لقد أثرت الأزمة بسبب تراجع النشاط الاقتصادي، بشكل كبير على التشغيل، فالبطالة التي كانت مرتفعة أصلا قبل الأزمة الحالية، خاصة في أوساط الشباب، مُرَشَّحةٌ لأن تزداد تفاقما الآن وفي المستقبل.
أجل، بالإمكان إرساءُ مخطط طموح للإنعاش يُمَكِّنُ من الحفاظ على مناصب الشغل، ولِــمَ لا خلق مناصب جديدة، إلا أن هذا المجهود سيظل غيرَ كافٍ، إذا لم يتم إرفاقه بتدابير خاصة وهادفة لفائدة التشغيل.
ينبغي العمل فورا على تحفيز المقاولات من أجل أن تستعيد نشاطها، مع وضع هدف استرجاع كافة العمال والشغيلة، في أقرب الآجال، ويمكن أن تتخذ هذه التحفيزات أشكالا مختلفة جبائيه، مالية واجتماعية. وبهذا الصدد يتعين استبعاد أي حل مُــنَــمَّط لكونه لن يكون مجديا ولن يؤدي بالتالي إلى تحقيق المبتغى.
من جهة أخرى، علينا أن ننتظر، وهو أمر شبه مؤكد، عجز بعض المقاولات، وخصوصا منها الصغيرة والمتوسطة، على التعافي من آثار الأزمة واكتساب القدرة على مواصلة نشاطها. وبدل الحكم عليها بالإفلاس النهائي، ينبغي على السلطات العمومية أن تتدخل بكل ما لديها من قوة لإنقاذ الآلة الإنتاجية، وبالتالي إنقاذ التشغيل. على هذا المستوى، بإمكان الدولة والأجراء المنتمين إلى المقاولة، أن يساهموا في رأسمال المقاولة، وهو ما سَيُمَكِّنُ هذه الأخيرة من تفادي المديونية المفرطة، وتشجيع العمال على تقاسم المسؤولية والإمساك بجزءٍ من مصيرهم بين أيديهم، فلقد أعطى هذا الحل المُجَرَّبُ نتائج مُرْضيه، ولا نظن أنه لن ينجح أيضا في المغرب.
كما يتوجب القيام بمجهود قوي لصالح الأنشطة الاقتصادية التي تخلق، بكثافة، مناصب الشغل، كتلك التي ترتبط بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني والأوراش ذات النفع العام، كغرس الأشجار المثمرة، وتجديد الغابات، ومعالجة تلوث الشواطئ، ومساعدة الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، وتسريع محاربة الأمية، مع خلق “جيش للمعرفة”، فهذه الأنشطة تتميز بإمكانية امتدادها على مجموع التراب الوطني، وأيضا بكونها تهم حياة المواطنين عن قُرب.
نفس الاهتمام ينبغي أن يُعطى لمصالح القرب (مقاهي، مطاعم،…). وللمهن المُمَارَسَة من قِبَلِ المستقلين بصفتهم مقاولين ذاتيين، حيث أن هذه الأنشطة تضمن العيش لملايين من الأشخاص، ويكفي أن تقوم الدولة بإشارة التفاتية، وذلك باستعمال آلية مناهضة الأزمة، من أجل إعادة التشغيل.
إن الأزمة هي لحظة هدم وإعادة بناء، تماشيا مع قانون شامبتير/ Schumpeter القاضي “بالهدم الخلاق”، وهو ما يعني أن هناك أنشطة ومهن جديدة ستظهر بالتأكيد إلى الوجود، فيما ستؤول أخرى إلى الاندثار.
