كان رد المقاومة عنيفا وأشد بأسا حيث زاد عدد المقاومين بعد انضمام سائر القبائل الزيانية والمجـاورة لها وهـي قبائــل اشقيـرن، آيت اسحـاق، تسكـارت، أيت احند، ايت يحيى، آيت نوح، آيت بومـزوغ، آيت خويا، آيت شارط وآيت بويشي، وتم استخدام كل أساليب القتال من بنادق وخناجر وفؤوس، وقد تحمست كل هذه القبائل لمواجهة المحتل للثأر لنفسها ولزعيم المقاومة موحى وحمو الزياني، وأبانت عن روح قتالية عالية، ومما زاد من دهشة القيادة الاستعمارية، الحضور المكثف والسريع للقبائل رغم المسافات التي تفصل بينها
بكل مظاهر الاعتزاز والإكبار، وفي غمرة أجواء الحماس والصمود الوطني والتعبئة المستمرة واليقظة الموصولة، خلدت أسرة المقاومة وجيش التحرير وساكنة إقليم خنيفـرة يوم الجمعة 13 نونبر 2020، الذكرى السادسة بعد المائــة لمعركة الهري، التي جسدت أروع صور الكفاح الوطني المستميت الذي خاضه المغاربة في مواجهة حملات توسع الجيوش الأجنبية الغازية لبسط سيطرتها على منطقة الأطلس المتوسط سنة 1914. هذه المعركـة التي شكلت معلمة مضيئة في تاريخ الكفاح الوطني، برهنت بجلاء عن مدى صمود الشعب المغربي في مواجهة الوجود الأجنبي والاستيطان الاستعماري على إثر فرض معاهدة الحماية سنة 1912.
فبعدما تم احتلال ما كان يسمى في نظر “ليوطي” ب “المغرب النافع”، السهول والهضاب والمدن الرئيسية، وبعدما تمكن الجيش الفرنسي من ربط المغرب الشرقي بالجناح الغربي من الوطن عبر تازة في ماي 1914، توجهت أنظار الإدارة الاستعمارية نحو منطقة الأطلس المتوسط، وبالضبط صوب مدينة خنيفرة لتطويقها وكسر شوكة مقاومتها، في أفق فتح الطريق بين الشمال والجنوب عبر هذه القلعة الصامدة، التي شكلت إحدى المناطق التي اتخذها المقاومون ساحة للنزال للكفاح ضد المستعمر الأجنبي.
وقد تأكدت هذه الخطورة من خلال التصريح الذي أدلى به المقيم العام “ليوطي” حيث قال يوم 2 ماي 1914: “إن بلاد زيان تصلح كسند لكل العصاة بالمغرب الأوسط، وإن هذه المجموعة الهامة في منطقة احتلالنا وعلاقتها المستمرة مع القبائل الخاضعة، يكون خطرا فعليا على وجودنا. فالعصاة المتمردون والقراصنة مطمئنون لوجود ملجإ وعتاد وموارد وقربها من الجيش ومناطق الاحتلال جعل منها تهديدا دائما لمواقعنا، فكان من الواجب أن يكون هدف سياستنا، هو إبعاد كل الزيانيين بالضفة اليمنى لأم الربيع”.
في حمأة هذه الظروف العصيبة، انطلقت أولى العمليات العسكرية، وأنيطت مهمة القيادة بالجنرال “هنريس” الذي اعتمد في سياسته على أسلوب الإغراء، حيث حاول التقرب من قائد الجهاد موحى وحمو الزياني، الذي كان يرد بالرفض والتعنت والتصعيد في مقاومته. حينئذ تبين للفرنسيين أن مسألة زيان لا يمكن الحسم فيها إلا عن طريق الحرب الباردة. وبالفعل، فقد بدأت سلسلة من الهجومات على المنطقة، وترك “ليوطي” للجنرال “هنريس” كامل الصلاحية واختيار الوقت المناسب لتنفيذ هجوماته وعملياته العسكرية.
