في مداخلة عبد اللطيف أوعمو بمجلس المستشارين: مشروع قانون المالية المعدل وثيقة تقنية خالية من حمولة سياسية ومن محتوى نوعي محفز

صادق مجلس المستشارين، في جلسة عمومية، الجمعة، بالأغلبية، على مشروع قانون المالية المعدل رقم 35.20 للسنة المالية 2020.
و تميزت مناقشات مشروع القانون المالي المعدل الذي حظي بموافقة 29 مستشارا ومعارضة 13 آخرين مع امتناع 4 مستشارين، بمداخلة المستشار عبد اللطيف أوعمو، باسم مستشاري حزب التقدم والاشتراكية بمجلس المستشارين، والتي أوضح فيها أن القانون المالي المعدل لم يأت بحلول، ويظل، بالتالي، مجرد وثيقة تقنية خالية من حمولة سياسية، ومن محتوى نوعي محفز على استشراف المستقبل بطمأنينة وبتطلع.
فيما يلي نص المداخلة.

السيد الوزير،
السيدات والسادة المستشارون،
يعتبر تعديل القانون المالي إجراءا استثنائيا، وهذا المشروع المعروض علينا هو الأول من نوعه منذ دخول القانون التنظيمي رقم 13.130 حيز التنفيذ سنة 2016، وقد سبقه قانون مالي معدل سنة 1990 زمن التقويم الهيكلي، لحاجة آنذاك لخفض ميزانية الدولة بنسبة 15 بالمائة.
وجاءت جائحة كورونا لتغير كل فرضيات النمو الاقتصادي، فكان من الضروري الحفاظ على التوازنات المالية للدولة. وهذا يقودنا إلى التساؤل : هل الحفاظ على التوازنات المالية هدف في حد ذاته، أم أنه فرصة للتأمل في كيفية إيجاد حل لإشكالية الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي عرت على كثير من المشاكل الاجتماعية، بالخصوص في قطاعات الصحة والتعليم والشغل؟
الجواب على هذا السؤال لا نجده ضمن محتويات مشروع قانون المالية التعديلي المعروض علينا. لذا، يتعين الإقرار بواجب الحفر في عمق الأنظمة الليبرالية التي يثبت يوما عن يوم أنها تقود العالم نحو المجهول.
فمشروع قانون المالية هذا، الذي نحن بصدد مناقشته، يطغى عليه الجانب التقني، وهو فاقد للنفحة السياسية القادرة على ضخ روح إبداعية تمكنه من التأقلم مع رهانات المستقبل التي فرضتها الجائحة التي أصابت العالم.
فرضيات تغيرت
أول الفرضيات : نسبة النمو وعجز الميزانية

كنا نتوقع نسبة نمو في حدود 3,7% في سنة 2020 ، وعجز للميزانية بنسبة 3.5%. اليوم، وبسبب جائحة كورونا، نحن نتحدث عن تراجع للاقتصاد المغربي ب ناقص 5 % وعجز للميزانية يصل إلى مستوى 7.5 % من الناتج الداخلي الإجمالي .

ثاني الفرضيات : توقع انخفاض إنتاج الحبوب .

