يعتبر الناقد الأدبي والكاتب المغربي الكبير الأستاذ نجيب العوفي، وبدون منازع، أحد رموز النقد الأدبي الحديث والمعاصر في المغرب، يشهد له بريادته في هذا المجال، عبر حضوره وكتاباته ومساهماته العديدة والوازنة في المشهد النقدي الأدبي المغربي، بمثل ما يشهد له بأياديه البيضاء على الأدب المغربي، حديثه ومعاصره، وعلى كتابه ونقاده على حد سواء.
لقد كان لمجيء الأستاذ نجيب العوفي إلى كلية الآداب بالرباط، في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، أثره الكبير ووقعه البالغ فينا نحن الطلبة وقتئذ، ممن كنا نقرأ له كتاباته النقدية ونستفيد منها في عروضنا وأبحاثنا ونتأثر بها، فقد أسعفنا قدومه للتدريس بالكلية على التعرف عليه عن قرب والالتقاء به بشكل مباشر، حيث سرعان ما فتح لنا الأستاذ نجيب العوفي قلبه الكبير وخزانه المعرفي والمنهجي والنقدي، فحصل أن توطدت صداقتنا معه وتعمقت، وامتد تأثيرها فينا إلى اليوم.
لا أنكر أن مجيء الأستاذ نجيب العوفي إلى كلية الآداب كان قد أربكنا لحظتها، حيث حصل أن تسابقنا، نحن خمسة طلبة، إلى تسجيل بحوثنا لنيل الإجازة، تحت إشرافه، فحدث أن رحب بنا الأستاذ العوفي، كما رحب بموضوعات بحوثنا وانشغالاتنا وأسئلتنا وهواجسنا، فأغدق علينا بالكثير من كرمه المعرفي وتحفيزه وتوجيهاته ونصائحه.
والأبهى في هذا كله، أننا فزنا بصداقة نادرة مع نجيب العوفي، إنسانيا وعلميا ونقديا، بشكل قل نظيره، فحدث أن امتدت أريحيته وسعة صدره فينا، بمثل ما امتدت نتائج إشرافه على بحوثنا وتشجيعاته وكتاباته النقدية المرجعية ولغته النقدية، في مستقبلنا الدراسي الجامعي، وفي لغتنا النقدية البعدية، وقد بدأت تتشكل لدينا وقتها، نحن الذين سرعان ما اخترنا الارتماء في أحضان الممارسة النقدية، فواصلنا رحلة النقد الأدبي إلى اليوم، على خطى أستاذنا نجيب العوفي وغيره من أساتذتنا، فحصل أن ازداد حبنا للأدب، وعشقنا لقراءته، وتعمقت لدينا الرغبة في البحث في عوالمه الساحرة والمغرية.
ومنذ تلك الفترة التي لا تزال قريبة من وعيي وعالقة بمداركي، رغم مرور ما يزيد عن أربعة عقود، ظللت خلالها مدمنا على قراءة ما ينشره الأستاذ نجيب العوفي في الناس من كتابات نقدية ودراسات، وما يدبجه من “مقدمات” مضيئة لأعمال إبداعية لكتاب مغاربة، معظمهم من الأدباء الشباب، ممن يرتضون مقدمات الناقد نجيب العوفي بدرجة أخص، ويعجبون بآرائه المضيئة لتجاربهم الإبداعية، ويتفاءلون بها في أولى خطواتهم مع الكتابة…
ولا يعود ذلك إلى ما يتمتع به الأستاذ نجيب العوفي من وضع اعتباري كبير داخل مشهدنا الثقافي والنقدي عموما، وإنما، أيضا، لإسهاماته الرائدة في بناء السؤال الثقافي والنقدي الحديث في المغرب، وإلى ما يمتلكه ناقدنا من مراس وقدرة عجيبة وماكرة على مستوى الإنصات لنبضات النصوص الأدبية وترويضها – قد لا تتوفر لدى كثيرين – ومن جرأة استثنائية في إبداء الرأي والمجادلة والتقويم وصوغ الأسئلة، منذ أولى كتاباته النقدية حول الظاهرة الأدبية…
يتشيد ذلك كله عند الناقد نجيب العوفي، انطلاقا من متابعة حثيثة ومتواصلة لجديد الإصدارات الأدبية في المغرب وخارجه، ومن وفاء معرفي للفكر النقدي الذي عشقه العوفي وارتضاه بديلا للإبداع، منذ تجربته الأولى، في أوائل ستينيات القرن الماضي، مع كتابة القصة القصيرة، وكأنه قد استشعر، وقتها، مدى حاجة مشهدنا الأدبي المغربي إلى نقاد يواكبون أسئلته وتراكمه، في تحوله وتطوره، وهو يؤسس لنفسه، في بداياته، هويته الأولى، وتجنسه المحتشم.
