مستوى الممارسات والسلوكات اليومية لفائدة الجميع.
لا أحد يجادل في أن النهوض بحقوق الإنسان وحمايتها في المغرب قد عرف تطورا ملحوظا، حيث تم إرساء أسس دولة القانون بفضل قرارات هامة وشجاعة تم اتخاذها في هذا المجال عبر مسار طويل خلال العقدين الماضيين، ومن خلال منهجية تصالحية لطي صفحة انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي وعبر إحداث هيئة الانصاف والمصالحة التي تعتبر تجربة نموذجية يقتدى بها في إفريقيا والعالم العربي.
وبفضل نهج الانفتاح السياسي، انضم المغرب للأغلبية العظمى للاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وصادق على عدة قوانين ونصوص تشريعية تعزز خيار المملكة الذي لا رجعة فيه لجعل احترام حقوق الإنسان والديمقراطية لا ينفصلان عن ثوابت الأمة: هذا المسار الذي توج في سنة 2011 باعتماد دستور جديد يكرس الحقوق والحريات والمساواة والمناصفة.
وخلال هاته المدة، تم وضع آليات ناجعة لترسيخ وتنزيل منظومة حقوق الإنسان الكونية مع الحرص على وضع أدوات تفعيلها وتنفيذها، وذلك من خلال الدور الذي يقوم به كل من البرلمان المغربي والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والمندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان، بجانب الدور الرائد الذي تلعبه مختلف منظمات وهيئات المجتمع المدني.
وعند استحضار المجهود الذي تقوم به المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان خلال السنوات الأخيرة في إعداد السياسات الحكومية في مجال حقوق الإنسان والحرص على ملائمتها مع القانون الدولي الإنساني وتطوير الحوار والتعاون وتقوية شراكة المملكة مع المنظمات الجهوية والدولية …. نتذكر دورها في إعداد التقارير الدورية، سواء المتعلقة بالاتفاقيات الدولية التي التزم بها المغرب أو تحضيرها لآلية الاستعراض الدوري الشامل والجواب على كل الملاحظات أمام اللجن الأممية المعنية بحقوق الإنسان.
كما يتعين الوقوف عند العمل الجاد والقوي الذي يقوم به المجلس الوطني لحقوق الإنسان كمؤسسة مستقلة تضطلع بمسؤولية الحكامة في مجال حقوق الإنسان سواء على مستوى إبداء الرأي أو الاقتراح أو إعداد التقارير أو المشاركة في بلورة الرأي، بالتعاون مع الهيئات والمؤسسات الأخرى، وخصوصا فيما يتعلق بالقضايا المجتمعية الحساسة، وما تضطلع به من أدوار في مجال النهوض بولاية حقوق الإنسان والارتقاء بها.
وفي هذا الإطار، بذل المجلس الوطني لحقوق الإنسان جهدا كبيرا في مواكبة إعمال مقتضيات الدستور الجديد للمملكة، لاسيما من خلال توقيع مذكرة تفاهم مع البرلمان وإصدار عدد لا يقل عن 12 رأيا استشاريا حول مشاريع قوانين متعلقة بحقوق الإنسان وإصدار عدد من المذكرات حول مؤسسات حقوق الإنسان التي نص الدستور على إحداثها. فكان لدوره هذا تأثير كبير وبارز على عمل البرلمان بغرفتيه، حيث تم الأخذ بما يزيد عن 30 % من الآراء والتوصيات التي تقدم بها إلى البرلمان في شأن مشاريع القوانين التي درسها المجلس خلال ولايته السابقة.
ولسنا هنا بحاجة إلى التذكير بتقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي قدمه السيد ادريس اليزمي أمام البرلمان، فكان موضوع مناقشة عميقة لما تضمنه من آراء وتوجيهات جريئة لها الفضل في توسيع النقاش المجتمعي وتعميقه حول قضايا حقوقية بقيت إلى حد الآن في خانة المسكوت عنه كـ (إلغاء عقوبة الإعدام – تعميق التفكير والاجتهاد في المساواة وعلاقته بالحقوق الإرثية – تنظيم قضية الإجهاض في إطار حقوقي كامل – قضايا الحرية الفردية المرتبطة بجرائم الجنس… وغيرها)
دون أن ننسى كذلك حصيلة المجلس عن عمل هيئة الإنصاف والمصالحة التي ما زالت توصياتها على طاولة الدرس والمناقشة لبلورة آليات تنفيذها في إطار منظومة حقوق الإنسان المتعارف عليها.
