تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟
محمد نبيلي: دعوة إلى الصمت
تجسد الأعمال الصباغية التي جادت بها قريحة الفنان المبدع محمد نبيلي (1952 – 2001) حصيلة رحلة طويلة وتجربة عميقة اكتسبها من خلال الإبداع بالمادة الطبيعية (الخام)، وبخاصة الرمل الذي أصبح جزءا من هويته التشكيلية وإبداعه الجمالي. ولد بمدينة ابن سليمان متجرعا مرارة اليتم المزدوج، حصل على الشهادة الإعدادية ثم حاز على دبلوم الفنون التطبيقية عام 1973 بالدار البيضاء، ليلتحق بعد ذلك بمدرسة الفن والهندسة المعمارية بمارسيليا. خاض غمار الخزف الفني بسليقة وسجية، متوجا مساره التكويني الذي استغرق ثلاث سنوات بدبلوم تخصصي عام 1976. تابع تكوينا أكاديميا بكلية العلوم الإنسانية بإكسون بروفونس، مشتغلا على هذه الإشكالية الوجودية: من أين أتيت؟… أفضى به البحث الاستقصائي في جذوره الهوياتية إلى تمثل روافد التراث المغربي الجمعي من خلال مقاربة سيميائية لأوشام جنوب المغرب والبيرو، الشيء الذي حدا به إلى ارتياد عوالم حضارات أمريكا اللاتينية القديمة والغابرة، حيث تفاعل لمدة سنتين مع النقوش الصخرية لصحراء ناصكا التي تؤرخ لمتخيل الهنود الحمر والآنكا.
دشن محمد نبيلي ميثاق معارضه الفنية بفرنسا عام 1976، لتتواصل حلقاتها في ربوع كبريات المحافل الأوربية قبل أن يرسخ حضوره النوعي بالمغرب. في عام 1992، أشرف على جماليات التصميم الغرافيكي للصحيفة الفرنسية “لافيش” وتقلد منصب أستاذ بمدرسة الفنون الجميلية بإكسون بروفونس التي احتضنت تكوينه الفني إلى حدود عام 1980، ثم اضطر إلى العودة إلى المغرب على إثر تداعيات أول حرب ضد العراق، ليستأنف معارضه بعدة متاحف وأروقة وطنيا ودوليا (متحف الفنون الجميلة بألمانيا، متحف الفنون الجميلة ببلغراد، قاعة جنوب جنوب بالنمسا…) كما لعب أدوارا سينمائية وتلفزيونية. كما ستتعزز هذه المسيرة النموذجية بنيله لشهادة فخرية إنصافا لإبداعاته وانشغالاته المجتمعية من لدن اللجنة العليا لأكاديمية التعليم والتحفيز بفرنسا.
محمد نبيلي – الذي اشتغل سابقا على تقنيات ومواد متنوعة اقترنت خصيصا بمجال السيراميك والحفر والنحت – نجده مهووسا بمحاورة الرمل عبر توظيفات ومعالجات حرفية متسمة بإبراز خصوصيات المواد البدائية والطبيعية، مما جعل الكثير من المتتبعين لتجربته الصباغية يحيلون قطعه الفنية (خصوصا الإرساءات التشكيلية Installations) على عوالم فن الأرض Land Art، وقد بدا هذا التوظيف جليا في معرض الفنان المنظم بأفينيون/ فرنسا تحت شعار: “دعوة إلى الصمت”.
في ضوء لوحات الفنان محمد نبيلي، نقرأ مفردات وتعابير تشكيلية متنوعة مستمدة من الذاكرة والتاريخ: تاريخ الأرض وتاريخ الإنسان، حيث العلامات والرموز والحروف الأمازيغية تدعو القارئ البصري إلى استكناه الخطاب الأركيولوجي الذي يغطي مساحة السند. إنه تشكيل جديد لشيء قديم يرسم نوعا من النزوع الاسترجاعي نحو الذات.
لوحات الفنان محمد نبيلي كتابة واعية لتاريخ منسي وتجسيد غرافيكي للأشياء الهامشية واللامفكر فيها، بل هي خطاب أيقوني يستلزم استيعابه البحث في دلالة الرموز والمفردات الخطية التي تشكله. لوحات متعددة الفضاءات والأزمنة والعناوين التي توحي بنزوع الفنان نحو الألوان والمواد والأسندة المعتقة التي تشي بالقدم، وترتبط بالتكوينات الرسوبية الأولى ما قبل تاريخية.
ترسم اللوحات ميتافيزيقا الزمن. زمن الفنان في ارتباطه بالإبداع. زمن الإبداع في تحولاته وملاحقته للحظات الهاربة والمنفلتة. إنها لحظة التذكر واستعادة الزمن باعتباره ماضيا يداهم ذاكرة الفنان، وسجلا يختزن التعبير عن الزمن وقدرته على تخريب الذات وتلاشي حميتها بتعبير الروائي والكاتب الفرنسي أندريه موروا. هي بلا شك، دعوة لسفر افتراضي حالم في الماضي رغم إكراهات الحاضر وتحديات المستقبل. ارتضى النهل من معين متخيل الأطفال الذي لا ينبض، مساهما في تنشئتهم الاجتماعية عبر مسالك التربية الجمالية والثقافة البصرية من حيث وظيفتها العلاجية والتأهيلية، فقد أنجز جداريات بمعية الأطفال بمستشفى الأطفال بالمركز الاستشفائي الجامعي بالرباط ومراكش، وبادر عام 1969 إلى إنشاء “مؤسسة نبيلي لمتخيل الطفل” بمسقط رأسه ترعى الفنانين الموهوبين من اليتامى والمنحدرين من الأوساط الهشة.
من أعمال محمد نبيلي
ما حفزه على هذا الانشغال برعاية المتخيل الطفولي هو الإرهاص الأولي لموهبته الفنية المبكرة، فعن بعض طرائف مطلع مساره الدراسي، روى للكاتب بوشعيب حمراوي: “وقع لي اصطدام مع أستاذ مادة الرياضيات بالتعليم الإعدادي، وجدت أنه من غير المعقول أن يكون معامل الرياضيات حينها ثلاثة، فيما الرسم غير موجود، مما جعلني أصب كامل غضبي على ورقة الامتحان في مادة الرياضيات، حيث رسمت أستاذي على الورقة بدلا من الأجوبة، وبعد جهد جهيد تفهم الأستاذ وضعي وأعطاني نصف نقطة من أربعين. آنذاك، فرحت وقلت في قرارة نفسي: انتصر الفن ولو بنصف نقطة. مددته من بعد بجميع رسوماتي التي استرعت انتباهه ونالت إعجابه، واستغرب أن أكون صاحبها، فأخذ بيدي واصطحبني إلى مدير المؤسسة مخبرا إياه بأن لدي مواهب كبيرة يجب الاعتناء بها، فكانت هذه الواقعة بداية مسيرتي الفنية”.
إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن