ترى يا زمن أيطول الغياب؟

لازلت غير معتادة على هذا السكون، بعض مني كشتاء في مقام الذاكرة، يتكور خلف أستار الماضي، والبعض الآخر يشق عباءة الحاضر يعاقر البقاء، والصمود، يظهر عكس ما يبطن، ويتجلد بالصبر حتى يعبر فوق جراحه، يتقلد الصمود، يمانع إظهار الضعف، ربما يوما ما يعبر الوجع، وأنسى ألم الخذلان.. 

يخبرني الليل أن قناديل الذكريات ليلة أمس اتكأت على أهداب الروح، وأن ديمة تختبئ في ظل لحظ الأحلام، وقد بعثرت ودقا وامتزجت بمداد القصيدة الشاردة البربرية، والسنون هو الآخر أوشى لذاك الغائب بأن لا يعود، ولا أعود، والحنين فقد ضالته وفقد الصواب، وأصبح كنقش متمرد على ثوب الوقت. 

لازلت أحمل الكثير من الغضب تجاه المعركة، تلك التي اضطررت إلى تحملها، ولا أغفر لأصابع الأيام التي شكلت قبضة الهم مجددًا، وربما لا أغفر لهذا الصوت حين يظن أنه مازال مجبرا على أن يصرخ  

لقد أدرت فعلا خدي هذا مرات عديدة.

والآن لا أعرف أي جهة علي أن أقابل، لأتنهد ملياً، ألتقط أنفاس الوقت وألقمها أنفاسي وأتخذ لها من زجاجات عطر الضياع رئة لأتنفس الوجود. 

يا ثوباً من ضباب… يا أنا !!! 

يا مجرتي وكل نجومي.. دعيني أكون هدباً بين أهداب السكون، أو إن شئت خيطاً يتدلى من ذيل وشاح الأمل. 

لتتكون شرنقتي، وكل أركان الدفء، وكل كومات الرفق بداخلي، وتتهاوى كل تلك النهايات الحتمية الراكدة بجوفي، وتلك الأوجاع النائمة على حدود الغياب المعذب، وتلك الآهات حين سفر عبر الخيال، وأنا أطالع الأفق البعيد حد القرب، والقريب حد البعد الغير المنتهي، وما بين صراعات الحياة، والبقاء الزائف على قيدها، بلا روح، بلا قلب أنا أدور في فلك الجنون. فالروح رحلت منذ زمن بعيد، والقلب من بعدها في الذات اغترب، آآه منها ! !

ومن تلك الصراعات حين تفترش أرجاء الروح في هذه الحياة، وأي نهاية للوجع فيها؟

ولا نهاية ترجى منها…. 

أخاطبك يا أنا…

يا آنية الطهر، يا جورية تعانق ظلال أحلامي.. يا أطياف السماء … يا ريشة في مهب الشوق… يا عري ذاتي المنكسرة…

أسكن في جنح الليل كل مساء، يا نسخة من روحي طوت حــنايا الوقـت، وغنج أمنيات كعبق عيد عتيق بلا استحياء، فنمت على ظلي المخمور، وتركت تلك النبرات أصوات الخواء، تهمس على المرافئ الباكية الصماء.

يا رحيق سُمالي، أرسم على خدود يدي، ذاك الحلم الملائكي كشهقة شوق غبشاء، نمت على خدود ليالي، فتكسرت على مرايا الانتظار أقمارا في حضن أقمار، لأقيس المسافة بيني وبين ظل عيني، وذاك الحلم الشارد الحرون، وشهقة الشوق المجدولة بالحنين، وغنج الأمنيات، تارة نجر أقدام الشوق على عتبة الانتظار لنضم ظلالها المخمورة على خطى أقدام القدر، كريشة في مهب العمر.

فيا عري ذاتي المنكسرة التي تسكن في جنح الليل. 

تذكرت، وتذكرت ذات وجع كيف بلحظة أصبح اليراع عرجوناً، ظل وتاه مع الريح، والقوافي هي الأخرى عاتبت كل الألوان، واختارت لون الحداد.