لقد كان نجيب العوفي حاضرا بقوة أيام بداية التأسيس لخطاب نقدي أدبي مغربي حديث، أي منذ أن فتح جيل الستينات، على حد تعبيره بأفراده القلائل، الباب النقدي نصف فتحة، ثم ولى معظمهم الأدبار تاركين وراءهم أصداء من ذكرى، في وقت أمس ما يكون فيه النقد إلى حضورهم واستمرارهم (1). وامتد حضوره إلى ما بعد مرحلة التأسيس، حيث توارت أسماء واختارت أخرى اتجاهات كتابية غير الاهتمام النقدي. لكن نجيب العوفي، خلافا لهؤلاء، ظل وفيا لنشاطه الفكري النقدي، المصاحب بالتحول في الإدراك وفي الوعي النقدي والمنهجي، وفي زوايا الرؤية النقدية، بمثل ما بقي وفيا للجدية والصرامة اللتين يستلزمها الخطاب النقدي، في وقت أصبحت تعج فيه الساحة النقدية بالصياح والمجاملات والزبونية غير المنتجة.
لقد كان للشعر خصوصا داخل هذه التجربة النقدية الرائدة والغنية، حضور مركزي وأولي في التفكير النقدي عند الناقد نجيب العوفي، إلى جانب القصة والرواية والمسرحية والخطاب الثقافي عموما. فعلى حد علمي، يعتبر الأستاذ العوفي الناقد المغربي الوحيد، من بين أقرانه من النقاد، الذي بقي وفيا لنقد الشعر، اهتماما ومتابعة ودراسة. ففي الوقت الذي انقطع فيه نقاد من مجايليه عن نقد الشعر (إبراهيم الخطيب ومحمد الهرادي)، واهتم آخرون، بشكل متقطع نسبيا، بالخطاب السردي تحديدا (إدريس الناقوري وعبد القادر الشاوي)، نجد أن جل كتب نجيب العوفي تفتح فضاء فصولها الأولى للشعر، باستثناء كتابين اثنين هما “مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية: من التأسيس إلى التجنيس” و”عوالم سردية”، اللذين يحضر فيهما السرد بشكل خاص، في وقت ينفرد فيه الشعر بمستوى هام وبارز من الحضور والدراسة والمساءلة في اهتمامات نجيب العوفي وتجربته النقدية عموما…
وهو مؤشر دال على أن التجربة الشعرية المغربية تحديدا، كانت وما تزال، تشكل، في بعدها الإبداعي والنقدي، قطب الاهتمام النقدي عند نجيب العوفي، باعتباره من أبرز المدافعين عنها باستماتة وعن استمراريتها أمام هيمنة الرواية، الأمر الذي يجعل من نجيب العوفي، وبدون منازع وبلا مبالغة، حجة الشعر المغربي الحديث والمعاصر. ولا يرجع ذلك فقط إلى طبيعة اهتماماته بتطور المسار الشعري العام في المغرب وتحولاته، ولكن، أيضا، لطبيعة الرؤية الشمولية المميزة لتفكيره النقدي حول الظاهرة الشعرية.
يمكن القول، إذن، بأن التجربة الشعرية المغربية عموما قد وجدت في نجيب العوفي حضنا نقديا، راعيا لها ولأصواتها الجديدة، ومدركا لمالها وما عليها، وهو ما لا يثير حتى النقاد الجدد والشعراء الشباب أنفسهم، مع بعض الاستثناءات القليلة جدا (2)، ويبقى لاهتمام نجيب العوفي النقدي بالتجربة الشعرية الجديدة في المغرب أكثر من بعد دلالي وتاريخي وإنساني، شعورا من ناقدنا، وعلى حد تعبيره، بأن “هؤلاء الشعراء “الشباب” هم في أمس ما يكونون في حاجة إلى من يناقش عطاءهم، ويثمن تجربتهم وإنجازهم (…) وهم أيضا في أمس الحاجة إلى من يقرأهم لا إلى من يتقارأ عليهم، خاصة وأن التواصل الحواري بين الأجيال الأدبية، يبدو واهيا إن لم نقل منقطعا”(3)، وشعورا منه كذلك بأن التجربة الشعرية المغربية هي تجربة واحدة، في تنوعها وتعدد أصواتها، وفي تقسيماتها الزمنية المختلفة.
