مبدعون مازالوا بيننا (الجزء الثاني)

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض المعالم النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.

في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

حسن الشيخ.. تجربة حياة  (الحلقة 21)

جمالية المتخيل الشعبي

   الفنان التشكيلي والفاعل الجمعوي حسن الشيخ (1966 – 2019) صاحب تجربة بصرية فريدة في الحركة التشكيلية بالمغرب خاصة في بعدها العجائبي. اعترافا وتقديرا لما أسداه من خدمات جليلة وما بذله من تضحيات جسام في خدمة الفنون التشكيلية على الصعيدين الوطني والمحلي، بادر رفاقه بتنسيق مع جمعية الصويرة موكادور والمديرية الإقليمية لقطاع الثقافة بالصويرة ورواق القصبة إلى تكريمه تحت عنوان “ذاكرة ومتخيل” في إطار أمسية فنية احتضنتها دار الصويري يوم السبت 19 أكتوبر 2019. كان عضوا مؤسسا لجمعية “سلام للفن والثقافة”، ورئيسا لجمعية “فضاء للفنون التشكيلية”، وعضوا مؤسسا لجمعية “ساحة الفنانين”، فعالا في كل من جمعية “بصمات للفنون التشكيلية” وجمعية “فنون ومهن”. شارك في أول معرض جماعي بقاعة المنزه عام 1988، وأقام أول معرض فردي بالقاعة المذكورة عام 1992 تحت عنوان “الصويرة واقع ومتخيل”، كان منذ سنة 1998 من مؤسسي تظاهرة الربيع للفنون التشكيلية التي حرصت على تنظيمها جمعية “سلام للفن والثقافة” بقاعة مذكرة 21، وعرض لآخر مرة عام 2018 ضمن فعاليات معرض جماعي بالدار البيضاء أقامته جمعية “بصمات للفنون الجميلة” بمقر المديرية الجهوية للثقافة بالدار البيضاء. توج مساره الفني بعدة معارض جماعية خارج المغرب، نذكر من بينها تمثيلا لا حصرا: سوق الفن المعاصر الكبير فرنسا عام 2002، المهرجان الخامس للفن المنفرد بفرنسا عام 2004، معرض فناني الصويرة بأبسولا (السويد) عام 2016، من تنظيم جمعية “الصويرة موكادور” وبشراكة مع جمعية “إكار” لفناني أبسولا وبمساهمة المديرية الإقليمية لقطاع الثقافة بالصويرة وغيرها من المعارض الوازنة. للإشارة، فإن فيلا الفنون بالدار البيضاء نظمت عام 2015 لقاء مفتوحا من إعداد الباحثة والمشرفة على البرنامج الثقافي طانيا الشرفي حول موضوع “مدرسة الصويرة ورهاناتها” بمشاركة حسن الشيخ رفقة المبدعين محمد السنوسي ومحمد الطبال.

في حضرة الزمن الطفولي المفقود

     يحظى هذا الفنان، خريج مدرسة الحياة في أحضان الصويرة، بنفس تشكيلي جامح، لأن الفن هو العين التي يرى بها مرآة قلبه ووجدانه. مبدع بالموهبة والطبيعة، هو حسن الشيخ. التشكيل البصري (من لوحاته الواقعية الأولى ذات المنزع التشخيصي والتقنيات المختلفة إلى لوحاته الراهنة التي تحتفي بالمقدس والمدنس في الثقافة الشعبية ولوحاته الأخيرة التي رسمها في رحاب شاطئ عين السبع – الدار البيضاء باللونين الأسود والأبيض باستثناء اللوحة التعبيرية غير المكتملة التي استوحى من خلالها شخصية الكاتبة والفنانة التشكيلية لبابة لعلج) مجال محكياته المجازية وشهادة ميلاده الاعتبارية. عندما تسأله عن مهبط إلهامه، يجيبك على التو: “المتخيل الشعبي بكل مروياته المكتوبة والشفهية”. ويضيف: “أحاول القبض على الحياة الداخلية للمنجز التشكيلي. كل لوحة تمظهر رمزي للفكر. الفن بالنسبة لي ميثاق تركيب غريب يستدعي الخيال والتخيلات. خارج كل شكل محاكاتي، التصوير الصباغي رهين تجربة الروح. كل المشاهد ستنشأ من المتخيل بوصفه الصورة الأولى لكل تجربة إبداعية. أعطي للرؤية الحلمية أولوية عن طريق التوافق المرئي واللامرئي بين الأشكال والألوان”.