والمجلس الوطني لحقوق الإنسان كمؤسسة رسمية للنهوض بولاية حماية حقوق الإنسان في المغرب أصبحت تحتل مكانة مرموقة في منظومة المؤسسات الرسمية لحقوق الإنسان دوليا، وبالخصوص لما تصدت لمشروع زعزعة موقع المغرب في علاقته مع القضية الوطنية، حيث كانت واجهة حقوق الإنسان إحدى الواجهات التي يحاول خصوم الوحدة الترابية النفاذ منها للمس بسمعة المغرب.
فكانت المبادرة إلى خلق اللجن الجهوية لحقوق الانسان في الأقاليم الجنوبية إحدى الآليات المباشرة التي تصدت لهذا المخطط، حيث أصبح عدد من الفاعلين الدوليين في مجال حقوق الإنسان يشيدون في أكثر من مناسبة بمهنية وفعالية ومصداقية هاته اللجن، حيث أشادت منظمة «هيومن رايتس ووتش» في تقريرها الأخير باعتراف السلطات المغربية للمرة الأولى بمنظمة حقوقية يقودها أشخاص ينتقدون الدولة المغربية، وبمبادرة المغرب إلى منح وضع قانوني مؤقت لطالبي اللجوء المعترف بهم من طرف الأمم المتحدة وآلاف المهاجرين الباحثين عن فرص اقتصادية في انتظار إجراء مراجعة شاملة للقوانين بشأن اللجوء وإقامة الأجانب على التراب المغربي.
في هذه الأجواء، وجدت المؤسسة التشريعية (البرلمان) نفسها في وضع يمكنها من إعادة النظر في هيكلة دواليبها ومساطر اشتغالها حتى تقوم بأدوارها الكاملة، وبالخصوص في مجال تقييم السياسات العمومية للحكومة، حيث أصبح البرلمان المغربي يؤسس لقاعدة بناء أشغاله في مجال التشريع على مبادئ العدالة الاجتماعية باعتبارها في صلب وظائفه كمنصة صلبة، تجد مبادئ التنمية المستدامة والعدالة المناخية وإنصاف الأجيال داخلها مكانة قوية قادرة على توجيه وتأطير مشاريع القوانين ومقترحات القوانين. وما المنتدى البرلماني الذي نظمه مجلس المستشارين بداية فبراير 2016 حول موضوع العدالة الاجتماعية تحت شعار «تنمية الكرامة الإنسانية لتمكين العيش المشترك» والندوة التي يهيئ لها حول دور البرلمان في حماية وتعزيز منظومة حقوق الإنسان بداية شهر دجنبر الجاري إلا إحدى المؤشرات القوية في اتجاه جعل حقوق الإنسان مسؤولية الجميع.
وهذا المجهود يتناغم مع المستوى الرفيع الذي وصلت إليه مختلف أنشطة المجتمع المدني والمنظمات الغير الحكومية المهتمة بحقوق الإنسان، والتي أصبحت تتوفر على عدد كبير من الأطر والخبراء المختصين تتجلى خبرتهم في دقة التقارير الموازية التي يعدونها والحضور المكثف في كل التظاهرات سواء على مستوى البرلمان أو على مستوى اللقاءات الدولية ومستوى تفاعلهم مع كافة الآليات والميكانيزمات الدولية لمراقبة تفعيل وتنفيذ الاتفاقيات، بجانب المجهود الإقتراحي، وبالخصوص في مجال ملائمة القوانين الوطنية مع القانون الدولي.
والحاجة اليوم ملحة إلى تثمين كل هذه المكتسبات، في أفق تفعيل هذا التراكم الإيجابي من أجل بناء ثقافة حقوقية تتفاعل مع حاجيات المواطنين بشكل يومي وعلى امتداد أيام السنة. وأمام توفير كل هذه المكتسبات، يتعين لفت الانتباه إلى أن هناك أوراشا يجب تسريع مباشرتها في أفق متطلبات المستقبل.
