كان هناك حديث عابر حول مسألة حفظ الحوار المسرحي، هل ينبغي على الممثل أن يحفظ الحوار، ثم يقوم بعد ذلك بتشخيصه أم أن عملية الحفظ ليس من الضروري أن تكون سابقة للحظة التشخيص؟
هناك من يعترف بأنه لا يحفظ الحوار، دون أن يعني ذلك أنه يقوم بالارتجال. فن الارتجال شيء آخر.
هناك من يرى أن حفظ الحوار أو الريبليك، يجب أن يتم أثناء تشخيص المشهد، لأنه فعل، وبالتالي لا ينبغي فصل الفعل عن الحوار.
إن مسألة حفظ الأدوار سواء كانت متعلقة بالمسرح أو بالدراما التلفزيونية أو بغيرها من فنون التشخيص، تتطلب منا الوقوف عندها بعض الشيء. إنها تجربة قائمة بذاتها، ولا شك أن لكل مشخص تجربة خاصة وطقوسا خاصة كذلك في ما يتعلق بحفظ أدواره. هناك من يحرص على الاطلاع على النص الكامل للعمل المسرحي أو التلفزي.. لأجل أن يكون فكرة شاملة عن القضايا المطروحة بكل تفاصيلها وعن أسلوب تناولها.
هناك من يحفظ دوره ودور المشاركين معه في العمل، لكي يتشبع بجوهر النص، وهذا النوع من المشخصين يمكن أن يعول عليه المخرج إذا تعذر على أحد المشاركين الحضور إلى خشبة المسرح أو بلاطو التصوير، لكن هذه الفئة من المشخصين تعد نادرة في وقتنا الراهن، بالنظر إلى عدة أسباب، منها تقهقر ملكة الحفظ نتيجة هيمنة الذاكرة الرقمية، وضعف البناء الدرامي في حد ذاته.
هناك من لا يقوى على حفظ دوره سوى خلال فترة التمرن على تشخيص العمل بكامله أو مشاهد منه على الأقل. وفي هذا السياق، تحضر بقوة مسألة ربط الحفظ بالحركة. القول يترسخ في الذاكرة بقوة وبيسر خلال اقترانه بالحركة، إلى حد أن المشخص قد يعجز عن الكلام إذا منعناه من الحركة المرتبطة بهذا القول، رغم حفظه الراسخ له.
كثير من المتتبعين قد يستغربون لقدرة بعض المشخصين على حفظ حوارات طويلة في مشاهد متشعبة داخل العمل المسرحي الواحد، خصوصا إذا كان الحوار يفتقد الجاذبية.
كيف يكون شعور المشخص وهو يمسك لأول وهلة بين يديه مجلدا يضم الحوارات الطويلة والمملة التي ينبغي عليه حفظها عن ظهر قلب؟ في حين أن بعض القراء يعجزون عن مجرد إتمام قراءة تلك الحوارات ذاتها قراءة سطحية.
يمكن بهذا الصدد إثارة مسألة بالغة الأهمية، وهي أن المشخص قبل أن يختار السير على درب التشخيص المسرحي والسينمائي وغير ذلك، فثمة دافع قوي هو الذي جعل اختياره يقع على هذه الممارسة وليس على غيرها، وهذا الدافع القوي والباطني ليس شيئا آخر سوى الموهبة. نعم الموهبة. فكل من يمتلك موهبة في التشخيص، حتما يكون ممتلكا لموهبة حفظ الحوار، بالنظر إلى أنهما غير منفصلين، كما هو الحال بالنسبة لمن يمتلك موهبة الأداء الغنائي، فهو تلقائيا تكون لديه ملكة حفظ كلمات الأغنية التي سيؤديها إلى جانب استيعاب اللحن بكل تفاصيله الدقيقة.
المشخصون والمغنون ومن هم على شاكلتهم، عادة ما يتمتعون بذاكرة خارقة.
لنأخذ على سبيل المثال المشخصة ثريا جبران رحمها الله، هناك أعمال مسرحية شخصتها بمفردها تقريبا، كما هو الحال بالنسبة لمسرحية بوغابة، هذا النص الطويل والمركب، لم تجد عناء في حفظه، لأنها مشخصة وبالنظر إلى أنها مشخصة فهي تتمتع بملكة الحفظ.
وفي مجال الغناء، أستحضر بشكل تلقائي المرحومة أم كلثوم، إن الأغنية التي كانت تؤديها، غالبا ما كانت طويلة ومتشعبة اللحن، ومع ذلك استطاعت أن تحفظ العشرات من هذا النموذج وتؤديها بدون تلعثم.
المشخصون في وقتنا الراهن، أو نسبة كبيرة منهم على الأقل، باتوا يتجنبون الممارسة المسرحية، لأنها في نظرهم تتطلب مجهودا كبيرا، وصاروا في مقابل ذلك، يفضلون الدراما التلفزيونية أو السينما، حيث المجهود أقل والمردودية المالية أكثر.
ولعل من شأن ذلك أن يضعف لديهم ملكة الحفظ، بالنظر إلى أن هذه الملكة لا يمكن أن تتقوى إلا بالممارسة.
عبد العالي بركات