وعلى الدولة، بصفتها ذات رؤية واستراتيجية، أن تستعد لهذه التحولات التي تلوح في الأفق، من أجل إطلاق برنامج واسع للتكوين في هذه المهن الجديدة، لِــيَهُمَّ الشباب الذين لا يزالون في طور التكوين، والذين فقدوا شغلهم بصفة نهائية، ويمكن أن نذكر على سبيل المثال التكوين في المجال الرقمي، والاقتصاد الأخضر، والطاقات المتجددة، ومهن الصحة، والمساعدين والمساعدات في الشؤون الاجتماعية…
كما أن هذه الأزمة هي مناسبة للقيام بالمراجعات الضرورية لبعض الممارسات والسياسات التي أبانت عن محدوديتها. فالجائحة أهدت إلينا مرآةً مُكَبِّرَةً لمشاكلنا وخصوصا فيما يتعلق بالهشاشة، وعليه ينبغي طي صفحة العمل الرخيص، والهشاشة في العمل بصفة نهائية. وعلى المقاولة، وخاصة الكبرى والمتوسطة، أن تدرك بأن الإنتاج في المغرب واستهلاك ما هو مِنْ صنعٍ مغربي، له متطلباته المتمثلة في اعتبار الأجرة ليست مجرد تكلفة إنتاج ينبغي التخفيض منها، بل على العكس، فهي مكون أساسي للطلب وجب الزيادة فيه.
فمردودية المقاولة التي تعتبر ضرورية لمواصلة النشاط الإنتاجي، لا ينبغي أن تتم على حساب المأجورين وصحتهم، بقدر ما تتطلب الاستثمار في الابتكار وتحسين الإنتاجية وإعمال المناهج التشاركية والمجددة في التدبير، ومن ثمة لا نفهم الاعتراض الذي عبر عنه أرباب العمل بخصوص تطبيق زيادة خمسة في المائة (5%) في الحد الأدنى للأجر، كما تم التوافق عليه في إطار الحوار الاجتماعي: إنه بصراحة موقفٌ بئيس وليس في محله بتاتا.
إن الشغل لا يمكن له، على الإطلاق، أن يمس بكرامة الإنسان، فالعمل وُجد لضمان هذه الكرامة وتمكين الذين يمارسونه من التحرر والازدهار، وعليه فالعمل ينبغي أن يكون شغلا لائقا، وهو ما يعني أجرة محترمة تغطي تكاليف إعادة إنتاج قوة العمل للعامل ولأسرته التي يُعيلها، فضلا عن التأمين ضد الأخطار كحوادث الشغل والأمراض المهنية والتأمين ضد البطالة، والتغطية ضد التوقف النهائي عن العمل (التقاعد)، وإمكانيات الولوج إلى الثقافة ووسائل الترفيه…
كما ينبغي مراجعة حكامة سوق الشغل، بتعميم الوساطة المؤسساتية بين العرض والطلب، حيث إن الطرق المستعملة لحد الساعة في سوق الشغل من شأنها الحط من كرامة الإنسان، إذ يلجا أزيد من ثلثي الباحثين عن الشغل إلى دق الأبواب والوقوف في الأماكن العمومية المعروفة بـ “الموقف” ليعرضوا قوة عملهم للبيع! فهذه الممارسة التي تعود بنا إلى القرون الوسطى ينبغي القطع معها بدون رجعة.
كما قد حان الوقت لتحويل أنابيك / l’ANAPEC، الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات، إلى وسيط حقيقي في سوق الشغل، مع تغطية مجموع التراب الوطني والانفتاح على كل طالبي الشغل أياً كان مستوى تكوينهم، وبالطبع هذا يتطلب إمكانيات بشرية ومادية متناسبة من الضروري رصدها.
وفي جميع الحالات، علينا أن نُغلب المقاربة التشاركية والحوار الاجتماعي، فلا شيء يدعو إلى تهميش ممثلي العمال، فالنقابات ضرورية لخلق التوازن داخل المقاولة، وكل إضعاف لها يمس بهذا التوازن الذي يعتبر أساس السلم الاجتماعي.
وما دامت الطبيعة لا تقبل الفراغ، فحينما تغيب النقابات يظهر ما يسمى بـ “التنسيقيات” التي من شأنها أن تزرع الفوضى وتضع المقاولة في موقع الرهينة.
إن الخيار الأنسب واضح للعيان، اليوم، ما بين الحوار وما بين الفوضى.
بقلم: د. عبد السلام الصديقي