تبعا لهذا التوجه النقدي العام كما يتبلور لدى نجيب العوفي، نجد أن تفكيره النقدي لا يعبأ كثيرا بمسألة التجييل، أو الانتصار لجيل دون آخر، أو على حساب آخر. فكما يحضر ديوان الستينيات في كتاباته، بثقله الزمني والتاريخي والإبداعي، في بحثه عن الهوية، وبأسئلة تحوله وصيرورته وإشكالاته والتباسه وتوتراته، يحضر ديوان التسعينيات، كذلك، على سبيل المثال، بكامل عنفوانه وثغراته الإبداعية، وهو يتلمس طريقه بخطوات بناءة أحيانا وهجومية على الكبار أحيانا أخرى، وما بين الستينيات والتسعينيات، تحضر بقية الدواوين الشعرية، في تنوع أسمائها وأصواتها، تلك التي “انساقت مع تيار الحداثة والتجريب وحاولت ارتياد آفاق جديدة للقول الشعري” (4).
وبالعودة إلى مجموع الكتابات النقدية الصادرة للناقد نجيب العوفي حول الشعر، سنجد أنها قد غدت كتابات مرجعية، ممتدة في الزمن وفي تكون النقد الأدبي المغربي، وتعكس طبيعة التطور الذي طال التجربة الشعرية الحديثة والمعاصرة في المغرب. فما كان بالأمس ينتمي إلى “الشعراء الشباب”، أو جيل السبعينيات كما استقرأ العوفي تجربتهم – وكما سماهم بذلك في كتابه “درجة الوعي في الكتابة” – لم يعد اليوم ينتمي إلى هذه الفئة من الشعراء، بعد أن ظهر جيل جديد، هو من يمثل هذه التجربة، اعتبارا لعامل الزمن وتراكم التجربة ونضجها. وما ينسحب، هنا، على التجربة الشعرية، ينسحب، أيضا، على التجربة النقدية، كما جاء على لسان الأستاذ نجيب العوفي، في الحوار الذي أجراه معه الشاعر محمد بنيس، والذي أعيد نشره في كتاب نجيب العوفي السابق.
وبالإمكان اليوم، في ضوء كل هذا الزخم والتطور اللذين حققتهما تجربة نجيب العوفي النقدية، أن نضع تسطيرا أوليا لأهم الخطوط المميزة لتفكيره النقدي حول الشعر، وذلك من خلال المستويات التالية:
> نقده وتحليله للنص الشعري، الحديث والمعاصر؛
> نقد النقد؛
> صوغه لمداخل ومقترحات حول التجربة الشعرية الحديثة والمعاصرة؛
> حضوره النقدي المكثف، باعتباره مرجعا نقديا للتجربة الشعرية المغربية، الحديثة والمعاصرة؛
ففي المستوى الأول، يمكن القول إن كتابات نجيب العوفي النقدية حول الشعر تكاد تغطي التجربة الشعرية المغربية، الحديثة والمعاصرة، منذ ستينيات القرن الماضي إلى اليوم، في تراكم نصوصها وتعدد أسمائها، وأيضا في تنوع مناهج مقاربتها ونتائجها.
وقد كانت الجرأة والصرامة النقدية والمساءلة، وكذا الاحتكام للنصوص، في سياقها الكتابي والوظيفي، وفي شرطها التاريخي والاجتماعي والسياسي، فضلا عن إيمان نجيب العوفي بنسبية المناهج، بما يحقق المبتغى للممارسة النقدية والاقتراب من الطبيعة المراوغة للنصوص الأدبية ومساءلتها، هي الميكانزمات المتحكمة في كثير من فصول هذه التجربة النقدية الكبيرة، وهي تواصل ديناميتها وتصاعدها وتطورها، أطال الله في عمر صاحبها…
وفي المستوى الثاني، يبرز نجيب العوفي ناقدا تفكيكيا لبعض الكتب النقدية حول الشعر، ومجادلا ذكيا لبعض الطروحات والأفكار والآراء والتصورات النظرية والمواقف النقدية، المتبناة من قبل مجموعة من النقاد المغاربة وغيرهم (محمد بنيس، أدونيس، أحمد المعداوي)…
أما في المستوى الثالث، فيحضر نجيب العوفي باعتباره واحدا من النقاد المغاربة القلائل الذين ساهموا بعمق في صوغ مداخل أساسية لقراءة التجربة الشعرية المغربية، الحديثة والمعاصرة، وقراءة بياناتها ومشاريعها، وإغناء الجدل الذي أثارته من حولها.
