يعرف الخطاب التكنولوجي بقدرته على توفير أشكال متنوعة من إمكانيات التواصل الإنساني، إذ إن أهم المكونات التي تجعله يمتلك سلطة التأثير والاحتواء هي الصورة في بعديها الفني والجمالي. واليوم نجد أن الإنسان أصبح تفكيره تكنولوجيا لا يخرج عن نطاق الصورة والرقميات في كل إنتاجاته وإبداعاته وكل منابر التخاطب. وقد جعلت درجة الصناعة وفنيتها الإبداعية خطاب التكنولوجيا يستولي على العقول والرغبات الإنسانية، إذ خلف مشاعر الدهشة والانبهار. فإذا كان الإنسان يجد في التكنولوجيا مزايا مختلفة توفر له التفاعل والتواصل والإنتاج، فإن بإمكانه أن يجد فيها ضررا يضرب في الذات الإنسانية إذا ساء استعمالها. وقد كان من أسباب غواية الإنسان بالصورة وضعف تلقيه لها ومعرفته بإمكانياتها الفريدة، هو شعوره تجاه الصورة بالانبهار الواسع أمامها. وعلى مستوى فكرة الانبهار يقول عبد الكبير الخطيبي بأن التخلص من هذا “الانبهار ينبغي على المتفرج المشاهدة وفك الرموز في نفس الآن. ولفك الرموز ينبغي تعلم عقلية إنتاج العلامات والصور،”(1) فمسألة الوعي بإنتاج الصورة وكذا تلقيها تعد أساسية للحيلولة دون الوقوع في الانبهار والاستلاب.
ويحثنا الحديث عن الخطاب التكنولوجي وعلاقته بالشر، إلى استحضار ملامح حدوث الشر وانتعاشه في الواقع المعيش. وقد كان أول قضية يتم استغلالها هي الوعي بالانتماء الهوياتي وعلاقته بقيمة الاختلاف. فإذا كان الانبهار يخلف ضعفا في التلقي والاستهلاك للصورة، فإنه في الجانب المتعلق بإنتاج الصورة يوجد منتجون سياسيون وكذا حاملو الخطابات اللاإنسانية يعملون على تسليع صورة وفيديوهات تحمل أفكار متعصبة ومتطرفة وكذا أفكار عن الجهاد، هذه الصورة في مضمونها؛ تعزف على أوتار حساسة من قبيل الانتماء الهوياتي وبالتالي حدوث ردود فعل وكذا تفاعلات مع الخطاب البصري، والذي يجد في معظم الحال قبولا لدى الناشئة بفضل سلطته، وما يحمله من آليات إقناعية. فالقبول يعني الاستهلاك، والاستهلاك يؤدي إلى الإنتاج، أي؛ إنتاج ممارسات وسلوكيات كلها تنضوي تحت مفهوم الشر. فكيف يمارس الشر في علاقته بالخطاب التكنولوجي؟ وما النماذج الممكنة التي ينبعث بسببها الشر كرد فعل لبروزها؟ وكيف يمكن الحيلولة دون الوقوع في ممارسة الشر؟ فإذا كانت ظاهرة الأصولية الدينية نموذجا للخطاب الذي يبعث بالعنف وكل ملامح الشر الإنساني، فكيف يستطيع الزعيم الأصولي تسليع خطابه لدى الناشئة الاجتماعية ويوجد له قبولا لا مثيلا له؟ وقد ظهرت اليوم ما يسمى بالتربية الإعلامية، فكيف يمكن للمدرسة أن تؤسس شكلا نظريا يعلم الناشئة سبل استهلاك الخطاب الإعلامي بمناعة وحصانة من السموم المعرفية؟
الأصولية الدينية والخطاب التكنولوجي
يعد الانتماء الديني أكبر وتر حساس في مكونات الهوية، إذ يشكل الدفاع عنه قلقا مستمرا لدى الفرد والمجتمع، وهذا طبعا راجع أولا لتعدد الأديان، ثم لأزمة الحوار بينها ومن ثم أزمة التعايش. وفي العلاقة مع الخطاب التكنولوجي فإنه يساهم بشكل كبير في انتشار الفكر الأصولي الجهادي، والأصولية حاضرة في الإعلام باعتبارها عنصرا أساسيا في المشهد الاجتماعي والثقافي والسياسي وحتى العسكري، ومن هنا يتساءل عبد الله بريمي من أين يستمد الخطاب الأصولي قوته التواصلية التي صار بفضلها خطابا متداولا بصورة كونية خاصة في الأنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي؟(2)
يحاول السميائي ماسيمو ليوني في كتاب “سميائيات الأصولية الدينية”، وهو نموذج لاشتغال سمياء الكون، الالتفات للظاهرة الأصولية باعتبارها علامة تنشط بين حدين أساسين هما الإنتاج وسيرورة التلقي؛ بمعنى حيثيات إنتاج هذه الظاهرة والعوامل البانية لها، والكشف عن آثارها وتجليات تلقيها كعلامة تتوغل في المجتمع وتتربع على بنيات خطابية وآليات إقناعية تستفيد من علم البلاغة وكل ما يوفر لها بعدا من الاحتواء والسلطة على المتلقي. وقد عمل عبد الله بريمي، الذي ترجم كتاب “سميائيات الأصولية الدينية، خطاباتها، بلاغاتها، وقوتها الإقناعية” لماسيمو ليوني، على توصيف الآليات الإقناعية التي توظفها الأصولية الدينية مؤكدا ما يلي:
> إنّها تقنيات وآليات وأشكال بلاغية تتلبس بلبوس ديني.
