قضايا المنهج في الأدب المقارن

“القراءةُ مقارَنة”

جورج سْتينر

 نظمت (الجمعية المغربية للأدب المقارن) خلال يومي 12 و13 دجنبر 2017، برحاب كلية الآداب بأكادير، ندوة وطنية في موضوع: (قضايا المنهج في الأدب المقارن). ومعلوم أن قضية المنهج في الدرس المقارن تحتل مكانة محورية لما لها من تأثير كبير في تصور منطلقات المقارنة وأسسها والغايات المنشودة منها. ويرقى الاهتمام بالمنهج إلى البدايات الأولى لهذا الدرس. فقد ساهم منظِّرو الأدب المقارن في وضع تصورات ومناهج وطرائق مختلفة من حيث منطلقاتها وخلفياتها النقدية والمعرفية. ولمّا كان المنهج ضرورة لا غنى عنها في أي مقاربة علمية كيفما كانت طبيعتها، فإن قضية المنهج تُثار بقوة في المقارنة الأدبية، وتثير عددا لا حصر له من القضايا والإشكالات المتداخلة والمعقدة، بعضُها يكتسي طابعا إبِّستمولوجيا يبحث في الأسس المعرفية التي ترتكز عليها المقارنة، وبعضها الآخر يكتسي طابعا منهجيا يبحث في طرائق المقارنة الأدبية ومناهجها وكيفياتها وأنماطها وأشكالها المختلفة. وقد سادت في حقل الأدب المقارن نظريات مختلفة مثلتها المدرسة الفرنسية والمدرسة الأمريكية والمدرسة السلافية والمدرسة العربية وغيرها.. وقامت بينها معارك سجالية تتصل بمنهج المقارنة وصورها في الأدب، أسْفَرت عن اختلافات في المنهجية وعن رؤى متباينة (كالنقد الحاد لرونيه ويليك للمدرسة الفرنسية مثلا، وهو ما عُرِف بأزمة الأدب المقارن) يمكن صوغها في جملة من الأسئلة الهامة:

 ما هي مجالات المقارنة الأدبية؟ وهل تقوم المقارنة الأدبية على مجرد المقارنة والتوازي بين الآداب الوطنية فيما بينها؟ هل من الممكن بناء تصور واحد للمقارنة الأدبية ينطبق على جميع الآداب؟ هل في وسع الأدب المقارن وضع منهج خاص للمقارنة يختلف عن مناهج النقد الأدبي وتاريخ الأدب والدراسة الأدبية؟ أم أنه لا غنى له عن الاستفادة من حقول أخرى لبناء موضوعه، واجتراح منهج مسقلٍّ به؟ ما هي المعايير والمقاييس والأسس التي يعتمدها الباحث المقارن في بناء المقارنة بين أدبين معينين؟ هل تتحدد المقارنة الأدبية برصد مصادر التأثيرات الأدبية والفنية والفكرية في كل أدب وطني؟ وكيف تُحدد أوجه التأثير والتأثر وأوجه التشابه والاختلاف بين أدبين؟ ما الفرق بين التصورات التقليدية في مناهج المقارنة الأدبية الكلاسيكية ومناهج المقارنة كما تبدّت في البدائل المنهجية الجديدة في مدراس الأدب المقارن الحديثة؟ 

هذا غيض من فيض الأسئلة التي تواجه الباحث المقارن في حقل الآداب. وقد حاول ثُلَّة من الأساتذة الباحثين والطلبة الباحثين في سلك الدكتوراه تطارحها من خلال تنظيم يومين دراسيين، مدارهما حول محاور:

ــ اﻷسس المعرفية للمقارنة اﻷدبية.

ــ طرائق المقارنة اﻷدبية و مناهجها.

ــ مدارس الأدب المقارن وقضايا المنهج.

    ــ  من اﻷدب المقارن إلى الإنسانيات المقارنة.

ــ الدراسات الترجمية واﻷدب المقارن.

ــ النقد المقارن: الديداكتيك وتعدد التخصصات.

ــ اﻷدب المقارن المناهج المعتمدة و النماذج المنتقدة.

ــ تجارب منهجية في الأدب المقارن.