كانت توقعات إنتاج هذه السنة من الحبوب تصل إلى 70 مليون قنطار، لكن من المتوقع أن ينخفض الإنتاج، بسبب استمرار الجفاف إلى مستوى 30 مليون قنطار فقط. مما سيؤدي حتما إلى تراجع القيمة المضافة للقطاع الفلاحي.
وفي نفس الوقت، نسجل إيجابا توقعات انخفاض أسعار الغاز. لكن، هل هذه الانخفاضات ستنعكس على قفة المواطن وعلى قدرته الشرائية؟ لأن المواطن غالبا ما لا يلمس بوضوح وقع خفض السلع الرئيسية على قدرته الشرائية.
السيد الوزير،
لقد تأثر الاقتصاد الوطني بشكل كبير من الأزمة. وتضررت قطاعات عديدة مثل السياحة، وصناعة النسيج، والصناعات الميكانيكية والمعدنية والكهربائية، وصناعة السيارات، وصناعة الطيران، وقطاع البناء والأشغال، وغيرها.
وفيما يخص الطلب على المنتجات المغربية، هناك تراجع بنسبة 20 % ، كما تراجعت عائدات السياحة بنسبة 70٪، وتراجعت في ذات الوقت تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج إلى – 26.3 % في شهر ماي الماضي.
وتراجعت كذلك الاستثمارات الخارجية في المغرب بنسبة تناهز 70%.
في ظل هذه الظروف، لا مناص من تركيز الجهود على “إنقاذ” الأداة الإنتاجية من خلال مصاحبة الاستئناف التدريجي للنشاط الاقتصادي.
السيد الوزير،
السيدات والسادة المستشارون،
مشروع قانون المالية التعديلي هذا، يذكر بالتدابير الحكومية المتخذة لمواجهة الجائحة، وضمنها الصندوق الخاص بتدبير الجائحة، الذي رصدت له ميزانية تقدر ب 33 مليار درهم ، تتضمن 3 مليار درهم لقطاع الصحة و 16 مليار درهم للمساعدات المالية، وضمنها التعويض الجزافي (2000 درهم) ، حيث استفاد 900 ألف أجير و 5.5 مليون أسرة من ميزانية قدرها 16 مليار درهم .
وأن تمديد إعانات هذا الصندوق إلى غاية نهاية السنة الحالية في إطار الدعم الاجتماعي والاقتصادي، نسجله بارتياح وبإيجاب.
لكن، هل ما كشفت عنه الجائحة من هول الفقر والهشاشة واتساع رقعة الحاجة في المجتمع، لم يكن معروفا أو متوقعا؟ وهل ستحظى الهوة الاجتماعية بمعالجة جريئة في ظل سياسة الحكومة ؟
إن انتظاراتنا من توجهات الحكومة في هذا الظرف بالذات، هو الإعلان عن إقرار سياسة انعاشية للاقتصاد politique de relance بدل الاكتفاء بإجراءات وتدابير لا تلامس عمق الأزمة المركبة التي يعاني منها اقتصاد البلاد.
ويبدو، أن الحكومة ميالة نحو سياسة تقشفية حذرة أكثر من توجهها نحو سياسة انعاشية للاقتصاد.
وذلك راجع، بدون شك، إلى أن مؤشرات مشروع قانون المالية 35.20 المعدل تشير إلى أن الاستثمار العمومي – الذي يشكل قاطرة لسياسة الانعاش الاقتصادي – سيتراجع.
فكنا نتوقع في مطلع سنة 2020 استثمارا عموميا في مستوى 198 مليار درهم ، فإذا به يتراجع إلى مستوى 182 مليار درهم، أي بانخفاض قدره 18 مليار درهم.
وهذا يصحح أرقاما تخص تعزيز دينامية الاستثمار العمومي، والتي تشير إلى ارتفاع من 78.2 مليار درهم (قانون المالية 2020) إلى 85.7 % (مشروع قانون المالية المعدل 2020) فاستثمار الميزانية العامة، سيرتفع عموما بنسبة 22%، لكن استثمار المؤسسات العمومية من جهته سوف يتراجع بنسبة 28 مليار درهم ( أي بنسبة 30 %).
كما أن استثمار الجماعات الترابية سوف يشهد تراجعا بنسبة 22 إلى 23 %.
فيما نفقات التسيير سوف تتراجع بنسبة 3 %، ليتأكد أن العديد من القطاعات الحكومية ستتراجع ميزانيتها، وعلى رأسها قطاع التعليم، الذي ستعرف ميزانيته تراجعا ب 5 مليار درهم، مقارنة بالسنة الماضية، وهذا ما نعتبره مظهرا من مظاهر التقشف الغير المفهوم، ولا ينسجم مع أولوية قطاع التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي .
كما كان متوقعا الرفع من ميزانية وزارة الصحة، وتعزيزها وتقويتها، إضافة إلى الاستثمارات الاستثنائية برسم الصندوق الخاص، والتي وصلت حسب التصريح الأخير لوزير الصحة بلجنة التعليم بمجلس المستشارين إلى مستوى 3 مليار درهم. لكنها ستبقى مستقرة، دون أن يطرأ عليها أي تغيير. وهذا لا ينسجم كذلك مع أهمية القطاع ومحوريته.
فلماذا إذن تم الميول إلى المسار التقشفي في قطاعات اجتماعية برهنت عن مكانتها وأهميتها خلال فترة الجائحة؟
إنه من المتوقع أن تتراجع موارد الدولة العادية بحوالي 43 مليار درهم. بحيث ستنتقل الموارد الجبائية من 257 إلى حوالي 220 مليار درهم، أي بتراجع 17 %. فكيف سيتم تمويل هذا التراجع في الموارد؟
بالتأكيد، سيتم تمويله بالرفع من المديونية. هذه المديونية التي سوف ترتفع من 97 مليار درهم إلى 136 مليار درهم، أي بنسبة 40 % ( أو ما يوازي 40 مليار درهم إضافية) يتم اللجوء لتغطيتها للاقتراض الداخلي في مستوى 10 مليار درهم وللدين الخارجي في حدود 30 مليار درهم .
وكان من المنتظر أن تصل نسبة المديونية الخارجية هذه السنة إلى 30 مليار درهم . لكننا سنصل إلى مستوى 60 مليار درهم (أي بمضاعفة المبلغ تقريبا).
فأين سياسة التوازنات الحقيقية في علاقة مشروع الميزانية بالتنمية وفتح آفاق مستقبلية؟
تحسين حكامة صناديق التمويل

