الفيلم السينمائي “على الهامش” لجيهان البحار.. الحب: تضحية، خيانة ووفاء

احتل الهامش حيزا مهما في السينما المغربية والعالمية، وحاول كل مخرج ومخرجة أن يتناول الموضوع من زوايا مختلفة ومتعددة، وهذا طبيعي، لأن الهامش، يحبل بكثير من القصص التي تشترك في المعاناة، والفقر، والألم، وأحيانا القليل من النجاح.
في عملها السينمائي الأخير “على الهامش”، اختارت المخرجة المغربية جيهان بحار، العودة إلى الهامش لتمتح حكايتها السينمائية، مقدمة للجمهور صورة عما يجري في هامش المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة، فهامش سنوات الثمانينيات والتسعينيات يختلف تماما عن هامش سنوات ما بعد الألفين، من خلال تبدل نمط العيش والتفكير، وبروز بعض الظواهر الاجتماعية الجديدة.
قدمت المخرجة عبر المزاوجة بين ثنائية الدراما والكوميديا السوداء، قصصا لثلاثة علاقات حب، لكل منها مسارا مختلفا عن الآخر، لكنها تشترك في العيش داخل بيئة اجتماعية يسودها العنف، والإجرام، والخيانة الزوجية، والتفكك الأسري، والاستغلال الجنسي للأطفال، والاتجار في الممنوعات.. إن الهامش هنا ليس مجرد فضاء جغرافي، بل هو فضاء نفسي واجتماعي مليء بالتناقضات، حيث تصبح المواقف اليومية مصدرا للدراما السوداء.
وحده الحب من يدفعنا إلى التضحية على سبيل البقاء بجانب الطرف الآخر، حتى ولو كان هذا الحب من جانب واحد، كما هو الحال مع عزوز (عزيز داداس) الذي فعل الشيء الكثير من أجل سعاد (ماجدولين الإدريسي)، التي كانت تخطط للحصول على دبلوم مزور لدكتوراه في الطب، بمساعدة من عزيز الذي وجد نفسه فجأة في فضاءات الدم للحصول على الأعضاء البشرية وإعادة الاتجار فيها، تأمينا لرسوم شهادة الدكتوراه المزورة، بيد أنه رغم كل المجهودات المبذولة من عزوز اتجاه سعاد إلا أن الممرضة لم تبادله الحب في يوم من الأيام..
يقول محمود دروش:
“لا أحد يتغير فجأة ولا أحد ينام، ويستيقظ متحولا من النقيض للنقيض،
كل ما في الأمر، أننا في لحظة ما،
نغلق عين الحب ونفتح عين الواقع،
فنرى بعين الواقع من حقائقهم ما لم نكن نراه بعين الحب،
في عين الحب”.
ومن أجل الحب، فعلت نعيمة (فاطمة الزهراء بناصر) الشيء الكثير للحفاظ على الترابط الزوجي بأحمد (عبد اللطيف شوقي)، الذي سيعتقل على خلفية الاعتداء الجنسي على الأطفال الذين كانت تستدرجهم نعيمة للمنزل. وجود أحمد خلف القضبان، لم يثنيه عن مطالبة الزوجة نعيمة بـ”المزيد” من التضحية، حيث وجدت نفسها مدفوعة من أجل تأمين مبلغ مادي لضمان خروجه من خلف القضبان، ومما اهتدت إليه، إقناع ابنتها ببيع أعضاء جسمها، وبعد رفضها، ستتورط في قتل جارتها التي كانت على علاقة حميمية بزوجها.
تقول غادة السمان:
“أحبّ خياناتك لي
فهي تؤكّد أنّك حيّ
عاجز عن الكذب وارتداء الأقنعة
توجعني الأقنعة أكثر من وجعي بالخيانة
أحبّك لأنّك متناقض
لأنّك أكثر من رجل واحد
لأنّك الأمزجة كلها داخل لحظة تأجّج
أحبّ إيذاءك البريء لي
وأنيابك التي لا ترعف خبث مصّاصي الدماء
..
أحبّك لأنّك حين نتواصل، أصير قادرة على فهم الحوار بين النّوارس والبحر
رجل مثلك
لا تقدر على احتوائه عشرات النساء
فكيف أكونهنّ كلّهن مرة واحدة يا حبيبي؟”.
وإذا كان عزوز يحب سعاد من جانب واحد، وكذلك تعلق نعيمة بأحمد من طرف واحد، فإن المخرجة قدمت لنا شكلا آخر للحب، يتعلق الأمر بالعلاقة بين ياسر (خليل وباعقى) وياسمين (هند بن جبارة)، حيث يتجلى الوفاء والارتباط الحقيقي ببعضهما البعض، ذلك أن ياسمين ظلت على علاقة بياسر الذي كان يعيش في الشارع ولا يعرف شيئا عن عالم الاستقرار في البيت، رغم أن الشابة كان بإمكانها سلك طرق أخرى بعد هروبها من البيت الذي لم يصبح آمنا بعد تعرضها للاغتصاب من والدها (زنا المحارم).