 وموازاة مع تنظيم هذين اليومين كان لنا شرف إلقاء المحاضرة الافتتاحية حول موضوع: (الأدب المقارن في أفق الألفية الثالثة: في الحاجة إلى تجديد الإشكاليات والمناهج). نبّهْنا فيها في البداية إلى أن الأدب المقارن مبحث يعيش بإعادة صياغة نفسه. وهذا ما يمكن التوصل إليه من خلال إشكال التسمية الذي ظل ملازما لمبحث “الأدب المقارن” وقضاياه ومقتضياته المنهجية. وبحكم هويته القُلَّب، تَقلَّب هو الآخر على الدوام في تحديد الموضوع والمنهج. فمنذ صدور المقال الشهير لفيرنان بالدنسبّيرغر: “الأدب المقارن: الكلمة والشيء”، والدرس يعيد النظر في موضوعه ومنهجه وحدود استقلاله. والغريب أن من انتبه إلى مصطلح “أزمة الأدب المقارن”، الوارد في مداخلة روني ويليك بتشابّل هيل، وبعدها مداخلة روني إيتيامل بالعنوان نفسه، لم ينتبه إلى أن بلدنسبّيرغر في بواكير هذا الدرس أورد مصطلح “أزمة”، الذي لازمه، إلى حد أنه أصبح من خصائصه الموضوعية والمنهجية. ولذلك تناولنا الإشكال في ضوء المحطات التالية:

1 ـ من إشكالية التحديد إلى تحديد الإشكاليات:

أ ـ إشكالية تحديد الأدب المقارن: الكلمة والشيء.

ب ـ تحديد الإشكاليات: إشكالية توسيم أم معضلة منهج.

ج ـ مدارس أم اتجاهات…؟

2 ـ الأدب المقارن على الطريقة الفرنسية: من النهج المدرسي إلى الانفتاح المنهجي.

3 ـ الأدب المقارن على الطريقة الأمريكية: مقارنة اللامقارن؛ تجديد المنهج؛ من العقلية المدرسية إلى روح التوافق؛ أفق المقارنية بعيدا عن وهم الثوابت؛ نحو مفهوم تشاركي للثقافة.

4 ـ الأدب المقارن على الطريقة السلافية والإسبانية والعربية.

5 ـ آفاق مقارنية من منظور غربي وسْلافي وعربي.

6 ـ نحو تجديد التعريف باعتباره ضرورة منهجية ومعرفية وأَنَسية.

7 ـ نحو عالمية جديدة حقّة تمجِّد الأدب والإنسان والقِيم وتعدد المعارف.

8 ـ هوية المقارَنة ـ هوية المقارِن: الفهم النَّسَقي ضدًّا على المركزية الغربية؛ الأدب الرقمي أفقًا للمقارنية الجديدة.

 بعد ذلك تناول الأستاذ سليمان بحّاري موضوع: (المقاربة المقارنة عند محمد مفتاح)، الذي جاء في سياق الاقتناع بمركزية فعل المقارنة للبحث الأدبي، ودوره في اكتشاف العلاقات والاختلافات والأسباب الخفية. وعلى الرغم من أن مفتاح لم يتخصص في الأدب المقارن إلا أن اطِّلاعه الواسع على الثقافتين العربية والغربية ومواكبته للمناهج المعاصرة، جعله يمتلك تصورا نظريا ومعرفيا له قيمته العلمية. وتحضر المقارنة في هذا التصور بشكل لافت، بحيث لا يخلو كتاب من كتبه المتعددة من استثمارها بأوجه متعددة.

 ثم تناول الأستاذ العربي قاسي موضوع: (قضايا المنهج عند المدرسة السّْلافية:  أدريان مارينو نموذجا)، بيَّن فيه كيف سعى رواد المدرسة السّْلافية للأدب المقارن ـ وفي طليعتهم الروماني أدريان مارينو ـ إلى إنشاء نظرية أدبية، بل “شعرية مقارِنة” موضوعها “الأدب العالمي”، أي “الأدب” لا غير. وتنطلق هذه الشعرية من أسس جديدة، وتعمل بمناهج وأدوات “مقارنية” دقيقة، مستلهمة من رحم الإرث المقارني نفسه، ومستثمرة لمسلماته الأساسية التي حُدِّدت من داخله بشكل هيرمينوطيقي بحت. ومن ثمَّ الميل بهذه المناهج نحو ما هو “نظري” عام. وهذا “البّارادايم الجديد” ينسجم مع كونية الأدب ومع الرؤى النظرية التي تحكم هذه الكونية، كما ينسجم مع استقلالية المقارنية. لذلك استعمل مصطلحات استقصائية وإجرائية غاية في الدقة والنجاعة، ضربت صفحا عن المقارنية التقليدية. وعليه حلّت “العلاقات النظرية الصرفة” محل “الصلات التاريخية الواقعة”، وقامت “الكليات الوصفية التدرجية” مقام “الكليات الدوغمائية والمعيارية”، كما تمّ تحديد العناصر المشتركة في صورة “ثوابت”.