السيد الوزير،
من الأشياء الايجابية التي نلمسها من مشروع قانون المالية التعديلي، الرفع من رسوم الاستيراد على بعض المواد المكتملة الصنع ب 20 إلى 30 % في بعض المواد، وبالنسبة لمواد أخرى قد يصل ارتفاع الرسوم إلى 30 – 40 %.
في هذا إشارة إلى الرغبة في تشجيع الصناعة الوطنية وتشجيع استهلاك المنتوج المحلي. وهو ما نعتبره إيجابيا.
وفي باب التدابير المتخذة، من خلال اعتماد منهجية وفق مرحلتين أساسيتين: مبنيتين على تقوية صمود الاقتصاد الوطني والحفاظ على مناصب الشغل من جهة ومواكبة القطاعات المتضررة لاستئناف النشاط الاقتصادي من جهة أخرى، فالملاحظ أن الدولة لن تبادر إلى تبني سياسة لإنعاش الاقتصاد الوطني، لكن يبدو أنها ستفوض الأمر للأبناك. فإلى حد ما سيكون مصير إنعاش اقتصادنا الوطني في يد الأبناك والمؤسسات المالية.
فلماذا لا يتم التفكير والمبادرة إلى إصلاح نظام حكامة عدد من المؤسسات المالية التي تتحكم فيها الدولة، كصندوق الإيداع والتدبير، وغيره ؟
ثم، لماذا لا يتم التفكير مليا في إصلاح عميق لنظام المقاولات، حتى تكون قاطرة فعلية وحقيقية للتنمية؟
وهذا يتضح من تخصيص 15 مليار درهم من أجل تسريع استعادة الاقتصاد الوطني لديناميته، وتخصيص 5 ملايير درهم، يتم تحويلها إلى صندوق الضمان المركزي، الذي سيقوم من جانبه بضمان القروض المقدمة للمقاولات والمؤسسات والشركات (ضمان أوكسجين) بنسبة 95 % بالنسبة للمقاولات برقم معاملات أقل من 10 مليون درهم ، ومن 80 إلى 90 %، بالنسبة للشركات التي يصل رقم معاملاتها إلى أكثر من 10 مليون درهم.
قد يكون من الايجابي إطلاق إصلاح مؤسساتي لـصندوق الضمان المركزي، بتعديل القانون المؤطر له وملائمته مع الممارسات المثلى، مع تحسين حكامة الصندوق وتحديث التدبير المالي لالتزاماته وتكييف هيئاته الإدارية التدبيرية والرقابية. وهو ما يعني تغيير نظامه المؤسساتي من مؤسسة عمومية إلى شركة مساهمة. فهل سيشكل هذا دفعة قوية لتقوية الاقتصاد الوطني، في انتظار تدابير تحفيزية أخرى لتشجيع الصناعة الوطنية، والتي قد تأتي لاحقا؟
وهل من الإيجابي تفويض تدبير سياسة إنعاش الاقتصاد للمؤسسات المالية، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بدعم من صندوق الضمان المركزي، دون إصلاح نظام هذه المؤسسات وتحسين حكامتها؟

