بعدما صمدت لآلاف السنين ولم يغير الزمن من معالمها الجميلة شيئا، لم يكن يتوقع أحد أن جمالية الدروب ورونق البيوت سيتغير في لحظة، ثوان معدودة كانت كفيلة أن تهد تاريخا عريقا شيد على مدى عقود.
هكذا حال المدينة العتيقة لمراكش التي تعد الأكبر تضررا بالمقارنة مع باقي أحياء ومناطق المدينة الحمراء، انهارت البنايات وانهارت بعض المآثر التاريخية، وتحول الفضاء الضيق لدروب المدينة العتيقة من فضاء يعشقه الناس للتجول والسياحة نحو فضاء يفر منه الجميع وتفر منه ساكنته.
لحظة الزلزال، لحظة فارقة في تاريخ ساكنة المدينة العتيقة التي ارتبطت بها أيما ارتباط، فالزلزال أفرغهم من منازلهم قسرا، وطغى الخوف من أن تُكمل الهزات الارتدادية عملية الهدم التي قادها زلزال الجمعة الماضي بشكل مفاجئ.
وبعد أن كانت عائلات وأسر ترفض عروضا مغرية لبيع “رياضاتها” ومنازلها لبعض المستثمرين والأجانب الذين يشدهم عبق التاريخ لهذه المدينة، أصبحوا في لحظة يفرون ويلوذون بالفضاءات المفتوحة والآمنة، ولم تعد تلك البيوت توفر لهم الأمان والسكينة التي عاشوا فيها لعقود.
الأسوار الحمراء صامدة من العصور الوسطى
المدينة المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، تضررت معالمهما بشكل كبير، كما عاينت ذلك “بيان اليوم” خصوصا بعض المآثر التاريخية المشهورة، وفي مقدمتها الأسوار الحمراء التي يعود تاريخها إلى العصور الوسطى.
هذه الأسوار المحيطة بالمدينة القديمة في مراكش، والتي بنيت في 1071-1072، كعاصمة للدولة المرابطية ثم للدولة الموحدية، تعرضت هي الأخرى لأضرار بالغة في أجزاء منها، ولم يشفع لها صمود قرون من الزمن أن تصمد لحظة الزلزال المدمر.
لم تسلم الأزقة داخل المدينة هي الأخرى، والتي ملأها ركام البيوت التي تهدمت بالكامل، فيما بقيت منازل على شفا الانهيار في أي لحظة بعدما اهتزت وترنح توازنها وتنذر بسقوط قريب.
حي الملاح التاريخي الذي استقر به اليهود في مراكش في تاريخ قد مضى، تدمرت بيوته بشكل أكبر، وتحول 60 بالمئة من مبانيه وفضائه إلى أنقاض وركام وغبار ملأ المكان، حيث لم يعبئ الزلزال برمزية المكان وتاريخه، فالظاهرة الطبيعية لا تفرق بين تاريخ وحديث، وعنف الهزات الأرضية سوى كل شيء بالأرض.
مسجد الكتبية.. ضرر غير خطير والسلطات تغلق المكان
وما يحزن الناس في مراكش بالإضافة إلى ما خلفه الزلزال هو الإغلاق الفوري الذي قامت به السلطات لجامع الكتبية الشهير الذي كان قبلة للسياح من دول مختلف من أنحاء العالم.
المسجد التاريخي الذي بني عام 1147 على أنقاض أحد القصور المرابطية القديمة، والذي تزيد مساحته عن وتبلغ 5300 مترا مربعا، ويتكون من 17 جناحا، و11 قبة مزدانة بالنقوش، ويزيده بهاء طابعه المعماري الأندلسي، تعرض هو الآخر لأضرار في صومعته التي تشققت.
تخبر ساكنة مراكش ممن كانوا لحظة الزلزال في عين المكان أن غبارا كثيفا صعد من الصومعة لحظة الزلزال وفر الجميع من الفضاء السياحي للجامع الكبير نحو جامع الفنا التي شكلت ملاذا آمنا للسياح وساكنة المدينة العتيقة تلك الليلة.
وحزن المراكشيين لإغلاق هذا المسجد، يرجع بالأساس لهول الصدمة، التي كان يعتقد الكثيرون في بداية الأمر أنها بهذه الحدة وبهذه الآثار التي جعلتهم يفقدون ولو لأجل لاحق حق الولوج لفضاء تاريخي كان يشكل على الدوام متنفسا لأهل المدينة وسياحها القادمين من بلدان مختلفة.