وقد نجحت القوات الاستعمارية في احتلال مدينة خنيفرة، بعد مواجهات عنيفة. إلا أن الانتصار الذي حققته لم يمكنها من إخضاع موحى وحمو الزياني، الذي عمد إلى تغيير استراتيجية مقاومته، وإخلاء المدينة المحتلة تفاديا للاستسلام والرضوخ للإرادة الاستعمارية، وسعيا للاعتصام بالجبال المحيطة بخنيفرة، وبالضبط بقرية الهري قرب نهر اشبوكة، وفي انتظار أن تتغير الظروف، خاصة وأن أجواء الحرب العالمية الأولى أصبحت تخيم على أوروبا.
في حمأة هذه الظروف والملابسات، تلقى المقيم العام “ليوطي” برقية من الحكومة الفرنسية جاء فيها: “ينبغي في حالة الحرب أن تبذلوا جهودكم للاحتفاظ في المغرب بعدد من القوات لا يمكن الاستغناء عنها ، إن مصير المغرب يتقرر في “اللورين”. وينبغي أن يقتصر احتلال المغرب على موانئ الشواطئ الرئيسية إذا كان ممكنا على خط المواصلات خنيفرة، مكناس، فاس، وجدة”.
ما إن ذاع خبر وصول موحى وحمو الزياني إلى قرية الهري حتى سارعت القيادة الاستعمارية إلى تدبير خطة الهجوم المباغت على المجاهدين، غير آبهة بالأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء. وفي هذا الوقت، قرر الكولونيل” لافيردير ” القيام بهجوم على معسكر المجاهدين، وكان ذلك ليلة 13 نونبر 1914.
لقد تم الإعداد لهذا الهجوم بكل الوسائل الحربية المتطورة، وبحشد عدد كبير من الجنود. وفي هذا السياق، يشير الأستاذ محمد المعزوزي إلى قيام المحتل الأجنبي بتنفيذ خطته يوم 12 نونبر 1914 حيث تحرك بأربع فرق تضم 1300 جنديا، معززة بالمدفعية، وتوجه إلى معسكر الهري حيث قام بهجوم مباغث على الدواوير ومكان المجاهدين.
لقد كان الهجوم على معسكر القائد موحى وحمو الزياني عنيفا، حيث بدأ في الساعة الثالثة صباحا، وتم تطويق المعسكر من أربع جهات في آن واحد، ليبدأ القصف شاملا، حيث قذفت الخيام المنتصبة التي تضم الأبرياء، وقام الجنود بأمر من “لافيردير” بمهاجمة القبائل المحيطة بالقرية، فيما استغل البعض الآخر الفرصة لجمع القطيع الموجود من الأغنام والأبقار ولاختطاف النساء موهما بالانتصار على المجاهدين.
وانتشرت الآلية العسكرية للقوات الاستعمارية، وقامت باكتساح الجبل لتمشيطه من المقاومة، وبذلك تحولت منطقة الهري إلى جحيم من النيران، وسمعت أصوات الانفجارات في كل المناطق المجاورة، وظن قائد الحملة العسكرية على الهري أن النصر صار حليفه، وأنه وضع حدا لمقاومة موحى وحمو الزياني والمجاهدين الأشاوس.
غير أنه أصيب بخيبة أمل حينما فوجئ برد فعل عنيف من طرف المقاومين، ليدرك أنه ألقى بنفسه وبقوته في مجزرة رهيبة ودوامة مغلقة لا سبيل للخروج منها.
وبالفعل، فقد كان رد المقاومة عنيفا وأشد بأسا حيث زاد عدد المقاومين بعد انضمام سائر القبائل الزيانية والمجـاورة لها وهـي قبائــل اشقيـرن، آيت اسحـاق، تسكـارت، أيت احند، ايت يحيى، آيت نوح، آيت بومـزوغ، آيت خويا، آيت شارط وآيت بويشي، وتم استخدام كل أساليب القتال من بنادق وخناجر وفؤوس، وقد تحمست كل هذه القبائل لمواجهة المحتل للثأر لنفسها ولزعيم المقاومة موحى وحمو الزياني، وأبانت عن روح قتالية عالية، ومما زاد من دهشة القيادة الاستعمارية، الحضور المكثف والسريع للقبائل رغم المسافات التي تفصل بينها.