الاهتمام بالفئات الهشة اقتصاديا واجتماعيا

السيد الوزير،
إن الحكومة تتهيئ لنهج مسار يقوم على أقل قدر من المخاطرة ومحاصرة المخاطر في حدودها الدنيا، بالحرص على الحفاظ على عجز الميزانية في مستوياته الدنيا بــ 7.5 %، على عكس دول أخرى، وصلت فيها نسبة العجز في الميزانية ما بين 10 و 11 % معتمدة نهج المغامرة الحقيقية لإنعاش الاقتصاد.. مهما كلف الأمر ! وهذا ما يبين أن المغرب اختار نهج الاقتصاد الحذر في مرحلة أزمة كورونا، وما بعدها، توقعا لمضاعفات مستقبلية، قد تكون أشد وأقسى.
وهنا لا بد من إثارة بعض الملاحظات الرئيسية بخصوص الإجراءات الحكومية، وارتباط قانون المالية بالمعطى السياسي والاجتماعي.

الملاحظة الأولى: تتعلق بالفئات الهشة
والضعيفة من المجتمع

إن الإجراءات التي تم إقرارها من طرف الحكومة، ترمي أساسا إلى التخفيف من حدة الأزمة على القطاع الخاص وعلى الطبقات المتوسطة والفقيرة.
ومهما كان حجم المساعدات المالية التي تم تقديمها لهذه الفئات، فهي لن تكون كافية لإعالة نفسها في هذا الظرف الصعب. لكون الخلل الكبير القائم، يكمن في الخلل البنيوي التقليدي في التوازن الذي يزداد تعقيدا وحدة بين أقلية من المقاولات والشركات الكبرى، صاحبة التأثير على القرار السياسي والمالي والنسيج الغالب من المقاولات الصغيرة والمتوسطة والصغيرة جدا، والتي تكون أزيد من 90 %من النسيج الاقتصادي الوطني، وبين أقلية مستحوذة على أزيد من 95 % من ثروات البلاد).
ونخشى أن لا تكون الاستفادة من المساعدات المالية عادلة ومنصفة. ونخشى أن يتم تجميد النفقات الموجهة للتنمية، وتعبئتها وتحويلها لتغطية نفقات مجابهة جائحة كورونا.
فنحن نتحدث هنا عن 900 ألف أجير مصرح به في الضمان الاجتماعي، وعن 5.5 مليون أسرة عاملة في القطاع غير المهيكل (45 % منها بالعالم القروي) نسبة هامة منهم توجد في زاوية رمادية إلى سوداء، لا نملك معطيات عنها، وكلها فقدت مورد رزقها، وتعول على إعانات من الدولة.
في الحقيقة، هذه المبالغ المخصصة للدعم لا تأخذ بعين الاعتبار الظرفية الاقتصادية التي نعيشها منذ سنوات، والتي تتسم بارتفاع أسعار المواد الغذائية وظروف ما بين عيدي الفطر والأضحى، في عز العطلة الصيفية، والتي تنتهي بالدخول المدرسي. وما تسببه كل هذه المحطات من إرهاق لجيوب الأسر المغربية.
الملاحظة الثانية: تتعلق بالعدالة الترابية