وفي موضوع: (الأدب المقارن نحو رؤى جديدة وتطبيقات موسَّعة)، تناول الأستاذ عبد العاطي الزياني كتابا جماعيا صدرت ترجمته بالعنوان نفسه، يفتح الدرس المقارن على فنون غير النص الأدبي، ويثري الطرح الجديد بتناول دور القضايا الاجتماعية والسياسية في سيرورات الأدب المقارن. وقد يسَّرت رؤى مؤلفيه الرحبة بحث قضايا نظرية واسعة من حقول معرفية مجاورة مثل نظرية التبادل الأدبي، والأدب العالمي، كما شفعوا عملهم بفصول تطبيقية تعالج موضوعات رئيسية طارحة رؤى منهجية وفي مقدمتها قضية الترجمة والتاريخ والأدب..

 أما الباحثة المصرية نبيلة علي مرزوق، فقامت بقراءة فوكَوِيّة لرواتيْ “أحلام الزعفران” للباكستاني شيلا عبد الله و”ذات مَرَّة في أرض الميعاد” للأردنية ليلى حلبي، حاولت من خلالهما المقارنة بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الأمريكي كما تمّ تمثلهما في الروايتين المذكورتين. وقد استهدفت الباحثة من هذه المقارنة إنارة الطريقة التي توجِّه بها العناصر الثقافية تأويل التصورات الأساسية في مختلف الثقافات.

وفي إطار محور الدراسات الترجمية والمقارنة، تناولت الأستاذة حنان بنّوضي بالتشريح المقارني الدقيق خيانات الترجمتين الأمريكيتين لروايتي محمد شكري: “الشطار” و”الخبز الحافي”، لتقف عند معالم إعادة الكتابة وإعادة إبداع النصين من خلال الفعل الترجمي الذي هو فعل ثقافي جعل من النصين في لغتهما الجديدة نصَّين جديدين خضعا للانتقاء والنسيان وإعادة بناء المعنى.

ثم تناول الأستاذ عبد الغني الخيرات: (معضلة قابلية ترجمة النصوص المقدسة)، ليناقش فيها ما يلحق ترجمة النص المقدس من فقد المعنى والأصالة، وخاصة عند ترجمة الاستعارات وما تحبل به من عناصر ثقافية.

 وبدورها تناولت الأستاذة لطيفة صفوي دور الترجمة في الأدب المقارن، منطلقة من أن الترجمة كانت إلى عهد قريب “ربيبة” الأدب المقارن ـ حسب تعبير جورج ستينر ـ اعتبارا لوضعها الملتبس المحفوف بالتردد والغموض، راصدة التحول التاريخي الذي اعترى منهج العمل الترجمي والدور الذي أصبح يضطلع به داخل حقل الدرس الأدبي المقارن نتيجة ذلك التحول. 

 أما الباحثة لطيفة أفيلال، فعمدت إلى إعادة التفكير في الأدب المقارن والدراسات الترجمية ما بعد أحداث 11 شتنبر 2001، وهو السياق الذي نادت فيه إميلي أبّتر بـ”أدب مقارن جديد” ينهض على الدراسات الترجمية، باعتبارها ردّ فعل على التحولات الحاسمة للإنسانيات في خضم ما بعد الأحداث المذكورة.

وفي إطار تقديم قراءة لتقارير الجمعية الأمريكية للأدب المقارن، رصدت الباحثة سناء أَجارور مناهج ورؤى ومنظورات هذا المبحث في الجامعات الأمريكية من الستينيات إلى التسعينيات، حيث تم التأكيد على شساعة المبحث ولا تجانسه، وبالتالي صعوبة تعريفه، مما ترتب عنه نقاش حاد على المستوى المنهجي، وعلى مستوى الحدود النظرية للحقول المتاخمة كالدراسات الترجمية، والدراسات الثقافية، والدراسات ما بعد الاستعمارية.

 وفي الإطار نفسه قدَّم الأستاذ منير بيروك: “قراءة في التقرير العشري الأخير للجمعية الأمريكية للأدب المقارن: إشكالية المنهج بين الاستمرارية والانعطاف”. وهي قراءة مركزة لهذا التقرير الذي تطرق إلى إشكالات وإرهاصات المقارنية الأدبية خلال فترة 2004 ـ 2014. وقد حاولت الورقة تسليط الضوء على أهم السجالات ذات البعد المنهجي في التقرير، رغم أن الصياغة غير النمطية لهذا الأخير ومضامينه التي لا ينتظمها خيط رابط وتلتبس فيها النظرية بالمنهج، يعقِّدان هذه المهمة. في هذا التقرير لا تنفصل أزمة المنهج عن حالة الأزمة لتي رافقت الحقل منذ ولادته. والمدخل الآخر الوارد في التقرير والذي يمكن من خلاله مقاربة إشكال المنهج، يتجلى في رصد الانعطافات المنهجية التي عرفها حقل الأدب المقارن في العشرية الأخيرة، كبروز حقل “الأدب العالمي”، والاكتساح الرقمي للحقول المعرفية، وتداعيات الممارسات الإنسانية على البيئة، وتأثير كل ذلك على مناهج المقارنة الأدبية. واللحظتان معا: لحظة الاستمرار ولحظة الانعطاف، تلخصان معا حالة الالتباس المنهجي الذي تخبط فيه الأدب المقارن وما يزال.