أما عن السلطة المختصة بالمدينة، فقد طمأنت هذه الأخيرة أن جامع الكتبية لم يتضرر بشكل بالغ كما يتخوف الكثيرون، وأن الأمر يتعلق بتصدعات وشقوق غير خطيرة برزت إثر الزلزال بالمئذنة والصومعة وبعض الأسوار.
وأوضحت السلطات أن هذا الإغلاق اضطراري وإجرائي من أجل الوقوف على حجم الخطر، قبل أن يتم إصلاح الأضرار الناجمة عن الزلزال في وقت لاحق وإعادة فتح المسجد وساحته وفضائه السياحي فيما بعد.
وغير بعيد عن الكتبية، لم يقاوم مسجد “خربوش” الذي كان يزين فضاء ساحة جامع الفنا الهزة العنيفة لليلة الجمعة، حيث انهار بشكل كلي، مخلفا ضحايا ممن كانوا لحظة الهزة بالقرب من ساحة جامع الفنا في تجاه دروب المدينة القديمة.
اليونيسكو والإيسيسكو تبديان استعدادهما للتدخل
وعقب الخسائر الكبيرة في المآثر التاريخية، كانت منظمة اليونسكو قد أعربت عن أسفها لتعرض تراث تاريخي مدرج ضمن قائمتها للانهيار سواء كلي أو جزئي بمناطق مختلفة بالمغرب.
وكان المدير الإقليمى لمكتب اليونسكو فى المغرب العربي إريك فالت قد قال في تصريحات صحفية “بعد كارثة كهذه، يكون الحفاظ على حياة البشر الأمر الأهم. ولكن علينا أيضا أن نخطط على الفور للمرحلة الثانية، والتى ستشمل إعادة بناء المدارس والأماكن الثقافية المتضررة من الزلزال”.
وتابع المسؤول باليونسكو: “يمكننا أن نقول بالفعل أن الأضرار أكبر بكثير مما توقعنا. لاحظنا تشققات كبيرة فى مئذنة (جامع) الكتبية البناء الأكثر شهرة، ولكن أيضا التدمير شبه الكامل لمئذنة مسجد خربوش فى ساحة جامع الفنا”.
بدورها، كانت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة “الإيسيسكو” قد قدمت تعازيها للمغرب في ضحايا الزلزال. حيث أكدت إثر ذلك استعدادها للتعاون مع الجهات المغربية المختصة في مواجهة الأضرار الناجمة عن هذه الهزة الأرضية، وتقديم كل ما يتطلب من دعم في مجالات الترميم وصيانة الآثار التي تضررت في بعض المدن التاريخية.
إجلاء السكان والبحث عن تجهيز بدائل أخرى للاستقبال
بدورها، شرعت السلطات في وضع عدد من الحواجز بالمدينة العتيقة لمنع الدخول إليها أو عودة السكان إلى بيوتهم خصوصا البيوت والمنازل التي تشققت بشكل كامل وأصبحت آيلة للسقوط.
ووضعت السلطات حواجز حديدية بعدد من الأحياء ومنعت الولوج إليها، فيما يواصل عشرات السكان بأحياء مختلفة بمراكش المبيت في الشوارع والحدائق والمساحات المفتوحة بعد أن فقدت بيوتها في الزلزال العنيف.
وحسب ما علمت به “بيان اليوم”، فإن سلطات مراكش شرعت في تجهيز ملعبي 20 غشت وملعب الحارتي لاستقبال ضحايا الزلزال، لاسيما ساكنة المدينة العتيقة التي دمرت بيوتها بالكامل.
وتواصل سلطات مراكش جهودها من أجل إعادة انتشار ضحايا الزلزال الذين هدمت بيوتهم ومنازلهم بعدد من الأحياء من أجل إيوائهم في مناطق مفتوحة وتوفير الحاجيات الأساسية على هذا المستوى.
وقررت سلطات مدينة مراكش وضع ملعب 20 غشت، رهن إشارة الأسر المتضررة من الزلزال حيث تجري عملية تجهيز الملعب الكائن بحي قشيش بالمدينة العتيقة، بالخيام والأفرشة والأغطية، وتزويده بالإنارة، من أجل إيواء الأشخاص الذين فقدوا بيوتهم جراء الزلزال القوي الذي هز المنطقة.
فيما يطالب عدد من النشطاء بالمدينة بالإسراع في استغلال ملاعب أخرى لإيواء المتضررين، ويتعلق الأمر بملعب الحارثي وملاعب القرب سيدي يوسف بن علي، وملعب القرب بالمحاميد، خصوصا في ظل استمرار ساكنة مجموعة من الأحياء في المبيت ليلا في الشوارع مع تجدد الهزات الأرضية والتي كانت آخرها أمس الخميس بقوة 4.5 درجة على سلم ريشتر.
