في رحاب فكر عزيز بلال – الحلقة 10-

التنمية… ما لا تقوله الأرقام! 

عندما نتحدث عن التنمية، تتبادر إلى الأذهان مؤشرات اقتصادية باردة: نسب النمو، معدلات الاستثمار، أرقام الإنتاج… لكن هل تختزل هذه الأرقام حقيقة التنمية؟ ولماذا تفشل العديد من الدول، رغم الخطط والاستراتيجيات، في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي ومستدام؟ 

في قلب هذا الجدل، يبرز فكر عزيز بلال، الاقتصادي المغربي الذي لم ينظر إلى التنمية كمعادلة حسابية، بل كمشروع مجتمعي تحكمه تفاعلات اجتماعية، ثقافية، وأيديولوجية، لا تقل أهمية عن العوامل الاقتصادية. في كتابه “التنمية والعوامل غير الاقتصادية”، يقدم بلال طرحا نقديا لواقع التنمية في دول العالم الثالث، كاشفا عن الروابط الخفية بين الاقتصاد والسياسة، بين التراكم الرأسمالي والتبعية، وبين الصناعة والهيمنة التكنولوجية. 

عزيز بلال والتبعية الاقتصادية في المغرب الكبير

نواصل في هذه الحلقة قراءتنا في كتاب “التنمية والعوامل غير الاقتصادية” للمفكر الاقتصادي عزيز بلال، حيث نتناول تتمة الفصل الثالث التي تركز على نتائج الاندماج في الاقتصاد المتروبولتاني، وهو موضوع يتطلب الغوص في التفاصيل التي طرحها بلال حول تأثيرات الاستعمار على الاقتصاديات المغاربية.

الاندماج في الاقتصاد المتروبولتاني

يرى عزيز بلال أن توجه استثمار الرأسمال العمومي والخاص الذي جاء من المتروبول كان بمثابة الانطلاقة لنمو رأسمالي في بيئة كانت ما قبل رأسمالية، ومع ذلك، كان هذا النمو مشروطا بحاجيات المركز (المتروبول) وقرارات الشركات الكبرى التي تشكلت منه.

ويؤكد بلال أن الاقتصاديات المغاربية تم إدماجها في هذا النمو عبر ثلاثة مستويات أساسية: التجارة الخارجية، التدفقات المالية، وعملة النقد، مبرزا أنه قد ساهم هذا الإدماج في توجيه هذه الاقتصاديات نحو إنتاج المواد الأولية وتوسيع استعمال النقود.

غير أن هذا التقدم في استخدام النقد، كما يشير بلال، قد تم كبحه بسبب تطور الواردات التي كانت تعد بمثابة “هروب” من استثمارات ذات جدوى محلية.

كما يرى بلال أن السوق الفرنسية قد ساهمت بقوة في تسويق المنتجات الزراعية، وهو ما ساعد في تحويل الزراعة إلى قطاع رأسمالي، ومع ذلك، يوضح بلال أن هذا التحويل ظل مقتصرا على الاستعمار الزراعي الأجنبي وفئة محدودة من الملاكين العقاريين المحليين.

أما أرباح هذا التسويق حسب عزيز بلال فلم تشمل القطاع الزراعي بأكمله، الذي كان يعاني من مشاكل عديدة كالتفاوت في توزيع الأرض وضعف التشغيل، مما دفع العديد من الفلاحين إلى الهجرة إلى المدن أو إلى فرنسا.

التبعية الاقتصادية

يشير عزيز بلال إلى أن الاستيراد الكثيف للمواد المصنعة قد أدى إلى إفلاس الصناعة التقليدية وتعميق البطالة، مما ساهم في تضخم القطاع الثالث غير المنتج.

ووفقا لما يراه بلال، فإن هذا التضخم في القطاع الثالث، الذي يشمل التجارة الصغيرة والمهن البسيطة مثل الباعة المتجولين وماسحي الأحذية، كان نتيجة مباشرة للاعتماد المفرط على المنتجات المصنعة التي استوردت من المتروبول.

بناء على ذلك، يوضح بلال أن مستوى الأجور قد انخفض بشكل كبير، ما سمح بارتفاع ربحية الاستثمار الخاص، ولكنه في نفس الوقت أضعف من الاستقلالية الاقتصادية لهذه الدول، مبرزا أن هذه الوضعية أسهمت في ترسيخ تبعية هذه الاقتصاديات لأسواق المركز المتروبولتاني، مما جعلها في حالة استغلال دائمة لمنتوجات المواد الأولية التي تحتاج إليها الصناعات المتروبولتانية.

