مبدعون مازالوا بيننا –  الحلقة 16-

 تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

الحسين طلال .. بورتريهات توزِّع معاني الحب

     الفنان حسين طلال (1938 – 2022) مبدع تشكيلي من طينة خاصة، ارتبطت تجربته الصباغية برسم البورتريهات التشكيلية التي يختارها ويغترفها من صميم قناعاته ومن رغبته في تصوير ما يُريد بأيسر الخطوط وأوجز الصبغات دون إيغال في التعقيد والتكثيف. هو بهذا المنجز التصويري يرسم كما يعيش إنساناً هادئاً ومبدعاً صموتاً، لا يتحدث كثيراً، ولكنه يقول أشياء كثيرة ينطق بها رسمه وفنه. إلى جانب الأجساد التي تبدو في لوحاته متراقصة محتفية بالحياة.. وبالوجود الإنساني الذي صار في الانطفاء والانمحاء بفعل الفهم الخاطئ للحياة المعاصرة وما تقتضيه من شروط.. بورتريهات رومانسية توزِّع رسائل الحب بجانب أجساد متماهية ترسم في إيماءاتها حركات بدنية ممتدة تكاد لا تنتهي، ملتفة ومختفية داخل أردية مخططة مستعارة من عوالم كرنفالية.

     هي هكذا لوحاته متميِّزة بتشخيصية أخرى (تصويرية جديدة) ذات صبغة كاريكاتيرية إلى حدٍّ ما، يتجلى ذلك من خلال لجوئه إلى تضخيم الأحجام والأبدان والتلاعب (صباغيّاً) ببنياتها على منوال متباين (كونتراست) قياساً مع بعض أعمال فرانسيس بيكون (1909) “رسام الكوابيس” الذي كان موضوعه المفضل هو “الإنسان الذي يواجه الألم والفزع”.. إلا أن الفنان طلال له طريقته الخاصة وأسلوبه الصباغي في الرسم والتلوين الذي ينهجه وفقا لمهارة متقدمة تعكس حضوره القوي داخل المشهد الإبداعي في المغرب.

     عن هذه اللوحات الاحتفائية التي تتمحورها أجساد مبتهجة، كتبت الناقدة دونيز إكس ديفورن Denise Ex-Dyvorne نتحدثة عن فن حسين طلال: “تصويره الصباغي فسحة هروب على حدود الفن التشخيصي. فهو تأويل ذاتي للواقع الموضوعي. المتلقي في تناوله لعمله عليه أن يعرف أنه ينحو نحو لقاء هذه الرؤية، وإلا لن يفهمه”.

 

     سيراً على هذا التأويل، وبكثير من الفضول، تنمِّي فينا أجساد وشخوص الفنان حسين طلال والصيغة التي رسمت بها الرَّغبة في معرفة الموديلات الرمزية التي استند عليها في هذه التجربة التصويرية والتي أنفق فيها جهداً ووقتاً كبيراً، وهي – بالتأكيد – ليست نموذجاً موحّداً بصفات فردية نمطية Prototypes، بل إنها تمثل رسومات تعبيرية تحفظ المسافة بين المتلقي والعمل الفني وأعمالاً مفتوحة تضمن الحدَّ الأهم من القراءات البصرية، بحسب فكر أمبرتو إيكو U. Eco..

     وحتى وإن كانت موديلات من وحي خيال الفنان، فإنها تمثل حكايات طريفة عاشها الفنان صبيّاً صغيراً رفقة والدته المبدعة الراحلة الشعيبية طلال داخل بيت متواضع على وقع نور ورائحة الشمع، في غياب الكهرباء آنذاك، ما نتج عنه خيالات الظل التي كانت تلهمه صغيراً وهي تتحرَّك وتتراقص على حيطان البيت وقد كانت تسليه وتلهمه.. هكذا كانت البداية بالأبيض والأسود.. بلغة الطيف. زد على ذلك افتتانه ببعض الشخصيات البهلوانية التي كان يصادفها هنا وهناك بالضفة الأخرى بمناسبة زياراته الفنية لأقطار أجنبية متنوِّعة..

     من عمق لوحاته التعبيرية سعى الفنان حسين طلال إلى إقناعنا بأن وجود الإنسان هو وجود جسدي، على اعتبار أنه “لا يمكن الحديث عن إنسان دون العودة إلى جسديته”، كما تقول فنى فياض في “فخِّ الجسد”.. ما يجعلنا نلتفت إلى أجسادنا وذواتنا في حدود المعاني الجميلة التي يبعث بها إلينا عبر رسائل الحب والإنسانية.. فهو يظلُّ بهذه التجربة التصويرية والتجارب الأخرى التي سبقتها يمثل مبدعاً نموذجيّاً يحتل مكانة رفيعة واستثنائية داخل وجداننا الجمالي المشترك بفعل إنتاجه الرَّاقي وجذوره الثقافية التي تفيض بالكثير من المعاني والقيم الإنسانية النبيلة..

     وتظلُّ اللوحات التعبيرية التي خلفها الرَّاحل تمثل – يقول الناقد الفني عبد الله الشيخ – “فضاءً اعتباريّاً يعانق أحلامنا المجنَّحة. فهو من الفنانين المفتونين بالسفر العجيب والإيحائي، حيث جعل منه مناسبة للتلاقي والتعايش. اشتغل على حوار الثقافات والحضارات وترجمة الآخر المتعدِّد، مثلما تحيل أعماله على تأويلات جديدة ومتباينة، إذ تضعنا أمام سياق فريد عبر المجاز التشكيلي للإفصاح عن ذاتنا العميقة بكل روافدها الرمزية. كما أنها تمرِّر عدَّة تصوُّرات رُوحية ورمزية متعلقة بمجالات وجودية. إننا بصدد جانب من الثقافة البصرية المغايرة. كما أن الاحتفاء بالمسار الفني المشرِّف للمبدع حسين طلال هو في حَدِّ ذاته تكريم للجمال الخفي كما قال جون فرونسوا هومون. إنه فنان مكتمل باللمسة، وفطنة النظرة. فهو المبدع المغربي الذي ينشغل بالأساسي والجوهري بامتياز، متأثراً بقولة غاستون باشلار: (الحلم بشيء، هو الدخول فيه كمحارة)”.  

     وقد كتب عن فن المبدع حسين طلال نقاد عالميون متميِّزون لهم إسهامات نقدية مضيئة تحفل بها منابر ومجلات فنية متخصِّصة.

إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top