تعتبر العدالة المجالية مدخلا أساسيا لإحقاق العدالة الإجتماعية، لما تضمنه من توزيع متوازن ومتكافئ للتقسيم الترابي، وللإستثمار والاستفادة المتوازنة من موارد الدولة، ومن دعمها .
وجدير بالذكر الأهمية المركزية للعدالة الإجتماعية في ترسيـخ الديموقراطية ودولة القانون وتحقيق الأمن والاستقرار والاطمئنان،
ونخشى أن تساهم مركزية القرار الإداري والسياسي واعتماد القطاع البنكي والمالي لنفس المنهج المركزي، في عرقلة تسريع الاستفادة من الدعم، وفي حرمان الجهات الأخرى البعيدة عن المركز من المبالغ المخصصة له، سواء منها الموجهة للقطاع الخاص أو للطبقات المتوسطة والفقيرة، وألا يخضع الدعم لتوزيع عادل تؤخذ فيه المقاربة الترابية بعين الاعتبار.

الملاحظة الثالثة: تتعلق بعدم دقة البيانات
المرتبطة بالدعم

فسواء تعلق الأمر بالمساعدات المالية المقدمة للأسر أو للأجراء أو للمقاولات المتضررة، فالملاحظ أن هناك تخبطا لإدارة الدولة في غياب منهجية شاملة وعادلة لجمع بيانات حقيقية حول السكان وحول الحاجيات المادية الحقيقية والوضع المعيشي للمواطنين، خصوصا في المناطق الجبلية والقروية، وفي هوامش المدن، وفي القطاعات الغير المهيكلة…
ولا شك أن هذه الجائحة ستكشف لنا فوضى في الأرقام في غياب قواعد بيانات دقيقة ومحينة، وتبين لنا عدم قدرة مؤسسات الدولة على تحديد الأشخاص الذين لهم الحق في الانتفاع من مساعدات الدولة الاجتماعية بشكل دقيق ، وإخضاعها لمعايير منهجية.
كما نلاحظ عجزا وقصورا في إدارة عمليات صرف تلك المساعدات، وخصوصا في المجال القروي.
فهذه الأزمة أبانت بشكل جلي بأن توحيد خاصيات الأسر المغربية صار ضرورة ملحة، حتى في العلاقة بالإصلاحات المؤجلة، التي يجب على الحكومة أن تقدم عليها، على غرار إصلاح صناديق الدعم، لكي يصبح الدعم العمومي موجها بالفعل إلى مستحقيه دون غيرهم، وذلك عبر اعتماد قاعدة بيانات حقيقية ومحينة، تسير وتدبر بمفاهيم الهندسة الاجتماعية. لكن، لا نرى لهذا الحرص مكانا في مشروع قانون المالية التعديلي 35.20 هذا.

الملاحظة الرابعة: تتعلق بالإجراءات المتخذة للتخفيف من الانعكاسات الآنية على شركات القطاع الخاص

لقد اتخذت الحكومة تدابير لتمويل متطلبات رأس المال المتداول، مع اعتماد ضمان أوكسجين، الذي خصص له مبلغ إجمالي يفوق 17 مليار درهم، يستهدف ما يفوق 45 ألف مقاولة.
ويبدو أن المقاولات الصغرى والمتوسطة والصغيرة جدا هي من أكبر المشغلين على المستوى الوطني، لكن قدرتها على تحمل آثار الحجر الصحي العام محدودة، وأن قدرتها على الحفاظ على توازناتها المالية وعلى استمراريتها ضعيفة. مما يستدعي اهتماما خاصا، مع الحاجة إلى تحديد القطاعات ذات الأولوية والأكثر حاجة للدعم في مرحلة ما بعد تجاوز الأزمة الصحية.
ومن المؤسف أننا لم نعد نسمع عن هيكلة المقاولة ودفعها إلى تعزيز مسؤوليتها الاجتماعية والبيئية، والتحفيز على الاستثمار المستمر في مشروع المقاولة، ولم يعد هناك حديث عن إشراك الأجراء في رأسمال المقاولة.