لقد كانت أرض الهري من أكبر المقابر العارية لقوات الاحتلال، حيث قدرت خسائر القوات الاستعمارية ب: 33 قتيلا من الضباط، و580 قتيلا من الجنود، و176 جريحا، وغنم المقاومون 3 مدافع كبيرة، و10 مدافع رشاشة، وعددا كبيرا من البنادق، كما قام موحى وحمو الزياني في16 نونبر 1914، أي بعد مرور ثلاثة أيام على معركة الهري بتصديه بفرقة مكونة من 3000 مجاهد لزحف العقيد “دوكليسيس” الذي كان قادما من تادلة لنجدة وإغاثة ما تبقى من الجنود المقيمين بخنيفرة، وكبده المجاهدون خسائر فادحة في الأرواح والعتاد.
لقد جسدت هزيمة الهري نقطة سوداء في تاريخ الاستعمار الفرنسي لشمال افريقيا، في حين خلفت بصمات مشرقة في تاريخ المغرب المعاصر. وفي هذا الصدد، أورد الجنرال “كيوم”، أحد الضباط الفرنسيين الذين شاركوا في الحملة على الأطلس المتوسط في مؤلفه “البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المتوسط 1912 – 1933″، أن القوات الفرنسية “لم تمن قط في شمال إفريقيا بمثل هذه الهزيمة المفجعة”.
وإن أسرة المقاومة وجيش التحرير وهي تستحضر بفخر وإكبار هذه الملحمة التاريخية الغنية بالدروس والعبر والطافحة بالمعاني والقيم، تجدد موقفها الثابت من قضية وحدتنا الترابية بالتأكيد على مغربية الصحراء، وتؤكد وقوفها ضد مناورات خصوم وحدتنا الترابية ومخططات المتربصين بسيادة المغرب على كامل ترابه المقدس الذي لا تنازل ولا مساومة في شبر منه. وستظل بلادنا متمسكة بروابط الإخاء والتعاون وحسن الجوار والسعي في اتجاه بناء الصرح المغاربي وتحقيق وحدة شعوبه، إيمانا منها بضرورة إيجاد حل سلمي واقعي ومتفاوض عليه لإنهاء النزاع المفتعل حول أقاليمنا الجنوبية، وفي هذا النطاق تندرج مبادرة منح حكم ذاتي موسع لأقاليمنا الصحراوية في ظل السيادة المغربية.
وفي هذا السياق، نستشهد بما ورد في الخطاب السامي لجلالة الملك محمد السادس، بمناسبة الذكرى 45 للمسيرة الخضراء حيث يقول جلالته:
“فالمسيرة الخضراء ليست مجرد حدث وطني بارز، في مسار استكمال وحدتنا الترابية. إنها مسيرة متجددة ومتواصلة، بالعمل على ترسيخ مغربية الصحراء، على الصعيد الدولي، وجعلها قاطرة للتنمية، على المستوى الإقليمي والقاري.
وقد عرفت السنوات الأخيرة تطورات ملموسة، على عدة مستويات :
فعلى مستوى الأمم المتحدة : أقبرت القرارات الأخيرة لمجلس الأمن، المقاربات والأطروحات المتجاوزة وغير الواقعية.
كما أكدت على المشاركة الفعلية للأطراف المعنية الحقيقية، في هذا النزاع الإقليمي؛ ورسخت بشكل لا رجعة فيه، الحل السياسي، الذي يقوم على الواقعية والتوافق.
وهو ما ينسجم مع المبادرة المغربية للحكم الذاتي، التي تحظى بدعم مجلس الأمن، والقوى الكبرى، باعتبارها الخيار الطبيعي الوحيد لتسوية هذا النزاع.
أما على مستوى الاتحاد الإفريقي : فقد تخلصت هذه المنظمة، بفضل رجوع المغرب إلى بيته الإفريقي، من المناورات التي كانت ضحيتها لعدة سنوات.
وأصبحت تعتمد على مقاربة بناءة، تقوم على تقديم الدعم الكامل، للجهود التي تبذلها الأمم المتحدة، بشكل حصري، من خلال أمينها العام ومجلس الأمن.