> إنّها تستغل حداثة وسائل التكنولوجيا، التلفاز والكومبيوتر، بالرغم من كونها تشكك فيها وتطعن في الحداثة.
> إنّها تتمسك بأفكار الماضي وتعتبره المقياس الذي يجب أن يقوم عليه الحاضر فكرًا وممارسةً مع تغييب كل مظاهر التحول الزمني.
> إنّها تعتمد منطق إقصاء كل تأويل ديني آخر من طرف أي جماعة دينية أخرى، وهذا منبت العنف ومنشأه في هكذا تصورات”(3)
تعد “الأصولية ظاهرة من أكثر الظواهر تعقيدا في عالمنا المعاصر وأشدها خطورة على الإنسان، يتعلق الأمر بظاهرة الأصولية الدينية في أبعادها التطرفية والاستئصالية وما تنتجه هذه الأصولية من خطابات لتصريف مواقفها وإيديولوجياتها التي تلبس لبوس الدين من أجل السيطرة على العقول الشابة، وكيف تتحول هذه العقول في رمشة عين إلى عقول أصولية متطرفة في منازلها وأمام شاشات حواسيبها.(4) وتجب الإشارة، في العلاقة مع النزعة التحريضية التي يمارسها الأصوليون والمتعصبون اليوم، إلى أن جيل اليوم أصبح يستهلك الرقميات والتكنولوجيا بشكل غير مسبوق، إذ أصبحت أشكال التواجد الإنساني؛ من تواصل ومعرفة، رقمية وإليكترونية. لهذا يمكننا الإشارة إلى أننا في حاجة لإدراج التربية الإعلامية داخل البرامج والمواد الدراسية لتسهيل استهلاك التكنولوجيا والتعامل معها بحذر ومناعة تحيل دون الخضوع لسيطرة الأفكار المتعصبة التي تبث في أشكال تواصلية ورقمية من قبيل اليوتوب والألعاب والفايسبوك. هذه التربية الإعلامية من شأنها أن تربِّي النشء الاجتماعي ككل على أن يكون كفؤا في تحليل الخطاب الإعلامي والتكنولوجي لا من حيث آليات وحيثيات إنتاجه أو من حيث إشكال تلقيه. وليس الأصولية هي السم الوحيد الذي يبث رقميا، بقدر ما هناك منتوجات لا حد لها. نعم إننا في حاجة لترياق فعال يحمي الأطفال من سموم التكنولوجيا. يقول جون لوك غودار: “عملنا هو التحرر من أغلال الصور المفروضة من طرف الأيديولوجيا الإمبريالية من خلال جميع أجهزتها: الصحافة – الراديو – سينما – أسطوانات – كتب).”(5) هذا ويعد الإعلام اليوم أهم ما حصلته للتكنولوجيا، فهل يجب أن نعتبره أداة حرب أم وسيلة للمعرفة؟ ويمكن للإعلام أن يخدم الحرب كما يمكنه أن يخدم السلم، لذا فنحن في حاجة لمخلص من المأساة، وهذا لن يتحقق إلا بإرادة سياسية وأخلاقية، ليعم السلام.