الملاحظة الخامسة: تتعلق بالبعد البيئي للأزمة

نسجل بأسف شديد عدم الإشارة إلى الإشكاليات البيئية المرتبطة بالجائحة وما بعدها. فقضايا الانتقال الإيكولوجي والاقتصاد الأخضر تشغل بال المواطنين وطنيا، وتحظى باهتمام دولي متزايد. ولا مناص من الانتباه أكثر، وبجدية أكبر للرهانات البيئية المطروحة، لارتباطها أساسا بتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول 2030.
وتقرير السيد وزير المالية يشير إلى ضرورة توجيه الذكاء الجماعي لكل الفاعلين، بما في ذلك الحكومة والبرلمان والجماعات الترابية، نحو استخلاص العبر وتغليب المصلحة العليا للوطن (…) بتجاوز الآثار السلبية، ليس فقط لأزمة الجائحة، ولكن للمشكلات البنيوية العميقة للإقتصاد المغربي، وضمنها الإشكاليات البيئية الكبرى. لكن مشروع قانون المالية المعدل لا يتضمن في الحقيقة ما يمكن اعتماده مسايرا لما جاء في تقريره.

الملاحظة السادسة: تتعلق بالتشغيل

يبدو موقع التشغيل في المشروع رهانا هامشيا، ولا يرقى بهذا إلى مستوى الطموح المشروع في جعل الحفاظ على مناصب الشغل، وإحداث مناصب جديدة، من مقومات النجاح الأساسية. كما أن الإعلان عن نوايا في المشروع بضمان تأقلم العجلة الاقتصادية مع رهانات تشغيلية جديدة، وفي مجالات جديدة، لا يبدو منسجما مع حاجيات المرحلة، ومع التدابير المعلن عنها.
فلا نجد في المشروع انشغالا بمصير القادمين الجدد إلى سوق الشغل؟ وبمصير حاملي الشهادات الجدد؟ وماذا تقترحه عليهم الحكومة كحلول وكبدائل؟
كما أن مصاحبة الاستئناف التدريجي للنشاط الاقتصادي عبر تعبئة غلاف مالي بقيمة 15 مليار درهم لفائدة المقاولات على شكل تمويلات بأسعار تفضيلية أو تسهيلات جمركية أو دعم المعدات، ممنوحة للمقاولات مشروطة بالحفاظ على ما لا يقل عن 80 ٪ من الشغيلة المصرح بها لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والتسوية السريعة لوضعية الشغيلة الغير مصرح بها لدى الصندوق.
فهل هذا يعني منح ترخيص مفتوح للمقاولة بإمكانية تسريح 20% من مناصب الشغل للمقاولات؟ وفي هذا مخالفة لمقتضيات مدونة الشغل.
على من سيقع العبء الأساسي للأزمة؟

