تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟
الحسين الميلودي .. مكتشف سحر الرموز الكونية
الفنان التشكيلي المغربي الحسين الميلودي (1945-2022) مبدع متميِّز واستثنائي أنجبته مدينة الصويرة الشاطئية، وقد تجاوز صيته الفني وإشعاعه الإبداعي المستوى المحلي والقاري بفضل ما راكمه من إبداعات وتجريبات صباغية حداثية جسَّدت إلتزاماته الإبداعية تجاه مشروعه الفني الذي شرع في تشييده منذ سنوات كثيرة من الإنتاج، وقد قام بالأساس على استنطاق الذاكرة الماضوية ومحاورة العلامات والرموز المستوحاة من محيطه ومن عالمه الفني الموسوم بالاختزال والتبسيط الهندسي..
تجسِّد أعمال الفنان الحسين الميلودي الأولى اهتمامه بالرمز المتحرِّك الناتج عن خلق إنشاءات هندسية دينامية مكسوة بكتابات نورانية وفرعونية يَسِمُ جانباً منها مفهوم التشتت Eclatement، وأخرى مرتبة داخل دوائر مجزأة بشكل متساوٍ يغلب عليه الطابع التنظيمي على شاكلة الحلي الفضية والنحاسية الزخرفة.. أو الأشكال الرمزية التي توحي بعالم الفلك وقراءة الأبراج..
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن هذا التوظيف الرمزي للرمز في لوحات الفنان الميلودي، برز مباشرة بعد عودته إلى مسقط رأسه الصويرة قادماً إليها من الدار البيضاء عقب إنهاء مرحلة التكوين الفني الأكاديمي (1966 – 1969) وكذا التكوين بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بباريس، حيث سيتحوَّل مشروعه الجمالي إلى منظومة هندسية جديدة تعكس اكتشافه لسحر الكتابات والرموز الكونية والإنشاءات الخطية المتصلة بعالم الحروز والطلاسم مرجعه البصري ومصدر استلهامه الفني.. فالفنان الميلودي استلهم كثيراً الحرف والخط وعبِّر بواسطتهما داخل نسق هندسي يحكي ويستنطق أشياء كثيرة من التاريخ والميثولوجيا والثقافة الشعبية وذاكرة المدينة التي تسكنه بنورها وبطفولته التي أمضاها فيها، وقد تمكن خلال هذه المرحلة الإبداعية من إنجاز أعمال تصويرية مجرَّدة وأخرى كاليغرافية بالأحبار والأصباغ على سنائد ورقية وقماشية متنوِّعة، بل وجسَّد البعض منها نحتاً ليظلَّ شاهداً على ذاكرة جمعية وحارساً للمكان، كما في منحوتته التاريخية “بركة محمد” التي تستقبل زوار مدينة الصويرة على الواجهة البحرية في المدخل الجنوبي، والتي أبدعها عام 1978 بأسلوب حروفي هندسي قام أساساً على جمالية الكوفي الهندسي، والتي تظهر شاهقة بطول خمسة أمتار وفي حلة بهية بلونين ممتزجين، هما الأصفر والبرتقالي، وقد خضعت هذه المنحوتة عام 2013 لرتوشات بعد تعرُّضها لتفتت وتآكل بفعل عوامل المناخ، وهي نموذج لتصميماته المدمجة في الهندسة المعمارية بشكل وظيفي نافع..
في لوحات الميلودي تتراقص أشكال مصغرة ورموز متحرِّكة في شكل إنشاءات تجريدية من عوالم أثرية قديمة وكأنها خارجة للتو من رحم النقوش والرسوم الصخرية التي ترسم وجود الإنسان القديم.. وأخرى مأخوذة من الثقافة الشعبية الإنسانية في حدود تعبيريتها وإيحاءاتها البصرية المتعدِّدة..
شخوص وكائنات ميثية مختزلة تتحرَّك داخل أحياز صغيرة، مربعات تظهر في اصطفاف عمودي وأفقي في حركات دائمة ودؤوبة تشرع في التفكك كلما اتجهت نحو الأعلى.. وتعلوها طيور تحلق في السماء مثل رسل حاملة معها أزهار ورسائل المحبَّة..
وفي لوحات أخرى، تتخلص هذه الكائنات من بناءاتها الغرافيكية ومن الصرامة الهندسية التي ميَّزت أعمال الفنان خلال السبعينيات والثمانينيات، إذ تبدو حرَّة في هيئة أجسام إنسية وحيوانية لا ملامح دقيقة تميِّزها، بينما في أعمال صباغية موالية نقرأ نزوع الفنان نحو إكساء اللوحة بتخطيطات متكسِّرة Brisés وأخرى تضمُّ عيوناً ووجوهاً طويلة مرسومة داخل مستطيلات متعامدة، مربعات ملوَّنة بالأبيض والأسود مثل قطع الزليج البَلدي الموسوم بطابعه التقليدي الأصيل.
في لوحاته هندسة بشرية غاية في الاختزال الشكلي: أيادٍ وأذرع ملتوية وممدودة، شخوص ورموز من عالم غير عالمنا، وأجساد بهيئات وأعناق طويلة تنتصب في حواشي اللوحة مثل أعمدة متدلية، وفي عمق اللوحة تتطاير أشكال هندسية عضوية نحو اتجاهات مختلفة لتذوب في لجَّة توليفات متكوِّمة تبدو مثل قبة ضريح يعجُّ بالضوء، حيث يمتزج الأبيض النُّوراني مع الرمادي الدافئ ليغطي الفضاء المعماري المتخيَّل والذي تكثر فيه الشفوف اللونية وآثار الكتابة. وفي الأجزاء العليا من اللوحة، تحلق ألوان مُغايرة وتترحَّل نحو سماوات عليا..
لا شك، إذن، أن منجز الفنان الميلودي يظلُّ موسوماً بـ “جمالية الغموض” Esthétique d’ambiguité، لأنه ينهض على لغة تشكيلية مفعمة بأدلة أيقونية تتداخل فيها المدارات والأزمنة مشكلاً بذلك إطاراً تجريديّاً وتشخيصيّاً في آن تتفاعل فيه العناصر والنماذج المرسومة المستمدة من مرجعيات كثيرة..
إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن