يضرب المغاربة منذ سنوات طويلة، موعدا خاصا واستثنائيا خلال شهر رمضان الأبرك، مع وجوه فنية مميزة ومتألقة تضفي طابعا خاصا على مائدة الإفطار العائلي، وتزيد من قوة الطابع الاستثنائي لهذا الشهر الفضيل، سواء عبر الشاشة من خلال الوصلات الفنية المتنوعة طيلة اليوم، أو عبر المواعيد المباشرة مع جمهور الركح أو السينما أو الحفلات…
وتتميز الساحة الفنية المغربية بصعود أسماء جديدة بشكل متواصل، إلا أن هناك وجوها فنية خاصة ألفها المغاربة وأصبح غيابها عن الساحة بشكل عام وخلال الشهر الفضيل بشكل خاص، يشعرهم بفجوة في أجواء رمضان.
ورغم أن الأسماء الجديدة منها ما تميز وأبدع ووصل إلى قلوب المغاربة، إلا أنه من الصعب جدا تعويض الوجوه التي كبر وترعرع معها جيل من المغاربة وشكلت جزءا كبيرا من ذكرياتهم، حيث إنه في الأخير يبقى للجيل الجديد دوره ومكانته في إغناء الساحة، لكن ما من أحدهم قد يعوض آخر أو يحتل مكانته، خاصة في الذاكرة والقلوب.
وحيث إننا نضرب موعدا خلال هذا الشهر الكريم مع إبداعات فنية متنوعة سواء عبر الشاشة أو المسرح والسينما وغيرهما، يساهم فيها خليط من أجيال متعددة، سنستغل هذه المناسبة بجريدة بيان اليوم، لنستحضر عددا من الوجوه الفنية المغربية التي غادرتنا إلى دار البقاء في مجالات التمثيل والغناء التمثيل والإخراج، التي بصمت الساحة الفنية الوطنية بعطاءات ظلت شاهدة على تفرد موهبتها، التي رسختها في سجل تاريخ الفن بالمغرب والعالم بمداد من ذهب.
الراحل نور الدين الصايل.. مجنون السينما وفيلسوفها
ستبقى ليلة 15 دجنبر من سنة 2020، في الأذهان حيث نزل فيها خبر وفاة الأستاذ نور الدين الصايل على الجميع كالصاعقة.
إن رحيل نور الدين الصايل هو رحيل لعراب السينما المغربية ولعقلها الأول ولعاشق ثنائية السينما والفلسفة حد “التلبس” بهما. وهنا نسلط الضوء على العديد من بقع الضوء التي له فضل نحتها، بقع ضوئية ستترك بكل تأكيد فعلها وديمومتها في عالم السينما المغربية ومهرجاناتها، وفي عدد من المحطات الإعلامية والثقافية المغربية والعربية والأفريقية والإنسانية عموما.
رأى نور الدين الصايل النور عام 1948 في مدينة طنجة، والتي تردد في دروبها الشعبية على قاعات السينما، وداعب كرة القدم، ولعب بفريق المدينة، ثم أحب الفلسفة ورحل من أجلها إلى الرباط، حيث تخصص فيها ودرسها، وأصبح مؤطرا لمدرسيها.
نبتة الفلسفة التي زرعت فيه وعشقه للسينما منذ صغره وإتقانه للغة الإسبانية والفرنسية بجانب لغته العربية الفصيحة، وانفتاحه على ثقافات العالم؛ كل ذلك جعله أيقونة فكرية مغربية من الصعب على من يريد معرفة ما كان يجري في سماء الفلسفة والسينما بالمغرب أن لا يجد اسم الراحل أمامه.
من المؤكد أن لمدينة ولادته أثرها البالغ في تكوينه النفسي ومزاجه الفني والثقافي والإنساني، فأهل طنجة معروفون تاريخيا بحبهم للحياة وسهر الليالي، لا يبدأ زمنهم النهاري إلا في الليل، كيف لا وطنجة هي محروسة المغرب، بل هي حارسة المغرب من ضفة البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي أيضا.
لا بد أن الكل يستحضر البرنامج التلفزيوني المغربي بالقناة العمومية الأولى والوحيدة آنذاك، والمعنون بسينما منتصف الليل وسينما الأحد؟ فمن خلال إطلالاته هذه عرف كثير من الشباب المغربي وقتها معنى وكيفية تقديم فيلم سينمائي، حيث كان الصايل يقدم خلال هذه الفترة أمهات السينما المصرية والسوفياتية والفرنسية.
عرف صوته السينمائي النقدي في مجال الإعلام البصري والمكتوب من خلال مشاركاته وإشرافه على بعض المجلات الورقية المختصة، حيث كان صوته آنذاك يفعل فعله في تربية ذوق جيل مغربي عاش فترة سنوات من الجمر والرصاص، لا سيما في فترة سبعينيات القرن العشرين، حيث كان الصايل رحمه الله ممن تشبعوا بالفكر اليساري ومارسوه ضمن طلبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وذلك صحبة عالم الاجتماع المغربي الراحل الدكتور محمد جسوس، ضمن محطات ثقافية ونضالية متعددة.