مبعوث بيان اليوم إلى مراكش: محمد توفيق أمزيان
**********
عبد الواحد الجاي: المغرب في حاجة إلى 60 مليار درهم لإعادة إعمار مناطق زلزال الأطلس الكبير
تصل التقديرات المبكرة أو الأولية لحجم التكلفة المالية التي على المغرب أن يتحملها لمواجهة الخسائر الناجمة عن الزلزال المدمر الذي شهدته البلاد، إلى 60 مليار درهم، تتوزع بين مصاريف استشفاء ومعالجة المصابين وإعادة إعمار المناطق التي تهدمت بها البنايات السكنية والعمومية من مقرات إدارية ومدارس ومستوصفات، وتضررت فيها البنية التحتية بشكل كبير.
وأفاد الخبير الاقتصادي عبد الواحد الجاي، في اتصال هاتفي أجرته معه جريدة بيان اليوم، “أن هذه التقديرات الخاصة بالنفقات التي على المغرب تحملها ترتبط بالمعطيات المتوفرة في الوقت الراهن، أما تقديم تقديرات دقيقة حول حجم الكلفة المالية التي ستواجهها الدولة نتيجة الخسائر الناتجة عن الزلزال الذي ضرب منطقة الحوز بشكل كبير، غير ممكن في الوقت الحالي، ويرتبط باستكمال المعطيات عبر إحصاء الخسائر البشرية والخسائر المادية والتي تشمل المساكن والبنايات العمومية والبنية التحتية والأخذ بعين الاعتبار أيضا توقف النشاط الاقتصادي بالمنطقة وضياع مناصب الشغل وانقطاع مصادر الدخل”.
وأضاف أن حجم النفقات التي ينبغي أن تضاف إلى الميزانية، قد يصل وفق التقديرات المحتملة للخسائر الإجمالية، إلى نحو 60 مليار درهم على مدى السنتين القادمتين، موضحا أن تقديره بشكل أولي لهذه التكلفة تم بناء على بعض الفرضيات، من بينها أنه يرجح أن يبلغ عدد الساكنة المتضررة من الزلزال نحو 200 ألف نسمة، وأن يبلغ متوسط حجم النفقات المتعلقة بالتكفل بالأشخاص، نحو 200 ألف درهم لكل فرد، وذلك لتغطية مختلف الخسائر المادية بشكل كامل، كما يرجح أن يصل حجم النفقات التي تتطلبها عملية إعادة الإعمار وبناء البنية التحتية المتضررة نحو 10 مليار درهم، فيما يتوقع أن يبلغ حجم النفقات التي ينبغي أن تخصص لتعافي النشاط الاقتصادي وتقديم الدعم الاجتماعي على مدى سنتين بـ 10 مليار درهم أيضا”.
وحول مصادر هذه المبالغ، يشير الخبير الاقتصادي، أنه يمكن أن تأتي من مساهمات التضامن الداخلي التي يقدمها المواطنات والمواطنون، في حدود 10 في المائة حيث يتوقع أن يصل حجم هذه المساهمة 6 مليار درهم، والمساهمات المتأتية من المؤسسات العمومية والخاصة والتي قد تصل أيضا نسبتها 10 في المائة، بما قدره 6 مليارات درهم، هذا فضلا عن تخصيص 20 في المائة من ميزانية الدولة لهذه المصاريف بما قدره 12 مليار درهم.
بالإضافة إلى الدعم المالي الذي ستقدمه الدول الأجنبية الصديقة للمغرب والهيئات الدولية والذي قد يصل غلافه المالي إلى نحو 18 مليار درهم، بما يمثل نسبة تصل إلى 30 في المائة، هذا مع لجوء الدولة إلى الاقتراض الخارجي لتمويل هذه المصاريف والتي قد تصل نسبته إلى 30 في المائة، بما يقدر بـ 18 مليار درهم.
ويشار أن المغرب بناء على التعليمات الملكية أحدث صندوقا خاصا لمساعدة المتضررين من الزلزال، خصص لتلقي المساهمات التطوعية الخاصة والعمومية ومساهمات المواطنات والمواطنين، لتحمل عمليات النفقات المتعلقة بالبرنامج الاستعجالي لإعادة إعمار المناطق التي دمرها الزلزال، والتكفل الفوري بكافة الأشخاص بدون مأوى، وإعادة إيوائهم وإعادة الحياة الاقتصادية.
وفي المقابل، كان البنك الدولي في بيان أصدر عقب الزلزال الذي شهده المغرب، قد أكد على تركيزه على مساندة الشعب المغربي والسلطات التي تتعامل مع هذه المأساة.
فنن العفاني