بعده تحدث الأستاذ حسن الطالب عن: (منهج المقارنة الأدبية، نماذج وملاحظات)، مؤكدا أن اختلاف المدارس هو اختلاف مهجي بالأساس، والبحث في “الأزمة” ـ منذ ويليك وإتيامبل ـ له بُعْدٌ منهجي رمى إلى التساؤل عن منهج أكثر علمية يحقق به النقد المقارني وجوده الشرعي وأساسه المنهجي. ورغبة منه في أن يجعل مداخلته ذات طابع بيداغوجي موجَّه للطلاب، عمل الباحث المذكور على طرح تساؤلات ترفع التشويش والاضطراب الذي يلحق الباحث المبتدئ في هذا المبحث، وذلك من قبيل: ماذا أقارن؟ وكيف؟ وما هي “مدونة المقارنة”؟ وكيف يتمُّ ضبطها؟ وما الفرق بين المقارنة والموازنة؟ وما تأثير “عدم المعرفة باللغات” في المقارنة الأدبية؟ وهل التعويل على الترجمة كحل أولي ملائم للمقارن الأدبي؟ ما هي العلاقة التي يُفترض أن تقوم بين النصوص موضوع المقارنة؟ كيف يمكن التوفيق بين منهج المقارنة الأدبية وبين آليات التحليل النقدي والأدبي اللاحقة (الشعرية عموما) علما بأن الشعرية تشكك من حيث المبدأ في نجاعة المفاهيم التي قامت عليها المقارنة في بدايتها: (التأثير # التناص)، (أسباب تنزيل النصوص # المحايثة)، (خصوصية الآداب الوطنية # عوْلمةالأدب).

 وتحت طائلة الهمّ البيداغوجي نفسه تناولت مداخلة الأستاذة ثورية ناقوش رئيسة الجمعية المغربية للأدب المقارن: (بيداغوجية التداخل المعرفي: الأدب المقارن والدراسات الثقافية). وفيها قدمت الفروقات البيداغوجية في سياقات البحث الذي تتداخل فيه الحقول المعرفية وتتصادم، مثلما هي حالة الأدب المقارن في علاقته بالدراسات الثقافية.

 أما الأستاذ الحسين حمدون، فتناول قضية استعمال العامية واللعب بالكلمات وبناء التقليد في رواية:  “الرجل الخفي” للأمريكي رالف إليسون، الذي بلجوئه إلى تلك التقنية الكتابية في سرده الروائي، يستدمج رؤية تقليد إفريقي ـ أمريكي منغرس في التقليد الغربي والأمريكي. 

 وتحت عنوان: (استكشاف آفاق الأدب المقارن)، تناولت الباحثة ليلى سوكري الطبيعة الفوضوية التي آل إليها الأدب المقارن بحكم الإمكانيات التي طرحتها أمامه “الإنسانيات الرقمية”.

وضمن مجال الدراسات الموازية أو أدب الهامش، تناولت الأستاذة حنان المنصوري موضوع: (المنهج المقارن في دراسة الفن التاسع  الأشرطة المرسومة المغربية نموذجا). وقد حاولت في مداخلتها مقارنة مادة “الأشرطة المرسومة” انطلاقا من مرتكَزين: مرتكز الصورة ومرتكز النص، كما عمدت إلى مقارنة وتحليل نماذج غربية بأخرى مغربية. لتختم بمحاولة تقديم أرشيف مغربي يمكن الاستناد إليه مستقبلا في عقد مقارنات من هذا القبيل. 

 وقد شرَّف البروفيسور سعيد علوش هذه الندوة بإلقاء محاضرة ختامية عميقة تحت عنوان: (ضدّ المنهج والحداثة المضادة)، استعاد فيه النقاش بين العلم والأسطورة، حيث لا منتصر ولا خاسر، ليتناول من خلاله أطروحة فوضوية المعرفة (لبّول فِيّيرْاَبَنتْ) والتأكيد على العقلانية، ضد قيود المنهج الثابت والأمن الثقافي التي يتوهم طُلاب العرفة التنعم في فراديسه، وهم يسقطون ضحية الدوغمائية الخبيئة للإبّيستيمولوجيات الحديثة. 

 وقد تُوِّجت الندوة بالإخبار بتأسيس مجلة الجمعية المغربية للأدب المقارن، وهي مجلة نصف سنوية تعنى بقضايا الأدب المقارن، تحمل اسم: “إنسانيات مقارنة”. كما تدارست الجمعية إمكانية إنشاء موقع إلكتروني لها.

> متابعة: د. عبد النبي ذاكر

Related posts

Top