هولاند ودروب الشرق الشائكة

لم يسبق في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة منذ العام 1958، أن استنكف سيد قصر الإيليزيه عن إعادة ترشيح نفسه لمنصب الرئاسة. وحده فعلها فرنسوا هولاند، وأعلن ذلك في الأول من دجنبرالماضي، لكن هذا الرئيس العازف على مضض عن خوض غمار الداخل، يبدو مصرا في الأشهر الأربعة الأخيرة من عهده على السعي لدخول التاريخ من خلال بعض النجاحات في السياسة الخارجية، أو على رأس القيادة العليا للقوات الفرنسية.
في الحرب ضد الإرهاب كما في الميدان الدبلوماسي، لا تمر الطريق عبر البوابة الأوروبية فحسب، بل عبر مسالك الشرق المتواصلة مع قوس الأزمات من بلاد الشام إلى الساحل وشمال أفريقيا.
تزامنت ولاية فرانسوا هولاند (2012 – 2017) مع دورة الزمن الصعب في عالم عربي احتدمت فيه النزاعات والتجاذبات، ووجدت فرنسا نفسها في قلب المعمعة كلاعب منخرط، ومتأثر لكنه غير قادر على ضبط الإيقاع وحصد نتائج إيجابية حكما.
ورث الرئيس فرنسوا هولاند عن سلفه نيكولا ساركوزي ملفي ليبيا وسوريا الساخنين، لكنه لعب دورا مباشرا وحاسما في مسألة الحرب ضد الإرهاب من مالي إلى العراق، وأسهم في تطوير العلاقات مع الرياض والقاهرة، وأعاد الوصل مع طهران بعد توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015 (وزير الخارجية حينها لوران فابيوس كان الأكثر تشددا في التفاوض وهذا ما لم تنسه إيران) من دون إهمال مسار السلام الإسرائيلي – الفلسطيني، بالرغم من جهد بنيامين نتنياهو لثنيه عن ذلك وتثبيط همته.
لم يحن بعد وقت بلورة جرد كامل عن حسابات الربح والخسارة في سياسات فرنسا إزاء العالم العربي والشرق الأوسط إبان عهد الرئيس الاشتراكي، لكن هذا الحصاد كان مقبولا بشكل عام ولو أن الإمكانات لم تكن على قدر الطموحات أو الأهداف المرسومة.
والأدهى كان خروج كتاب في باريس في شتنبر 2015 (مقابلات للرئيس مع صحافيين) كشف فيه هولاند عن بعض الأسرار الدفاعية، وفي ذلك خروج عن المألوف دفع ثمنه تراجعا في شعبيته وخروجا من السباق الرئاسي.
بيد أن الفشل هو فشل لفرنسا كدولة لأن مقارباتها لتحولات وهزات السنوات الأخيرة وللتطورات الجيوسياسية في الشرق الأوسط الكبير لم تتمتع بتقييم موفق للعناصر الداخلية أو لقدرات واندفاع اللاعبين الكبار والإقليميين، مثل روسيا وإيران وتركيا وإسرائيل، في الملف السوري مثلا، وتفاقم ذلك مع الكسوف الأوروبي بالإجمال أو عدم القدرة في التأثير على الحليف الأميركي الذي لا يأبه كثيرا لآراء ومصالح فرنسا والدول الأوروبية الأخرى.
على الصعيد العملي، فاجأ هولاند “الرئيس العادي” (كما وصفوه عند انتخابه رئيسا) الرأي العام بقرار الحرب في مالي لمنع سقوط العاصمة باماكو أمام زحف الإرهاب، وكذلك بإصدار أوامر تصفية بحق حوالي 50 كادرا إرهابيا وفي ذلك نافس باراك أوباما الذي اشتهر بإطلاقه العنان للتصفيات عبر غارات الدرون (طائرات من دون طيار)، لكن الرئيس الفرنسي الذي رأى الإرهاب يضرب فرنسا في قلب عاصمتها وعلى شاطئها اللازوردي، وكان شاهدا على عملية استاد دو فرانس لكرة القدم في 15 نوفمبر 2015، يغالي في ربط حصاده بهذا الملف الحساس.
وها هو يؤكد خلال زيارته إلى بغداد في الثاني من هذا الشهر (الزيارة الثانية له إلى بلاد الرافدين بعد زيارة أولى في سبتمبر 2014 عقب إسهامه في نشأة التحالف الدولي للحرب ضد داعش) على أن محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” في العـراق “تساهم في حماية فرنسا من الإرهاب”، ويتفاءل في تقديره إلى حد توقعه أن يكون عام 2017 “عام الانتصار على الإرهاب”.
على ما يبدو، لم يتذكر هولاند مقولة الجنرال شارل ديغول “ذهبت إلى الشرق المعقد بأفكار مبسطة”، وقال ديغول هذه العبارة في ثلاثينات القرن الماضي حينما كان مفتشا عاما عسكريا إبان زيارة لسوريا تحت الانتداب الفرنسي وقصد تكوين سوريا الخاص والمعقد في تلك الفترة، وهو ما ينطبق اليوم على سوريا والعراق وغيرهما، وقد ازداد تفاقما مع النزاع السني – الشيعي، وصعود التطرف، والمشروع الإمبراطوري الإيراني، واستمرار المأزق الفلسطيني.