السيد الوزير،
لقد تمت تعبئة موارد ضخمة واستثنائية وغير مبرمجة لمواجهة هذا الظرف المتأزم. ولا بد أن يؤدي أحد تكاليف هذا الجهد العمومي . فكيف ستلبي الحكومة هذه الاحتياجات المالية؟ وعلى عاتق من سيقع العبء الأساسي للأزمة؟
وما هي الخيارات المطروحة أمام الحكومة؟ وهل هناك من خيارات أخرى متاحة، غير مزيد من الدين الداخلي والخارجي؟
بالتأكيد، لا يوجد اليوم، وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية، علاج لجائحة كورونا، سوى إذكاء روح التضامن. وهو ما أبانت عنه كل مكونات الشعب المغربي، بمساهمة أكثر من مليوني مساهم في مواجهة أزمة كوفيد 19 وإدارة الآثار الاجتماعية والاقتصادية لهذه الأزمة.
ولكن، يجب أن تعطينا جائحة كورونا درسا في هذا المجال، لنتجنب مستقبلا الخطاب الاعتيادي المرتكز على خطاب التسول والاتكال على القدرية والتضامن القائم على الاستجداء واعتصار وخنق الطبقة الوسطى، وطلب عطف أصحاب الثروات، … إلى إيجاد آليات حقيقية لإعادة صياغة علاقة الدولة بالمجتمع ، وعلاقة الأفراد فيما بينهم.
وهو ما يعطي للعدالة الضريبية كنهها، ويعطي للإصلاح الجبائي الحقيقي أسمى مقاصده.
وهنا يحق طرح الخيارات المتاحة: كالضريبة على الثروة وفرض ضريبة على ما يوصف بـ”الثروة النائمة”، بإقرار ضريبة على العقارات، حيث أوصى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مؤخرا، بوضع إطار للضريبة على الذمة المالية يكون أكثر عدلاً وإنصافاً .
مما يفرض توفر الدولة على قاعدة بيانات كاملة ودقيقة حول ملاك العقارات، تفاديا لأن يصبح القطاع ملاذا لتبييض الأموال والتهرب الضريبي.
كما أن القيام بإصلاح جبائي حقيقي هو الأداة الأساسية لبناء علاقة متوازنة بين مختلف مكونات المجتمع، لضمان حد أدنى من العدالة الاجتماعية، ولتعبئة موارد الدولة لإدارة المجتمع، وتلبية حاجياته من بنيات أساسية، وتعبئة اجتماعية ممأسسة. وهو ما يسمح في النهاية بإيجاد تضامن مجتمعي حقيقي. فأمامنا اليوم، فرصة لإصلاح جبائي حقيقي بفلسفة وطنية تضامنية.
لذلك، فكلما أسرعت الحكومة في اتخاذ تدابير شجاعة في الطريق الصحيح، كلما كان بمقدورنا الحد من آثار هذه الجائحة على الاقتصاد والمجتمع.
فبغض النظر عن هذين الخيارين الأساسيين لتعبئة الموارد، فخيار المديونية، كلفته الأساسية ستقع على عاتق الطبقات الوسطى والفقيرة، وعلى عاتق الأجيال القادمة، لأنه حتما، سيتم اعتماد إجراءات تقشفية لإدارة الدين، واعتماد إجراءات جبائية لضمان توزيع الكلفة المالية للأزمة الصحية على الجميع.
فنحن إذن أمام خيارات سياسية، وليست تقنية محضة. وهي مرتبطة أساسا بأي مجتمع نريد؟ وأي علاقة بين الدولة والمجتمع نريد؟ وعن أي نموذج تنموي نتحدث؟ وهل سنسلك مسلك الدولة الراعية المحتضنة لجميع مواطنيها، أم سنستمر في مسار الطرح النيوليبرالي حول انكماش الدولة وانسحابها من دورها الاجتماعي في مختلف المجالات، وتهيئة البنى لصالح القطاع الخاص؟
لقد أظهرت جائحة كورونا بجلاء الضرر الناجم عن انكماش الدولة وتراجعها في مختلف القطاعات الاجتماعية والاقتصادية. فهل سيعيد مغرب ما بعد كورونا نفس خيارات ما قبل الجائحة؟ أم أن هناك أمل في إعادة النظر في مساره التنموي؟
السيد الوزير،
لقد تم التعامل مع جائحة كوفيد 19، بما لها وما عليها بتوظيف الإمكانيات المتاحة، وهي إمكانيات ضئيلة ومحدودة.