وفي المستوى الرابع، يحضر نجيب العوفي، باعتباره مرجعا نظريا ونقديا لا مناص منه بالنسبة للدراسات والأبحاث النقدية الموازية، سواء تلك التي أنجزت داخل الجامعة المغربية أو خارجها.
هكذا، نجد أن الحضور المرجعي للأستاذ نجيب العوفي، لا يتوقف عند حدود الشاهد النقدي المعضد أو المخالف، ولكن أيضا باعتباره موقفا وتصورا وحاسة نقدية موجهة لطبيعة الوعي النقدي عند نقاد وباحثين آخرين، خصوصا وأن جل كتابات العوفي النقدية، تعتبر من بين الكتابات النادرة التي ألفت خارج فضاء الجامعة، وإن كانت تنتمي إليها بشكل أو بآخر، وذلك في وقت كُتب فيه مجمل النقد الشعري في سياق أكاديمي صرف (واللائحة طويلة)، وهو ما يكسب كتابات نجيب العوفي النقدية مشروعية وحرية نقديتين مفتوحتين وغير مشروطتين.
موازاة مع هذا التعدد في أشكال الممارسة النقدية عند نجيب العوفي، يمكن أن نضع تصنيفا أوليا لجل الظواهر والقضايا والموضوعات والأسئلة التي انشغل بها، وتمكن من إبراز موقفه النقدي منها، بتبنيه لها ودفاعه عنها، سواء تعلق الأمر، هنا، بالقضايا الفنية والاجتماعية والثقافية والتاريخية والسياسية والبنيوية للشعر المغربي الحديث والمعاصر، أو بظواهره التاريخية والتحقيبية، أو بمقولاته الكبرى، كمقولات “الأزمة” و”التحول” و”الحداثة”، وغيرها من المقولات والمفاهيم الأساسية، أو تعلق الأمر، في مستوى آخر، برصد نجيب العوفي للقضايا الشعرية الكبرى، تلك التي وجدت صداها اللافت والمهيمن في تفكيره النقدي.
وتشكل صورة “فلسطين” إحدى القضايا التي خصها نجيب العوفي باهتمام نقدي خاص ومهم، في مرحلة السبعينيات وما بعدها. ويمكن اعتبار ذلك الاهتمام بمثابة وفاء نقدي من قبل الناقد العوفي، إلى جانب الوفاء الإبداعي لهذه القضية من قبل شعراء مغاربة، في نماذجهم الشعرية التي استوحتها في فصولها المتعاقبة.
وهو ما يبرز جليا في كتابي الأستاذ نجيب العوفي “جدل القراءة”(5) و”ظواهر نصية”(6)، عبر مواكبته العميقة لتحولات السؤال الفلسطيني داخل مجموعة من الدواوين الشعرية المغربية، متباينة المشارب والحساسيات. وهي مواكبة غير متقطعة، فيما يخص طبيعة المنظور النقدي عند نجيب العوفي، بل هي، خلافا لذلك، مواكبة جدلية وزمنية وكلية، وهو ما استشعره ناقدنا نفسه في كتابه “ظواهر نصية”، في حديثه عن طبيعة التمثل الشعري لصورة فلسطين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ذلك التمثل الذي وقف “في الأغلب في منتصف الطريق بين الخطابة والكتابة، بين فلسطين المرجع وفلسطين النص (7).
ومن بين ما يميز طرائق الكتابة النقدية عند نجيب العوفي، كونها تجعل من “السؤال”، بشكل خاص، قوامها العام ومحركها الأساس، فكثيرة هي الطروحات النقدية التي جاء منطلقها العام في شكل “سؤال” أو “عدة أسئلة” موجهة، وهو ما يشكل جانبا من “نقد التعلم”، بالمفهوم المعرفي للكلمة، كما يكتبه نجيب العوفي وينشغل به، على اعتبار أن كتاباته النقدية عموما تعلمنا أن النقد سؤال قبل كل شيء. وإذا ما احتكمنا إلى كتابين / نموذجين، على سبيل المثال فقط، هما “ظواهر نصية” و”مساءلة الحداثة”، سنلمس عن كثب مدى الحضور المكثف للسؤال في توجيه المنظور النقدي عند نجيب العوفي، سواء تم ذلك بشكل علني أو مضمر، بحيث لا تخلو دراسة في هذين الكتابين من سؤال واحد على الأقل أو يزيد، خمسة أسئلة في أحيان أخرى، في الدراسة الواحدة. فقد تأتي الأسئلة، في البداية، في شكل تساؤلات مفهومية لتكسير اليقين النقدي، كما قد يزعم البعض ويرتضي.
