> سميرة الشناوي
خلف أسوار السجن المحلي عين السبع 2 بالدار البيضاء .. تقبع 377 امرأة .. 377 حياة وحكاية.. فالأرقام تصبح بلا معنى أمام كل قصة من قصص هؤلاء النساء اللواتي كانت كل منهن تعيش ظروفا مختلفة، ثم وجدن القدر يزج بهن في عالم مختلف هو عالم سجن النساء.. حيث يتوحد نظام حياتهن وتتشابه حركاتهن وسكناتهن.. تختلف ذكرياتهن وأحلامهن.. لكن يجمعهن حلم واحد .. هو انتظار ذلك اليوم الذي يعانقن فيه الحرية.. ويعدن إلى وتيرة حياة طبيعية.. أو غير طبيعية.. ما همهن في ذلك.. فكل الحياة- مهما كانت صعوباتها ومتاعبها- تصبح أجمل تحت سماء الحرية الرحبة..
شعرتُ شخصيا بنوع من الحرجوأنا أقتحم عليهن، منذ أيام، خلوتهن الاضطرارية.. رغم أن ذلك كان ضمن إطار مهمة صحفية “تضامنية واحتفائية”، في سياق إحياء يوم المرأة العالمي الذي يصادف 8 مارس من كل سنة.. لم يكن حرجا مهنيا.. بل كان حرجي من حرجهن وهن ينظرن إلي، وإلى زميلاتي الصحفيات الأخريات، بمزيج من الفضول والتوجس.. نظرتهن تختزل الكثير من الأسئلة ومن “الانكماش” الذي تولده معاناة سنوات أو أيام أو حتى ساعات من الانزواء خلف قضبان السجن وخلف ألم التجربة التي قادتهن إليه…
كثيرات منهن ظللن حبيسات معاناتهن وهن يومئن- إشارة وعبارة- برفض الحديث إلى هؤلاء الوافدات على جراحهن.. ينكأنها بأسئلتهن وإلحاحهن..
كانت إحداهن، وهي شابة في عقدها الثالث، أكثر جرأة وشجاعة عندما شرعت تمارس عليَّ دور صحفية متمرسة متسائلة: “لماذا أنتن هنا؟” أخبرتها أننا نساء مثلهن، نحاول أن نحتفي على طريقتنا بعيدنا العالمي.. نقتنص الفرصة لكي نقدم للعالم صورة عما تعيشه النساء.. حيث لا يتوقف عملهن وربما معاناتهن حتى في يوم عيدهن العالمي..
وهنا وجدتها تخاطبني بجرأتها- التي يبدو أنها بوأتها مكانة قيادية في محترف صناعة الزرابي حيث تتلقى تكوينا رفقة زميلاتها- قائلة: “نحن بصراحة لا نريد الحديث.. كل زميلاتي يلذن بالصمت.. تعلمين لماذا؟ لأننا لا نرى اهتماما من العالم الخارجي بأوضاعنا سوى في المناسبات”.
ابتسمت وأنا أتفهم غضبها وأوافقها على ملاحظتها.. أخبرتها أن هناك طلبات صحفية تقدم على مدار السنة لإدارة السجون من أجل إجراء روبورتاجات ومواد صحفية حول النزلاء والنزيلات.. ولكن للإدارة أسبابها- الوجيهة بنظرها- من أجل عدم تلبية كافة الطلبات، واختيار مناسبة 8 مارس للدعوة إلى زيارة منظمة كمثل تلك التي قمت بها وزميلاتي .. وأضفت أنه كان لزاما علينا كصحفيات ألا نفوت الفرصة من أجل الحضور والاستماع إليهن والتعرف على آمالهن وأحلامهن بمناسبة العيد العالمي للمرأة..
ومثل صحفية متمرسة أيضا.. لم تبدُ الشابة مقتنعة بكلامي، وبدا لي أنه بإمكانها الاسترسال في تساؤلاتها ومرافعتها طويلا لولا أن زميلة لها تدخلت قائلة بنبرة خجولة وصوت خافت لا يخلو مع ذلك من تصميم: ” في اليوم العالمي للمرأة.. أنا عندي أمنية واحدة.. أن أكون حرة ومعي كل هؤلاء النزيلات!”..