فرغم التقدم الحاصل في مجال حقوق الإنسان وطنيا، فالتحديات كبيرة ومرتبطة أساسا بمطالب العدالة الاجتماعية وترسيخ العدالة الترابية التي تدعم الجهد التنموي المتكافئ والتوزيع العادل للثروات ومعالجة الاختلالات بين الوسطين القروي والحضري وبين الجهات الاقتصادية الغنية والفقيرة. كل هذا بجانب تعزيز الحق في التعبير السلمي والتجمع وتكوين الجمعيات…
وتظل الوضعية المقلقة لحجم انتشار العنف ضد النساء إحدى التحديات الكبرى للوضع الحقوقي ببلادنا، بجانب معالجة الوضعية الاعتبارية للمرأة وتحسين وضعية الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة من خلال اعتماد إطار تشريعي منسجم مع الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والتوصية العامة رقم 27 للجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة، بجانب تعزيز تطبيق كل النصوص والمراسيم المتعلقة بالمساواة في معاملة السجناء وعدم التمييز وعدم اللجوء للعنف وللمعاملة الحاطة من الكرامة… وتحسين المدارك الخاصة بوضعية النساء المسنات والنساء في وضعية إعاقة. كل هذا بجانب تبني مقاربة أفقية في مجموع السياسات القطاعية، وخصوصا في مجالات التربية والصحة والتشغيل …
وإذا كان ورش إصلاح منظومة العدالة قد انطلق مع بداية الولاية الحكومية السابقة، كمسلسل طموح بالنظر للأهمية المرحلية لهذا القطاع في دينامية الحفاظ على الحقوق والدفاع عن الحريات، فإنه لم ينته بصدور القوانين التنظيمية المتعلقة به، بل يحتاج إلى ورش ضخم لجعل الآليات التي توفرها القوانين التنظيمية تتسم بالنجاعة والجدوى في أفق تحقيق النزاهة والعدل وترسيخ مفهوم استقلال القضاء الضامن للحريات والحقوق. وهو ورش صعب وعميق يساءل الجميع: مواطنين ومنظمات مدنية وحكومة وبرلمانا…
وهذا ليس إلا نموذجا من الأوراش التي يتطلبها تنفيذ القوانين التي أتى بها الدستور الجديد، لأن تنفيذها السليم هو مفتاح ترسيخ ثقافة حقوقية تظهر ملامحها في واقع المجتمع. مما سيمكن من إعادة بناء الثقة والطمأنينة بين الأفراد والجماعات والمؤسسات.
وبجانب هاته الأوراش المفتوحة في مجال حقوق الإنسان وطنيا، فالتجويد والتفعيل يضع المغرب أمام تحديات يتعين رفعها، خاصة تلك المرتبطة بتعزيز الحقوق الثقافية والاجتماعية والبيئية. وهي تحديات لها صلة مباشرة بالتنمية المستدامة والمساواة الاقتصادية والعدالة المجالية، بجانب مراجعة النصوص المنظمة لحق تأسيس الجمعيات والتجمعات العمومية السلمية ووضع ضوابط لاستعمال القوة العمومية المفرط خلال المظاهرات إلى جانب إشكالية الإرهاب والهجرة والاتجار بالبشر… وهي كلها أوراش تتطلب المزيد من الجهود وتعبئة كل الآليات المشار إليها من حكومة وسلطات مختصة بقصد تعزيز المكتسبات المحصلة وسد الثغرات.
إن مشروع الاندماج الحقيقي والكامل لمنظومة حقوق الإنسان في حياة الناس هو الوحيد الضامن لسريان الجيل الجديد من حقوق الإنسان، والتي تتأسس على قاعدة العدالة الاجتماعية، وفي مقدمتها العدالة المناخية التي أصبحت من الأولويات بالنسبة لالتزامات المغرب الوطنية والدولية، وبالخصوص بعد انعقاد الدورة الثانية والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطار، بشأن تغير المناخ (كوب 22) بمراكش في الشهر الماضي. وهو ما يضع المغرب في ريادة الالتزام الدولي في مجال التنمية المستدامة والبيئة، ويتجسد بوضوح من خلال تحقيق مزيد من العدالة البيئية التي تضمن بصفة مستدامة حقوق الأجيال وتحقق الإنصاف بين متطلبات الحاضر والمستقبل.
نحن اليوم نحتفل باليوم العالمي لحقوق الإنسان تحت شعار المسؤولية، لأن مسؤولية احترام حقوق الإنسان تقع على عاتق جميع بني البشر، ويجب التأكيد على أهمية إنسانيتنا المشتركة، ومصيرنا المشترك، خصوصا ونحن اليوم نعيش بروز جيل جديد من حقوق الإنسان، ينادي بمزيد من العدالة الاجتماعية وبمزيد من العدالة الترابية التي تعتبر شرطا أساسيا لإنجاح مشروع الجهوية الموسعة المتقدمة، الذي يراهن عليه المغرب في تفعيل السياسات العمومية الجهوية، والتي تستجيب لمتطلبات تحقيق التنمية المستدامة وإنصاف الأجيال.
> بقلم : عبد اللطيف أعمو *
*محامي ونقيب سابق، عضو مجلس المستشارين، وعضو الديوان السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
في اليوم العالمي لحقوق الإنسان:دعونا نجدد التزامنا بتعزيز مكتسبات حقوق الإنسان كواقع يومي
الوسوم