وفي هذا الإطار، نجد أن مقولة “الحداثة” قد حظيت بالنصيب الأوفر من المساءلة عند نجيب العوفي، سواء في ارتباطها بمنحى إبداعي (شعري وروائي) أو بمنحى نقدي -نظري. ويعتبر كتاب “مساءلة الحداثة” (8)، من بين أهم الكتب النقدية المغربية التي تمكنت من تجديد السؤال وإضاءته حول هذه المقولة، وذلك من منطلق دعوة العوفي إلى مواصلة تجديد الحديث عنها في المحافل النقدية المغربية، بالرغم من كل ما قيل عنها وما كتب بصددها…
هكذا، إذن، نكتشف نجيب العوفي في هذا الكتاب، ناقدا جريئا لمقولة الحداثة (الحداثة الشعرية والنقدية خصوصا) بما لها وما عليها. وهو الموقف نفسه الذي أبان عنه المؤلف عند مساءلته لمفهوم “الحداثة في الرواية المغربية”(9)، على اعتبار أن نجيب العوفي لا يقف من الحداثة عموما موقف انبهار، كما دأب على ذلك آخرون، ولكنه يضعها موضع تساؤل وشك ونقد ومناقشة ومكاشفة ومواجهة لنوع معين من الحداثة، ولصنف معين من الحداثويين أيضا. ويتم ذلك عند نجيب العوفي من موقع المدافع عن الوجه الأصيل للحداثة، وهو ما جعل كتابه “مساءلة الحداثة” يتجنب الكثير من السقوطات التي وقعت فيها كتب أخرى سابقة حول الظاهرة نفسها. تبعا لذلك، نجد أن نجيب العوفي قد تحاشى السقوط في أسر بعض الآراء، التي وإن كان العوفي يتبناها (ما يخص منها أساسا القول بأزمة الشعر العربي الحديث، ومن ثم تقسيم الحداثة الشعرية)، فهو ينتصر فقط لما يناسب مفهومه الخاص لها وموقع الحداثة في تفكيره النقدي، وليس لما يناسب أوهامها، باعتبارها حداثة زمنية بالدرجة الأولى، حداثة لا تلغي انشدادها إلى التراث ولا مجافاتها للتاريخ والإيديولوجيا.
إن تخصيص هذه القراءة للحديث عن جوانب من الحضور النقدي حول الشعر، كما تبلور داخل تجربة الأستاذ نجيب العوفي النقدية، لا يروم تقسيم تجربته النقدية إلى محطات بحسب طبيعة الأجناس الأدبية، أو إبراز خصوصياتها، فمن شأن المتتبع لهذه التجربة، أن يلمس، عن قرب، مدى عمقها في كليتها وشموليتها، وفي تداخل فصولها الشعرية بفصولها السردية، وذلك بالنظر إلى أن التفكير النقدي عند نجيب العوفي ليس مرهونا بالزمن أو بنصوص معينة، بقدر ما هو تفكير شمولي، جدلي وتنويري، على حد تعبير الأستاذ عبد الحميد عقار(10).
هوامش:
1- نجيب العوفي، “درجة الوعي في الكتابة، دراسات نقدية”، دار النشر المغربية، أبريل 1980، ص 21.
2- نشير هنا، على سبيل المثال، إلى دراسة عبد الله شريق: “في حداثة النص الشعري”، منشورات البوكيلي، ط1، القنيطرة 1995.
3- نجيب العوفي “ظواهر نصية”، منشورات عيون المقالات، ط1، الدار البيضاء 1992، ص66.
4- المرجع نفسه، ص 21.
5- نجيب العوفي، “جدل القراءة، ملاحظات في الإبداع المغربي المعاصر”، دار النشر المغربية، الدار البيضاء 1983 (الفصل المخصص لـ “الصورة الفلسطينية – مداخلتان”)، ابتداء من ص 59.
6- نجيب العوفي، “ظواهر نصية”، مرجع مذكور، الفصل الخاص بـ “فلسطين النص”، ابتداء من: ص 29.
7- المرجع نفسه، ص 32.
8- نجيب العوفي، “مساءلة الحداثة”، سلسلة شراع، العدد الخامس، يوليوز 1996.
9- أنظر تصور نجيب العوفي لهذه القضية، في كتاب أعده عبد الرحيم العلام، حول “سؤال الحداثة في الرواية المغربية”، منشورات أفريقيا الشرق، الدار البيضاء – بيروت 1999.
10- عبد الحميد عقار، في تقديمه لكتاب نجيب العوفي “عوالم سردية: متخيل القصة والرواية بين المغرب والمشرق”، دار نشر المعرفة، الرباط 2000.
< بقلم: د. عبد الرحيم العلام