وتقرير السيد وزير المالية يقر بأن هذه المرحلة الجديدة التي نصبو إليها هي مرحلة تثمين دروس الأزمة (…) واستخلاص العبر لتجاوز الآثار السلبية، ليس فقط لأزمة الجائحة، ولكن للمشكلات البنيوية العميقة للإقتصاد المغربي.
ومن جملة الآثار، البحث عن مكامن القوة في القدرات الوطنية (البشرية والطبيعية… وغيرها) وكذلك على مستوى إبراز وإظهار السيرة الذاتية (C.V) للمغرب، والذي تحسنت صورته خلال العقود الأخيرة.
كما يتعين تقييم المسار الذي على المغرب السير فيه في علاقاته الدولية، وعليه أن يأخذ العبرة من الجائحة لإعادة خلط أوراقه، في أجواء تشتتت فيها وتبخرت العديد من الشراكات، وعلينا أن نقرر كيف نتعامل مع المستقبل.
إن تقييم أداء المؤسسات الاقتصادية وعلاقة الإنتاج داخل الاقتصاد المغربي في ظل الجائحة يشير إلى نظام ريعي (يميل نحو الاستفادة من خدمات الدولة ومن تسهيلاتها– التهرب الضريبي، …) يسود فيه التنصل من المسؤولية الاجتماعية، ويغلب عليه طابع الاحتماء بالسلطة .
وأكبر دليل عن هذا الانهيار القيمي، هرولة العديد من الشركات، مع بداية الجائحة، ومنذ 16 مارس ، نحو الاستسلام jeter l’éponge ، والانسحاب من الميدان، والارتماء في أحضان الدولة واستجداء دعمها، رغم أن مناعتها قد تمكنها من تحمل الضغوط لمدة أطول. وأن مرحلة ما بعد الأزمة الصحية، ستجعلنا نمر بأزمة اقتصادية حادة، خصوصا وأن العالم مقبل على مرحلة من الكساد الاقتصادي، الذي ستكون آثاره أشد ضراوة على بلادنا، بحكم ارتباطها بشكل كبير بشركائنا الأوروبيين، الذين يعانون بقسوة من تداعيات الأزمة. وسنحتاج لا محالة لمقاولات مواطنة ومسؤولة. ومؤشرات غياب هذا العنصر يشكل مؤشرا خطيرا .
وأن تخطي أزمة كوفيد 19 من طرف بلادنا رهين بقدرتها على رفع رهانات داخلية وخارجية كبرى، ومن ضمنها القدرة الذاتية على مواجهة الأزمة، من خلال فعالية وحسن تقدير وتوجيه الجهد العمومي نحو محاصرة الداء والنهوض بجاهزية المنظومة الصحية للتجاوب مع مختلف الأزمات والجوائح مستقبلا، والحد من الأضرار على النسيج الاقتصادي وفعالية القيود المفروضة على التنقل والحركة خلال المرحلة الوبائية. وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع المديونية العمومية كضمانة عمومية لمواجهة النكبات.
كما أن التعافي من الأزمة رهين بالقدرة على مواجهة الصدمات الخارجية جراء تراجع الصادرات وانكماش تحويلات الجالية المقيمة بالخارج وانهيار القطاع السياحي… وغيره . ولا مناص من بناء اقتصاد قوي قادر على تحمل الهزات والارتجاجات.
هذا بجانب قدرة قطاع الإنتاج والتشغيل وطنيا على التأقلم السريع مع الوضع الجديد، وحسن التكيف مع ظروف عمل ومع أنماط استهلاكية جديدة. وهو ما يقتضي القدرة على التأقلم والتحفيز على الإبداع.
فبدون عمق سياسي، وبدون سياسة تضامنية وحمائية، وبدون تطلع إلى المستقبل برؤى سياسية واضحة، لا يمكن إسعاد المواطن أو جعل الاقتصاد أقل تدميرا لمحيطه ولمجاله.
كما أن فتح أفق واعد لن يتم بدون إشراك المجتمع في تحقيق أهداف تنموية حقيقية .
وأن هاته الوثيقة المالية التي هي بين أيدينا تشكو من كل هذه العلل، لأنها وثيقة تقنية خالية من حمولة سياسية، ومن محتوى نوعي محفز على استشراف المستقبل بطمأنينة وبتطلع.
وأملنا أن يكون مشروع ميزانية 2021 قادرا على خلق الأمل وتجاوز التخوفات وتعزيز التحفيز على السير بثبات بدل الانكماش والمغالاة في الحذر المفرط.

Related posts

Top