ولأن الحب يستدعي السخاء، فإن ياسر سيهب حياته من أجل ياسمين التي كانت في حاجة إلى زراعة “القلب”، بعد فشل محاولات تأمينه من الخارج.. وكانت قبلة الوداع والاستحمام في البحر باللباس الأبيض، رحلة ياسر من عالم الدنيا المزيف، إلى فضاء الآخرة حيث تتجلى الحقيقة..
وفي علاقة ياسر بياسمين، تحول الحب إلى قوة دافعة للبقاء وسط بؤس الهامش، حيث يظهر الوفاء والتضحية الحقيقية بين الشخصين، في صورة تجسد أقصى درجات التضحية، وهو ما يبين كيف يمكن أن يكون الحب متنفسا ولو مؤقتا في عالم مظلم ومليء بالمطبات، وهكذا سيكون هذا الحب الذي شد انتباه الجمهور، مختلفا عن باقي الأشكال الأخرى التي تنطوي على الخيانة وخيبات الأمل.
ومما قاله جلال الدين الرومي:
“لا يهدأ قلب العاشق قط ما لم يبادله المحبوب الوله، وحين يشع نور الحب في القلب فذاك يعني أن هناك إحساسا بالحب في القلب الآخر”.
لقد استرعت ثيمة الحب باهتمام المخرجة جيهان بحار، مقدمة مظاهره عبر فعل التضحية، ذلك أن هذه التضحية تزداد شدتها عندما يتعلق الأمر بساكنة الهامش، التي تئن تحت وطئة الحاجة والحرمان والفقر والبطالة، وهو ما يدفعها أثناء الأوقات الصعبة إلى الحلول المتطرفة والعنيفة، كاحتراف السرقة والاتجار في الممنوعات..
وينظر استنادا إلى القصة الفيلمية، إلى أن الحب المتبادل، هو شرط نجاح العلاقات، وأي حب من طرف واحد فحتما سيكون مصيره الإخفاق والتلاشي..

إن كاميرا جيهان بحار وضعت مسافة بينها وبين الموضوع، وتركت الجمهور ليحلل الفيلم، انطلاقا من الوضعات الثلاث التي قدمتها، بدل أن تنتصب طرفا لمناصرة هذه الجهة أو تلك، مكتفية بنقل الواقع بكل تمثلاته الاجتماعية والثقافية اتجاه الحب، أحيانا بشكل عنيف ولغة شفافة كما هو سائد في الشارع، بل والمنازل التي تعرف صراعات وتفاعلات حول أشكال الحب، لهذا سيكون العنوان الثاني للفيلم باللغة الإنجليزية “TRIPLE A”، الذي يوحي إلى وجود ثلاث مسارات مختلفة في الحب.
وفي هذا الصدد، حاول هذا العمل السينمائي الذي حصل على العديد من الجوائز داخل وخارج المغرب، أن يصور لنا تمثل الحب لدى مجتمع الهامش، دون أن يقدم لنا لمحمة عن طبيعة الحب السائد وسط الطبقات الاجتماعية الأخرى، التي يختلف أسلوب تصورها للحياة والعيش والتفكير عما هو سائد بين ساكنة الهامش.
ومع توالي الأحداث السردية، سيكتشف الجمهور تدريجيا العلاقات المتقاطعة بين الشخصيات، التي لكل منها طموحات تحركها داخل الحكاية السردية، وكان الزمن الفاصل في نجاح أو إخفاق العلاقات التي سيكون مصيرها التشظي والتلاشي في النهاية.

< بقلم: يوسف الخيدر

Top