                                                                                                                                                الفنان حسن الشيخ في مرسمه

  كل الذين شاهدوا سجلات بوحه البصري المتدفق بمناسبة دورات المعرض الدولي للفن بالدار البيضاء التي أقامتها مؤسسة إيفري كوم ما بين 2007 و2010، أجمعوا على أننا في خضم مغامرة مزدوجة: مغامرة السرد البصري، ومغامرة القراءة وغوايتها. وحده حسن الشيخ يمتلك الخيوط الضوئية للعالم التصويري الشاسع والساحر، لأنه مزج، بشكل غرائبي، الحس والفكر والمتخيل، ونهل من سيرة الذات والآخر والحياة. استطاع هذا الفنان أن يترجم نوادر وطرائف المحكي الشعبي (حكي عبد الرحمن المجذوب، ومرويات وطقوس الأولياء والأضرحة، وسير الأنبياء في ضوء الروايات الشفهية…الخ) عبر سجلات مشهدية باللون والشكل تستحضر الذاكرة الجماعية بالانطباعات والأحاسيس التلقائية التي لا مجال فيها لابتداع وتنميق. من عتبات الحكي البصري يطالعنا عبق التاريخ الموشوم في أعماقه الطفولية المنبهرة بسحر الطقوس والمقدسات الشعبية (خاصة في أحضان سيدنا بلال، وسيدي عبد الجليل، وسيدي شوبان، وسيدي أحمد السايح بنواحي الصويرة).

جيل سندبادي يلتزم بسحر اللحظة

 

من لوحاته الانطباعية بتقنية مسحوق الجوز

     تندرج تجربة الفنان حسن الشيخ ضمن سجلات أنصار العود الأبدي السطحيين من كثرة عمقهم والظاهريين من كثرة باطنيتهم. فأمام حروب الدنيا المادية يحرص الرسم الرمزي على تأثيث منتدى بصري تتداخل فيه الأزمنة والعصور منتشلا إيانا من متاهة “الغرابة” و”اليتم” لأنه يحمل وعيا شقيا بالتراث، والحداثة. كل لوحات حسن الشيخ المنجزة ابتداء من عام 2008 تمتلك رأسمالا ثقافيا شعبيا أضفى عليها بشهادة ناظريها ومقتنيها “حرارة” بصرية، لأنها تعتمد في بنياتها العامة على تقنيات النسخ والاقتباس، والتضمين، والتصريح والتلميح. وهي لعمري مستويات بنائية ومشهدية تطرح في باب “شعرية الحكي والكتابة التشكيلية” بعيدا عن كل نزعة أخلاقية أو معيارية. فالفنان التشكيلي كالكاتب يومن بلعبة التأليف، وينتصر لفكرة أن النهل من الروافد المشتركة أمر ضروري، وأن كل فعل تصويري كتابة فوق كتابة، ورسم فوق رسم. كل لوحة، إذن، نص طرسي بليغ وكائن جيولوجي يحمل حاضره وماضيه في الآن ذاته. يردد دائما حسن الشيخ: “لا يمكن أن نعيش اليوم من غير ذاكرة جماعية، ذاكرة لا تنسينا صدمة الحداثة وتجربة الحاضر. فأنا أحاول في عملي التصويري متعدد التقنيات الصباغية أن أحيي المأثور الشعبي الذي لم أعشه إلا عن طريق الرواية الشفهية ولم أدرك معانيه ومغازيه إلا بعد حين. إنني مقتنع تماما بأن هذا الموروث الشعبي الجماعي يساهم في المصالحة بين الأجيال، وإغناء الذاكرة والتاريخ باعتبارهما انسيابا في الزمن ومعايشة لحاضر كثيف”. يدرك حسن الشيخ بأن جيلنا الحالي هو جيل سندبادي يلتزم بسحر اللحظة التي تعانق الماضي البعيد أو القريب، وتمتد عميقا لتبلغ المستقبل. نستحضر في هذا المقام المجازي لوحته التي تحتفي بمقدم سندباد البحري إلى الصويرة في أجواء غرائبية شبيهة بأجواء ألف ليلة وليلة. مع هذه الرحلة السندبادية تكون أفكارنا مثلما حكايانا كلها أولى وكلها أخيرة، كما تكون أصولنا بنات فروعنا. فاللوحة – المشهد، من منظور حسن الشيخ، علامة على حياة وحركة، لا على موت وسكون. أليس الفكر الجمالي سؤالا وبحثا وتقصيا وتركيبا؟   