لخصت هذه العبارة كل الكلام واللقاءات والحوارات التي أجريناها مع النزيلات في سجن النساء ذلك اليوم.. فتيات في عمر الزهور ونساء جميلات مليئات بروح التفاؤل والتطلع لغد أفضل.. وحتى أولئك اللواتي حفرت المعاناة النفسية والجسدية أخاديد ألم وتجاعيد على محياهن.. كن جميعا يعبرن بصمتهن وحديثهن عن أمنية واحدة وأمل واحد: الحرية ! بعضهن اخترن الحديث عن أسباب دخولهن إلى السجن.. صراع تافه مع الجيران يفضي إلى حكم بالسجن على خلفية تهمة بالضرب والجرح.. رفقة سيئة وقصة حب أول تؤدي إلى إدانة فتاة بالكاد تتفتح على الحياة بتهمة تكوين عصابة إجرامية والمشاركة في الفساد .. حياة مترفة لزوجة مرفهة في بلاد المهجر تنتهي في الزنزانة بسبب شيكات بدون رصيد.. قصص كثيرة يجمعها ذلك الخيط الرفيع بين الخطإ والصواب.. بين البراءة والإدانة.. بين الحياة والموت.. بين سعة الحرية وضيق الزنزانة..
بعضهن الآخر اخترن الحديث عن حياتهن داخل السجن.. فهي ليست حياة بئيسة بالكامل.. رغم معاناة الأَسْر وفراق الأحبة.. طبيعة الأنثى المفعمة بالحياة وقوة العزيمة تجعلهن يتعاملن مع وضعهن بإيجابية كبيرة وتفاؤل قل نظيره عند كثير من النساء اللواتي يتمتعن بحريتهن وبكامل حقوقهن..
كان اليوم يوم جمعة.. يوم الزيارة حيث تفتح أبواب السجن لاستقبال من مازال يسأل عنهن ويذكرهن في “العالم الخارجي”.. فمنهن من نبذها الأهل والأحباب، ومنهن من تُنكر حتى عن أقرب أقربائها أنها موجودة في السجن..
كان اليوم جمعة.. في محترف التجميل ومحترف الحلاقة.. فتيات وشابات في كامل زينتهن وأناقتهن.. منهن من تصفف شهر زميلة لها بأنامل متمرسة.. ومنهن من تزين وجه أو أظافر أخرى.. اقتربت من إحداهن متسائلة: “هل تعلمين أن العالم يحتفي باليوم العالمي للمرأة وأن ذلك يشكل سببا وجيها لأخذ زينتكن؟ ما الذي يوحي به إليك يوم الثامن من مارس؟”.. نظرت إلي بعينين واسعتين بعد أن كانت مستغرقة في الاعتناء بيد إحدى رفيقاتها وأجابت: “لا أعرف.. كل ما أعرفه أنني أحب مهنة التجميل حيث تلقيت تكوينا قبل أن أدخل إلى السجن منذ عامين.. رفيقاتي يُقبلن بقوة على خدماتي في يوم الزيارة.. وأتمنى أن أتابع تكويني وأن أمارس هذه المهنة بعد خروجي من هنا إنشاء الله”.
ليست الوحيدة.. الحجرات المتعددة الخاصة بالتكوين المهني في مجالات الخياطة، التطريز، الحلاقة، التجميل، الفندقة وخدمة الحجرات، نسج الزرابي وغيرها – والتي تشرف على التكوين والتدريب فيها مؤطرات تابعات لقطاعات مختلفة على رأسها وزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية، ومؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء- تبدو مليئة عن آخرها بفتيات ونساء شغوفات.. يتلقين دروسا نظرية وعملية كما هو الشأن في معاهد التكوين بالضبط (في محترف الفندقة تتلقى الطالبات دروسا باللغتين العربية والفرنسية حول خدمة الحجرات).. يشغلن أوقاتهن وأناملهن بتطريز الأمل والجمال.. بصناعة الحياة حتى في أحلك الظروف.. وتلك طبيعة المرأة التي لا يمكن أن تتنازل عنها أبدا.. مهما كان الثمن..