كل هذا في لحظة، فأين الكبرياء والصخب؟

وأمسيات التعب والأحلام لم يبق منها إلا عطر اللحظة، ونسائم الذكرى تهب على الأحلام ثم تتوارى خلف الغرباء، والزهاد، وحاملي الحقائب الراقدة على خد الدروب، وأصحاب الرسائل المستعجلة، وعابري السبيل، ومن يختمون فم المكاتب بثرى اللقاء، قاب قوسين أو أدنى مني.

وحين عانقني همس النوافذ المطلة على الضفاف، سرى دفء غامر في الروح، ورحت ألون بنسائمه رماد المداخن الساكن في السلال المعتقة، وبنبيذ المراكب السارية عبر الظلال، تهت وعبرت الحلم الذي يحيرني لونه والخريف.

كيف لا؟ وهو الذي يختال بين الجفن والهدب، ويذهلني كل برهة ذاك البريق الذي يسكن اللحظ في قمة الوجع. 

فيا أنا!!

يا امرأة ضيعت طريق العودة للذات دون سبب،

ويا عاصفة من سنابل الحزن على ناصية الوجع!!

ويا ريق ساقية من برق ورعد!! 

ويا خوفاً منقوشاً على ثوب الليالي أين اللقاء وليالي السهر ضائعة؟

ويا قصائدي الحبلى بالسجع ما سر هذا الحزن القابع في الأحداق ويأبى الهرب؟

اكتبيني أيتها الحياة بيتاً في قصيدة بربرية بمداد من ود وقرطاس وأتركيني بين أروقة الحياة بين الأمان والهلع  أو إن شئتِ ذوبيني في ذواتك وعلى جدارية الورد اسكبيني حرفاً من شغب..

وكم مرة وقفت شاخصة في طريق النور بعيدا عن سطوة الظروف وظلامها القاهر أنحت الفجر بالصخر والصبر وبشغف أتسلّق أمواج الغربةِ على طول المدى بلا كلل في المسير وبلا تعب ولا تماهل أطوي المآسي لأتهاوى في دروب الذُهول كعصف مأكول عبثت بهِ الريح وركلته زفرات الحظ  لتلتقطني  محارة الضياع  وعلىٰ سعير ذَوَى باحتراقِ المشاعل أتلاشى  وليسَ لأجراسِ القهرِ من سكون..

فيا أيها العمر المتلاشي 

ويا أيتها الأيام الشاردة 

 ما دامَ دفقُ الوتين ينبضُ بالعروقِ لن تأخذني المفارقاتُ إلىٰ جزرِ اللاعودة ولن  أقُومُ  بلعبةِ التخفي وراء الأوهام  ولن يرحل ذاك الحرف  النزق من ذاكرتنا حين يغادر حزمةَ الرسائِلِ المربوطة بشريط أحمَر  

كم مرة حكى في كفي خط الحياة أن امرأة الحبر، تلك الغريبة التي لا تعرف كيف تسنى لحبرها وعطرها وحرفها أن يتسلل إلى خبايا قلبها التعب، هذه التي تأتي الحياة  شهية كلما غابت عنها البسمة، وكأنها لقمة تـتمنعُ عن فم الجائع حتى يوشك على الهلاك، فتأتيهِ كآخر رمق للحياة، وآخر طوق للنجاة..

كأنها غيمة لا يحلو لها الهطول إلا بعد أن يوغل الجفاف والقحط في كيانها، ويتسرب الأذى إلى الأعماق رويدا رويدا، هذه التي لا تأتي العمر إلا على صهوة الوجع، موسومة بكلّ ما له صلة بالحزنِ والألم. 

امرأة  لا تعرف الحياة  كيف تكتبها كيف ترسمها وكيف تصنع لها في الخيال تمثالا من غيم وسحاب، أو تضع لها أسورا  تعلقه على جدران قلبها، لئلا تنسى ملامحها الباهتة المؤذية هذه التي تؤذي نفسها حين تكتب، ويؤذيها الحرف حين ينطق، يؤلمها ذلك الصوت الجاف الذي كلما رافقته الموسيقى أصبح عاريا تماما من واقعها، يتدفّق منها كمطر خفيف بداية الخريف، يغمرها فلا تعود تدري أين محلها من إعراب حياتها.. امرأة  لا تجيد الاختباء وراء صوتها، لأن نبراته تشي بكلّ ما فيها، فتراها أمام الحزن كلمات لا تفهمها، لكنك تشعر بها داخلك.. كضياع في منعطف خارق للظلال تتناوب عليه الحركات وينبري منه السكون باهتا يتدثر الشجن بأوجاعها. 