وعلى المستوى القانوني والدبلوماسي : فتحت عدة دول شقيقة، قنصليات عامة في مدينتي العيون والداخلة؛ في اعتراف واضح وصريح بمغربية الصحراء،
وتعبيرا عن ثقتها في الأمن والاستقرار والرخاء، الذي تنعم به أقاليمنا الجنوبية.
وبالموازاة مع ذلك، ترفض الأغلبية الساحقة من المجتمع الدولي، الانسياق وراء نزوعات الأطراف الأخرى. فقد بلغ عدد الدول، التي لا تعترف بالكيان الوهمي 163 دولة، أي 85% من الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة.
وقد تعزز هذا التوجه باعتماد القوى الدولية الكبرى لمواقف بناءة، ومنها إبرام شراكات استراتيجية واقتصادية، تشمل دون تحفظ أو استثناء، الأقاليم الجنوبية للمملكة، كجزء لايتجزأ من التراب المغربي.
واستنادا إلى هذه المكتسبات، يؤكد المغرب التزامه الصادق، بالتعاون مع معالي الأمين العام للأمم المتحدة، في إطار احترام قرارات مجلس الأمن، من أجل التوصل إلى حل نهائي، على أساس مبادرة الحكم الذاتي.
كما سيظل المغرب ثابتا في مواقفه. ولن تؤثر عليه الاستفزازات العقيمة، والمناورات اليائسة، التي تقوم بها الأطراف الأخرى، والتي تعد مجرد هروب إلى الأمام، بعد سقوط أطروحاتها المتجاوزة.
وهنا نؤكد رفضنا القاطع، للممارسات المرفوضة، لمحاولة عرقلة حركة السير الطبيعي، بين المغرب وموريتانيا، أو لتغيير الوضع القانوني والتاريخي شرق الجدار الأمني، أو أي استغلال غير مشروع لثروات المنطقة.
وسيبقى المغرب،إن شاء الله، كما كان دائما، متشبثا بالمنطق والحكمة؛ بقدر ما سيتصدى، بكل قوة وحزم، للتجاوزات التي تحاول المس بسلامة واستقرار أقاليمه الجنوبية. وإننا واثقون بأن الأمم المتحدة والمينورسو، سيواصلون القيام بواجبهم، في حماية وقف إطلاق النار بالمنطقة”.
وتخليــدا لهذه المناسبـــة نظمت المندوبيـة الساميــــــــة لقدمـاء المقاوميــــــن وأعضاء جيش التحرير، يوم الجمعة 13 نونبر 2020، بتعاون وتنسيق مع عمالة اقليم خنيفرة ونشطاء ومنظمــات المجتمع المدني والعمل الجمعوي، مهرجانا خطابيا رمزيا، في تقيد تام بضوابط وقواعد التباعد الاجتماعي والسلامة الصحية، كما قامت
-بمركز لهري بجماعة لهري، بزيارة المعلمة التذكارية المخلدة لمعركة لهري للترحم على أرواح شهداء الاستقلال والوحدة الترابية وفي طليعتهم جلالة المغفور له محمد الخامس ورفيقه في الكفاح والمنفى جلالة المغفور له الحسن الثاني، إضافة إلى توقيع العدد الأول من سلسلة دفاتر الوثائق التاريخية للمقاومة والتحرير المودعة بمركز الوثائق التاريخية للمقاومة والتحرير، والصادرة ضمن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بالرباط تحت عنوان: “معركة لهري”، وتوقيـع اتفاقية إطار للتعاون والشراكة لاستغلال المتحف التاريخي والإيكولوجي والثقافي بمنطقة سرو، توزيع إعانات مالية واجتماعية على عدد من أفراد أسرة المقاومة وجيش التحرير المستحقين للدعم المادي والرعاية الاجتماعية. وبجماعة امريرت تدشين معلمة تذكارية بمدينة امريرت، تؤرخ لمعارك ونضالات قبائل آيت سكوكو ذودا عن حمى الوطن وحياضه وعزة وكرامة الشعب المغربي.