في عام 1977 ولد مهرجان السينما الأفريقية بمدينة خريبكة، وهو المهرجان الذي ما زال ينظم حتى يومنا هذا، بحكم أن الصايل كان يتردد على مدينة خريبكة باعتباره رئيسا للجامعة الوطنية للأندية السينمائية، وبحكم أيضا وجود أقدم ناد سينمائي بالمغرب (منذ الثلاثينيات من القرن العشرين)، وهو النادي السينمائي بخريبكة، وبحكم وجود بنية تحتية ثقافية في ملكية المجمع الشريف للفوسفاط آنذاك، وبجانب أسماء من هذه المدينة العمالية الفوسفاتية، وبقاعة الأفراح التاريخية في حي الفوسفات (الفيلاج).
منذ عام 1977 وإلى يومنا هذا، والراحل الصايل يخط أهم فقرات ومكونات مهرجان السينما الأفريقية، مهرجان زارته أسماء من بلدان العرب وأفريقيا وأوروبا، حتى أصبح أيقونة من أيقونات المدينة والمغرب وأفريقيا عموما، يكفي أن نشير إلى أن عدة أسماء زارته، مثل المرحوم المخرج المصري صلاح أبو سيف، والمرحوم توفيق صالح صاحب التحفة السينمائية “المخدوعون”، والراحل الطاهر شريعة مؤسس مهرجان قرطاج التونسي، و”إدغار موران” الفيلسوف الفرنسي، وسليمان سيسي المخرج المالي صاحب الفيلم الجميل “النور”، وأيضا “أصمان صمبين” من السينغال ونوري بوزيد من تونس، ونجوم مصرية وعربية عدة، وأسماء فكرية وفنية وإعلامية من عدة دول.
من أهم المسؤوليات التي كلف بها الراحل نور الدين الصايل في المغرب تحمله تسيير وإدارة القناة الثانية المغربية/ دوزيم (من سنة 2000 إلى سنة 2003)، وأيضا رئاسته للمركز السينمائي المغربي (من سنة 2003 إلى سنة 2014)، وكلاهما محطتان بارزتان ترك فيهما الصايل بصمته، لا سيما على مستوى دعم الأفلام المغربية والقاعات السينمائية والمهرجانات السينمائية، مما جعل هذه الأخيرة تشهد حركية بارزة في عهده.
فمن إنتاج أفلام سينمائية مغربية معدودة على رؤوس الأصابع، إلى تحقيق حوالي خمسة وعشرين فيلما طويلا وستين فيلما قصيرا خلال السنة، وهو ما جعل المغرب يقفز إلى الرتبة الثالثة في عهده على المستوى الإفريقي بعد كل من مصر وجنوب أفريقيا.
إنهما محطتان جعلتا من لغة الدعم المالي والإنتاج (هو صاحب مقولة الكم أولا ثم الكيف ثانيا) والتوزيع والمشاركات داخل وخارج المغرب، معجما مشكلا لهاجس الراحل ولخطته الإدارية السينمائية، وهو ما أعطى مفعوله الذي ما زال مستمرا إلى يومنا هذا.
بجانب هاتين المحطتين تحمل الصايل أيضا مسؤولية رئاسة لجنة الفيلم بمدينة السينما المغربية العالمية ورزازات (جنوب المغرب الشرقي)، حيث كان التفكير الدائم في كيفية تحفيز وتشجيع تصوير عدد من الأفلام العالمية بهذه المدينة التي حوّلت المغرب إلى قبلة عالمية لتصوير أعمال سينمائية ذات إنتاج ضخم، مما جعل المغرب بلدا معروفا بتصوير العديد من الأفلام السينمائية والمسلسلات التاريخية الكبرى والأجنبية به، وهو ما ساهم في جلب العملة الصعبة لخزانة المغرب المالية، ناهيك عن الأثر المهني السينمائي الذي تركه في المدينة.
تردد الصايل في أيامه الأخيرة على عدد من المؤسسات الجامعية العليا والمتخصصة في الأدب والفنون والسينما والفلسفة، مفتتحا موسمها الجامعي بمحاضرات علمية قيمة، أو مشاركا في أيامها الدراسية والعلمية والسينمائية.
كان الصايل على الرغم من تجاوز سن السبعين كثير الترحال على امتداد الوطن وأفريقيا وأوروبا، باحثا عن جواب واحد، كيف تكون السينما حمالة معاني ودلالات ومساهمة في تقريب الشعوب والأمم والدفع نحو تفكير جماعي لانتشال الإنسان من وضعه التكنولوجي الجديد (الفرجة بشكل فردي)، نحو عودة جماعية للقاعات السينمائية كما هو الشكل في التجربة التي حفزها بكل من القاعات السينمائية المتعددة العرض الفيلمي وفي نفس اللحظة، وفي أفق تحقيق عروض متنوعة للأسر؟
لقد ولج الصايل بوابة السينما من بابها الرئيسي، وهو باب الفلسفة. باب جعله يمارس طيلة العشرات من السنين لمساته الخاصة به أينما رحل، وهو ما نجده أيضا طيلة الفترة الزمنية التي أدار فيها المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، أو حينما كان ممثلا للمركز السينمائي المغربي في إدارة مهرجان مراكش السينمائي الدولي، بل وحتى حينما كتب بعض السيناريوهات السينمائية التي صورّت وعرضت على الشاشة الكبرى، ومن أبرزها فيلم “باديس” الذي أخرجه المخرج المغربي عبد الرحمن التازي.
عبد الصمد ادنيدن