بالطبع، يأمل هولاند أن يكون عام 2017 عام اقتلاع داعش من أراضيه في العراق وسوريا، لكنه يدرك قبل غيره أن الأسلوبين الغربي (تحت قيادة واشنطن) والروسي في الحرب ضد الإرهاب لم يفلحا حتى الآن في احتواء هذه الظاهرة، لأن الحربين العسكرية والأمنية من دون حرب الأفكار وإقامة دول عادلة وحل القضايا المزمنة لن تقدما الوصفة الناجعة.
ومن أجل تفادي خديعة اليوم التالي في الموصل لا بد من مراجعة ما جرى في العراق منذ 2003 ومعالجة مكامن الفشل والعمل على تأسيس دولة لكل المكونات بمنأى عن الوصاية الخارجية المطبقة.
والأعقد من دون شك معضلة سوريا وحربها التي تتداخل فيها عدة حروب، مما أخر معركة الرقة نظرا إلى تركيز موسكو على كسب معركة حلب بالضربة القاضية في الوقت الأميركي الضائع وأمام عدم قدرة فرنسا على ترجمة حراكها الدبلوماسي إلى موقع الفعل الرادع. في هذا الإطار، لم يخطئ حدس فرنسوا هولاند حينما صرح في أغسطس 2016 “إن المجتمع الدولي سيجر أذيال الخزي والعار إذا لم يفعل شيئا لإنهاء الأزمة الإنسانية المستمرة في مدينة حلب بشمال سوريا”، وبالفعل حصل ذلك، لكن هولاند لم يبادر كما تصرف سلفه فرنسوا ميتران الذي فاجأ العالم بزيارة ساراييفو في يونيو 1992 في عز حروب البلقان وساهم في إنقاذها.
يمكن منح هولاند الأعذار لاختلاف النزاعين والإطارين التاريخيين، ويمكن تبرير تراجع فرنسا وغيرها من داعمي المعارضة السورية بانكفاء إدارة باراك أوباما، ويمكن القول إن تمسك الإيليزيه والكي دورسيه (وزارة الشؤون الخارجية) بالاعتبارات الأخلاقية يبقى موقفا معنويا همشه استشراء القوة الفظة، ناهيك عن تحول داخل الرأي العام الفرنسي تمثل في تراجع التأييد للموقف الرسمي من الأزمة السورية بسبب انعكاسات ملفي الإرهاب واللاجئين.
وهذه النكسات والمصاعب لم تقنع فرنسوا هولاند بالتراجع عن تنظيم مؤتمر دولي في باريس من أجل السلام في الشرق الأوسط، يوم الخامس عشر من هذا الشهر، في مسعى لتتويج سياسته الشرق أوسطية بخلاصة تؤكد على الحق الفلسطيني وحل الدولتين وأمن إسرائيل، إلا أن بنيامين نتنياهو الذي سدد له باراك أوباما ضربة كبيرة بامتناعه عن استخدام حق النقض (الفيتو) ضد القرار الدولي 2334 القاضي بإدانة الاستيطان، يخشى أن ينجح مؤتمر هولاند في التحضير لقرار آخر من مجلس الأمن يفرض جدولا زمنيا للحل.
يجدر التذكير أنه سبق لإسرائيل أن”عاقبت” فرنسا برفضها إشراكها في مؤتمر مدريد عام 1991، لأنها كانت سباقة في الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا يستمر السجال ويسعى فرنسوا هولاند لربط مسيرته بنجاح رمزي في هذا الميدان.
في لعبة فك أحاجي الشرق المعقد، يبرز الحصاد المتباين لفرنسوا هولاند من صعوبة التموضع بين الجزائر والمغرب، إلى الاستعصاء الليبي. ومن الصلة الاستراتيجية مع مصر التي تنافس عليها روسيا، إلى صعوبات التوفيق بين التطبيع مع إيران، وما يسمى الشراكة مع الدول العربية في الخليج (المملكة العربية السعودية ودولتي الإمارات العربية المتحدة وقطر).
وتبقى الخسارة على الساحة السورية التي تتطلب تقييما معمقا، تماما كما أفق الدور في العراق والعلاقة مع تركيا على ضوء الحرب ضد الإرهاب. وبالنسبة إلى تونس كما لبنان وإسرائيل والسلطة الفلسطينية تبقى العلاقات الثنائية لها مجالها الرحب بالرغم من انعكاسات النزاعات.
في الإجمال من دون خارطة طريق دبلوماسية أوضح مع تعزيز البعد الأوروبي فيها، ومن دون تأقلم للقوة العسكرية “المنهكة في مهام حفظ السلام على حساب الأولويات في الحرب ضد الإرهاب وعلى بعض المسارح” ومن دون تدقيق في التحالفات وانعكاساتها على الداخل، لن تستعيد فرنسا بريقها في جوارها المتوسطي مما يؤثر على أمنها الاستراتيجي ومصالحها الاقتصادية والسياسية.

> بودياب خطار *
* أستاذ العلوم السياسية-  باريس

Related posts

Top