التحولات في بنية المجتمع المغاربي

فيما يتعلق بالتغيرات الاجتماعية، يؤكد عزيز بلال أن هناك اضطرابا عميقا في بنية المجتمع المغاربي بسبب هذه التحولات الاقتصادية، مشيرا إلى أن هذا التغيير الاجتماعي كان متأخرا في بعض الدول مثل المغرب الذي بدأ في التعرض للاستعمار منذ 1912.

يؤكد بلال أن هذا الاضطراب أدى إلى تعميق التمايز الطبقي في المجتمعات المغاربية، خاصة مع ظهور طبقة البروليتاريا العمالية في الحواضر والأرياف، وتطور الملكية الخاصة في المدن والقرى.

كما يشير عزيز بلال إلى أن الفئات الأكثر فقرا من الفلاحين أصبحت أقرب إلى البروليتاريا؛ بالإضافة إلى ذلك، ظهرت فئات جديدة مثل صغار الموظفين والمستخدمين في القطاعات العصرية والإدارة.

لكن بلال يوضح أيضا أن تطور الفئات المتوسطة والعليا من المجتمع المحلي كان محصورا بسبب الهيمنة الاستعمارية، التي كانت تراقب الأنشطة الرأسمالية في الفلاحة والصناعة والتجارة، وتسيطر على المناصب الإدارية والتقنية العليا.

هذا الواقع كان يعيق أي ارتقاء اجتماعي حقيقي للفئات المتوسطة المحلية، بل ويحول دون ولوجها إلى المناصب ذات التأثير في المجتمع.

التأثيرات على الحركات الوطنية

فيما يتعلق بالحركات الوطنية في المغرب الكبير، يشير بلال إلى أن التبعية الاقتصادية والسياسية التي فرضها الاستعمار ساهمت في بلورة أهداف حركات الاستقلال في مختلف البلدان المغاربية.

ويرى بلال أن هذه الحركات لم تركز بالضرورة على الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في بداية نضوجها، بل كانت مطالباتها تركز أساسا على استعادة السيادة الوطنية.

في المغرب، على سبيل المثال، شهدت البرجوازية الحضرية، بما في ذلك الطبقات البرجوازية التجارية والفلاحية، تطورا متباينا في استجابتها للنظام الاستعماري؛ بينما في الجزائر، كانت الفئات الأكثر فقرا من البرجوازية الصغيرة، التي كانت مرتبطة أكثر بالطبقات القروية، هي التي قادت حركة الاستقلال، وهو ما منحها طابعا راديكاليا مقارنة بالحركات الوطنية في باقي البلدان المغاربية.

وفي تونس، انتقلت قيادة الحركة الوطنية تدريجيا إلى البرجوازية الصغرى العصرية، التي طبعها تكوينها الغربي، وكان لها دور كبير في دعم أهداف بناء دولة عصرية.

الوحدة المغاربية

في هذه الحلقة، قدمنا قراءة شاملة لنتائج الاندماج في الاقتصاد المتروبولتاني، وفقا لرؤية المفكر عزيز بلال، حيث ناقشنا تأثيرات الاستعمار على الاقتصادات المغاربية، وخصائص التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي نشأت نتيجة لهذه الهيمنة.

وقد بين بلال كيف أسهمت التبعية الاقتصادية في تشكيل مجتمعات مغاربية تعاني من تمايز طبقي عميق، وكيف أن الحركات الوطنية، رغم صراعها ضد الاستعمار، لم تركز بشكل كاف على الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي كانت ضرورية لتطوير هذه المجتمعات.

في الحلقة القادمة، سنواصل قراءة كتاب “التنمية والعوامل غير الاقتصادية”، حيث سننتقل إلى الفصل الرابع الذي يركز على “الطبقات الاجتماعية وإشكالية التنمية الوطنية” في الدول المغاربية.

سنبدأ في تحليل الأبعاد العميقة لفشل محاولات الوحدة المغاربية ودور البورجوازيات المحلية في هذا السياق، بالإضافة إلى استكشاف التأثيرات السوسيو-اقتصادية على النمو الوطني في المغرب والجزائر. فما هو مآل التنمية الوطنية بعد الاستقلال السياسي؟ وكيف تشكلت الطبقات الاجتماعية في هذه المرحلة؟ سنبحث كل هذه الأسئلة في الحلقات القادمة.

عبد الصمد ادنيدن

Top