خرائط أسفار وترحلات ذهنية

     بألوان فطرية طرية، وبأسلوب صباغي متنوع يزاوج بين التصويرية الغرائبية والتشخيصية المجازية والرمزية، ترك الفنان التشكيلي الراحل حسن الشيخ زادا بصريا غنيا حشد فيه تجربة حياة فريدة مليئة بالحنين والشجن ظل من خلالها وفيا لعلاقته بذاكرة المكان والجسد، كما تنطق بذلك مشاهداته ومدوناته المرئية التي كان يراها بالعين والبصيرة في آن… كان الراحل الفنان حسن الشيخ في جل إبداعاته الصباغية مسكوناً بالتخييل والحس العجائبي الذي سافر به بعيداً نحو سماوات نقية وطاهرة عديدة رسمت خرائط أسفاره وترحلاته الذهنية، وبَدَا في أكثر من تجربة، مثل ناسك زاهد، مشغولاً بعوالمه الصوفية المدهشة. بذلك تضمنت لوحاته ورسوماته التعبيرية مواضيع مستمدة من موحيات شعبية ومن خبرة إنسانية وافية لم تنفصل عن تراثه الثقافي والعقائدي وظلت بالتالي تستجيب لتداعيات الفكر والعين والروح… من عمق هذا المنحى التعبيري، وبصيغ سردية قائمة على التورية والإلغاز، أبدع الفنان حسن لوحات وتصاوير كثيرة تحيا بداخلها شخوص وكائنات أسطورية تتبادل الأدوار والمواقع وتفتح حوارات جدلية تثير لدى المتلقي الشعور بالحيرة والدهشة الممزوجة بالتغريب والتعجيب.

بورتريهات شاردة ومتأملة

     هو ذا أفق الفنان بأبعاده التعبيرية والرمزية التي نجد صداها في الأساطير القديمة والمسرودات الشعبية التي تترحل شفاهيا عبر الألسن وعبر الثقافات والحضارات بأحداث وأبطال خرافيين وغير طبيعيين. لقد سجلت الأيام الأخيرة من حياة الفنان حسن الشيخ تحولاً نوعيا في الأسلوب الفني الذي لازمه طويلاً وعاد قويا إلى تجربة السواد والرسم بواسطة أقلام الفحم واللباد والحبر، حيث ظهرت لوحاته مفعمة ببورتريهات شاردة ومتأملة مصاغة بكثافة الخطوط، إلى جانب رسم مشاهد متخيلة تتعانق فيها الأجساد والأطياف البشرية وتتشابك وبدت – اللوحات – في أكثر من مرة مثل محفورات وأعمال ليثوغرافية شديدة التعبير والترميز عكست حجم معاناته وصراعه مع المرض بقدر صبره وتحمله وانتصاره لفنه وإبداعه طيلة سنوات ممتدة من الصباغة والتصوير…

     هكذا، وبحسرة لا توصف، غادرنا المبدع حسن الشيخ عام 2019 بالصويرة، لكنه بالتأكيد لن يفارقنا، إذ سيظل حاضراً معنا في الفن والحياة أخاً عزيزاً وصديقاً ودوداً قليل الكلام، غزير الإنتاج، وفيا، نقياً، طاهراً، طيباً، مخلصاً، كما عرفناه… لروحه السلام…

 إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Top