يؤكد عبد الله بريمي إن “السميائيين دائما يلقون نظرة مزدوجة حول وقائع الحياة الاجتماعية: فهُم يدرسون الكلمات، وباقي أشكال التعبير الإنساني لفهم دلالتها، وبعد ذلك يتساءلون عن بنية المعنى لفهم أفضل لكل تجلياته وتمظهراته في الواقع، إنهم ينظرون أيضا في مسألة شائكة وأكثر أهمية: يتعلق الأمر بأعراض الأصولية وعلاماتها وطريقة اتصالها بالعالم وعلاقاتها بمتغيرات وطوارئ الحياة الاجتماعية وبتطورها.”(6) فإذا كانت الدراسات السميائية بمختلف مقارباتها ونماذجها النظرية قد سعت محاولة أن تبلغ لعمق الظاهرة الأصولية وتعرض لنا سيرورات استهلاك الخطاب الأصولي وآليات الإقناع الممكنة، فهل تستطيع أن تكشف لنا عن آثار وأجواء التلقي من طرف الشباب ككل؟ واليوم نجد أن البلاغة ثارت على كيانات اشتغالها القديمة كالشعر والخطابة، إلى أن بنت ووسعت حدودها في المنابر التكنولوجية والبصرية. لذا فإن قوة الإقناع في الخطاب الأصولي “تتبدى في قدرته على تقديم رؤية مبسطة واختزالية للحياة والمجتمع، وخاصة في اقتراحه مسار وجودي محدد سلفا، حيث الأفراد يتعرفون على أنفسهم لا من خلال حرية قراراتهم، بل من خلال الحاجة لعضويتهم وانضمامهم إلى هذه التنظيمات. ويمكن الإشارة فقط إلى عنصرين لعبا دورا محوريا للغاية في تدبير هذا الإقناع، يتعلق الأمر من جهة، بتعريف المجموعة في ارتباطها بعدو يلزم محوه وإبادته؛ ومن جهة أخرى، بتعريف الفرد في ارتباطه بفكرة الاستشهاد، وهو تعريف وجودي متطرف يتحيّن عبر تحويل الفرد وغسل دماغه والانفصال التام عن الأسرة الأصل والهجرة إلى «أرض الجهاد«، والانضمام إلى «أسرة» أصولية جديدة، ثم عبر القتال والبحث عن موت بطولي.(7) لهذا، فإن عملية استقطاب الشباب وإغواؤهم للانتماء في أسرة جديدة تحتوي آماله وتمنحه هوية جديدة، لا تتم هكذا عن طريق ألفاظ لغوية مبتذلة وبسيطة، بل يتم ذلك عن طريق خطاب يعزف على الأوتار الحساسة لدى الشباب بحسب الانتماء الديني الخاص به، وظروفه المعيشة وطموحاته، في هذا السياق يؤكد عبد الله بريمي بأن الزعيم الأصولي وهو يحاول الإيقاع بضحاياه فهو يعتمد “على مجموعة من الخدع، وتتمثل في الإحاطة بكل تفاصيل حياة هؤلاء الضحايا النفسية والاجتماعية والمهنية والثقافية التي تكشف وضعهم وانتماءاتهم الطبقية.”(8) فالمعرفة بمستهلك خطاب الأصولية الدينية تسهل للزعيم الأصولي “الوصول إلى عقول الشباب، والزج بهم في غياهب مصير الفتك والتدمير والإبادة بكل معانيها، والدفع بهم إلى الانخراط في تنظيمات متطرفة.”(9) هذا وإن قبول هذا الخطاب الأصولي، هو بلا شك دلالة على أن الشباب وجدوه أسلوب حياة بديل مفعم بالبطولة والإنجاز والفوز بالحور العين والرضا الإلهي. قد نكون في حيرة ونحن نحاول استيعاب هذه الظاهرة ومظاهر تداولها واستهلاكها وكذا وجود قبول لها في الأوساط الاجتماعية، وهنا نتساءل إزاء العالم الثالث، كنموذج يفتقر لتعليم وثقافة يصلان حد الإشباع، ثم تربية إعلامية تمكن من استيعاب الخطاب الإعلامي والتكنولوجي، ألا يكون الفقر وتردي الأوضاع الاجتماعية والتربوية سببا في استفحال الظاهرة وانتشارها. فكيف لشباب بلا عمل ولا شغل ولا أمل أن يمتلك مناعة ضد خطاب متطرف ولا معقولية له؟ لأن الشباب حينما لا يجدون سببا لوجودهم في الحياة، فإنهم ينتظرون أي شيء كيفما كان ليتمسكوا به ويشعروا من خلاله بالانتماء.
الهوامش:
• عبد الكبير الخطيبي: المغرب العربي وقضايا الحداثة، مرجع مذكور، ص:74 و75
• عبد الله بريمي في حوار بالعلم حول قضية الخطاب الأصولي، حاوره عزيز اجهبلي، 27 نونبر 2015.
• عبد الرحمان النوايتي: نحو مقاربة علمية لظاهرة التطرف الديني، قراءة في كتاب: سيميائيات الأصولية الدينية، خطاباتها، بلاغتها، وقوتها الإقناعية لماسيمو ليوني، ترجمة وتقديم الدكتور عبد الله بريمي، 15 يونيو 2016، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
• عبد الله بريمي حوار حول قضية الخطاب الأصولي، مرجع سابق.
• إقبال المعطي: آثار وانعكاسات السينما المستوردة على شباب حي يعقوب المنصور – الرباط، ضمن “السينما العربية والإفريقية”، تأليف جماعي، مجلة الثقافة الجديدة، دار الحداثة، 1984، ص: 142
• عبد الله بريمي في حوار حول قضية الخطاب الأصولي، مرجع سابق.
• المرجع السابق.
• ماسيمو ليوني، سيميائيات الأصولية الدينية: خطاباتها، بلاغتها، وقوتها الإقناعية، ترجمة وتقديم عبد الله بريمي، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، ط 1، 2016 عمان، الأردن، ص:14
• عبد الله بريمي في حوار حول قضية الخطاب الأصولي، مرجع سابق.
> بقلم: عبد اللطيف الدادسي