يلوك آلامها يخاطب روحها وسخرية الزمن وديمومة الأنفاس تتلخبط مع نبضها كحشرجة الثورة التي تتغلغل في ثناياها فتطفو روحها كسحابة الموت فوق رؤوس السنين لتنبئهم بغيث الخلاص تمطرهم وابلا من العتاب والحرائق الماحقة..

وتلاحق  كل أمل في الهروب من أيادي الغدر العابثة بكل مقدس في حياتها وبكل سماوي حفظته الشرائع ودنسته الأيادي العابثة في عمرها. 

 آه يا جرحا لم يندمل وصدى الآهات العابرة يتغلغل فيه ليبقى رنينها في المسامع كصوت منكوب قد سقط في الهاوية.

تخذلها الذبذبات التي تأتي من أعمق نقطة في الروح، فتبدو الروح نفسها شاخصة بكلها، أمام كل ما تقوله وتبوح به، وحتى ما تخفيه وتتركه معلقا ما بين الصدر والحلق، تختنق مرارا، لا هي تريد أن تبقى حبيسة القلب والروح، ولا هي قادرة على الخروج إلى ما هو مجهول  بكل أركانه.

تقتلع ذاك اللقاء مع ذاتها من حدود الأمان في عواصف الحياة وتلك الأيام المتعاقبة عليها بما تحمله من ملل وبكاء خافت يهز أرجاء الروح ويقتل الأمل فيها ولم تعد الذكرى تكسر خاطرها ولم يعد لها في القلب ذاك الحنان المدلل ولم تعد تطرق باب الوصال وكلها جنون جموح لبر الأمان..

وكأنها كانت أضغاث حياة قضت مضجعها بوهم أمل وفيه براءة قلبها ما أوفت حق الغدر والهم وانتهى الحلم من حياتها بفراق أعاد توازن روح لطالما بقربها اختل.. ليظل حلمها معلقا ما بين أرضِ وسماء، ما بين عالمين لا يجمع بينهما إلا طقوسِ تلك الغريبة الوحيدة الجالسة على أوجاعها، تخيط ما تسنى لها من جرح، وتسكب على ما تبقى منها ملحا لئلا تتفتح أكثر، ويتلوث المكان بغربتها.

وهي لا تملك إلاَّ أنْ تصفقَ راحاً براحٍ كلما تعانقَتْ هيّ والقذى ظاهرُها همسُ وباطنُها عمقُ البحارِ مكتوبة بالدمعِ مبللّة بالوجعِ وعلى أديمها ملحٌ أجاجٌ قدْ ضجّتِ الصدورُ فتقيّأتْ غصص بوحِها وهجاً يضجّ بالاحتراقِ نفثاتٌ حانيةٌ كحبّاتِ الندى تروي وردَ أحواض مهجورةٍ لا تصلها شمس تحترق أو بركانٌ يلتهبُ فيتردّدُ الصدى بينَ مساماتِ الصمتِ وينادي على الغيمِ ليمطرَ فتتدلى رسائل مغلفةٌ بأغلفةِ الصدقِ مكتوبةٌ برحيقِ الوردِ مهجَّنةٌ بالأقاحي والأريجِ زنابق تنمو على أوراق مبعثرةٍ فيشعّ ضوعها عبرَ المدىٰ.

موجع يا زمن  أن تمر تلك المرأة بالديار ولا تجد من ألفتهم فترى مطاياهم عليلة على الأعتاب والأبواب مغلَّقة وقميص الحرف قُدَّ من كل اتجاه كل شيء في مكانه والقصيدة الأخيرة والردود الباردة وصور يغلفها الحزن ومقل تبحث هنا وهناك ودمع يستبيح النوافذ والسطر يسأل الحرف ويتجاهل الجواب.

ترى يا زمن أيطول الغياب؟

بقلم: هند بومدين

Related posts

Top