في قاعة أخرى بمدخل المعقل.. كنا قد التقينا بمجموعة من النزيلات اللواتي وقع انتقاؤهن بعناية من أجل العمل ضمن مشروع طموح للتأطير بالعلاج النفسي تحت إشراف الدكتورة كاترين باروت، كلهن ذوات مستويات تعليمية عالية أو متوسطة.. يُراهن عليهن المشروع من أجل أن يصبحن مؤطرات بدورهن لباقي النزيلات في مجال العلاج النفسي عن طريق الرسم.
وفي جانب آخر مستقل عن أجنحة المعتقل.. تفتح دار الأمهات أبوابها للنساء المرفوقات بأطفالهن الرضع وحديثي الولادة.. هنا لم يسمح لنا بالتصوير.. فوضعية الأمهات والأطفال لها خصوصيتها أيضا.. الأطفال هنا يحظون بالرعاية اللازمة حسب سنهم، وعند بلوغهم سن التمدرس، في مرحلة الروض، يتم إدماجهم في رياض الأطفال القريبة من السجن. وفي مرحلة لاحقة يتم إلحاقهم بالمؤسسات المتخصصة أو بالجمعيات التي تعنى بالأطفال في وضعيتهم.
حادة بقاش، مديرة السجن المحلي للنساء، تعترف أن المعتقل ليس بالتأكيد “عالما ورديا” بالنسبة إلى النزيلات وأبنائهن.. إنه “مجتمع صغير بكل ما يعنيه ذلك من مشاكل ومعاناة وحتى صراعات أحيانا”.. ولكن، كما تقول هذه السيدة الحاصلة على دبلوم الدراسات العليا في علم النفس التربوي وإعادة تربية الجانحين، “ليس أمامي كمديرة سوى أن أعمل بكل إمكانياتي على تدبير الحياة اليومية في المعتقل.. علما أنني لا أشتغل وحدي بل هناك طاقم مهم للإشراف الاجتماعي، بمن فيهن المساعدات الاجتماعيات والأخصائية النفسية وطبيبة الطب العام، واخصائية طب الأسنان.. إضافة إلى موظفات الحي.. وغيرهن من المسؤولات..”
وتصف المديرة مهمتها والطاقم المشرف بأنها “سهل ممتنع.. فالنزيلات يأتين إلى المعتقل وهن يحملن ندوب معاناة كبيرة وغضبا وسخطا على الذات والمجتمع.. لذلك تتلخص مهمتنا في البدء في الاستماع إليهن ومحاولة استيعاب مشاعر غضبهن.. ولاحقا يكمن دورنا في محاولة إعادة تأهيلهن وتحضيرهن- بمرافقة المؤسسات المعنية- لعملية إعادة الإدماج في المجتمع بعد خروجهن من السجن”.
نفس الشيء تؤكده الطبيبات المتتبعات للنزيلات بالسجن المحلي: ” نحن نقوم بكثير من الاستماع للنزيلات.. فهن في حاجة كبيرة للإنصات لهمومهن وكذلك لتفهم حالات غضبهن وانفلاتهن أحيانا”.. هذا علما أن الأمراض كثيرة هنا أيضا، منها المزمنة ومنها الخطيرة ومنها العارضة.. وكل ذلك تتم معالجته بشكل يومي بتنسيق مع مصالح وزارة الصحة المختصة.
في نهاية زيارة استثنائية.. غادرتُ سجن النساء وأنا أفكر أنه مثل كل المجتمعات، يحتاج هذا المجتمع الصغير بالطبع إلى مزيد من العناية والاهتمام، من قبل جميع الأطراف المتدخلة، لتجاوز مشاكل الاكتظاظ ومحدودية الإمكانيات وتعزيز البرامج الإدماجية والتأهيلية، فضلا عن إعادة النظر في المنظومة القانونية المؤطرة للعدالة الجنائية بصفة عامة. ومثل كل النساء، تحتاج هؤلاء المعتقلات بدورهن إلى مزيد من تسليط الضوء على أوضاعهن ومعاناتهن، وإلى منحهن فرصة أخرى، في سائر الأيام وليس في 8 مارس فقط، من أجل إثبات قدراتهن في أن يكن الأفضل.. بكل ما في الكلمة من معان إيجابية..
في عيدهن العالمي.. نساء يحلمن بمعانقة الحرية
الوسوم