إن من ينتحر ليس بالضرورة إنسانا يكره الحياة، بل إنه يحبها بشدة، غير أنه لم يجدها كما كان يتمناها. العديد ممن اختاروا أن يضعوا حدا لحياتهم تركوا رسائل ذات معنى بليغ، ومنهم من لم يترك أي رسالة، لكن انتحاره كان في حد ذاته خطابا بليغا إلى من يهمه الأمر
العديد من الأدباء والمبدعين المغاربة والعرب وجدوا أنفسهم ذات لحظة يأس وإحباط؛ مرغمين على توديع الحياة رغم حبهم الشديد لها
ضمن هذه الفسحة الرمضانية، سيرة لمجموعة من هؤلاء المعذبين على الأرض، إلى جانب نماذج من إنتاجاتهم الإبداعية، تكريما لأرواحهم الطاهرة
الشاعر أحمد العاصي – الحلقة 4-
لا تكثروا لومي فما لي حـيلة
قتل نفسه بمادة حارقة ظلت تحرق حجرة نومه من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة من اليوم التالي، حيث اندلعت ألسنة الدخان من خلال النوافذ، ولم يكد المارة يقتحمون المنزل حتى رأوا هيكلا بشريا صار هشيما.
ولد الشاعر أحمد العاصي بقرية فارسكور بمصر في صيف سنة 1903 وكان أبوه من كبار التجار فيها، وماتت أمه ولم يتجاوز السادسة من عمره، عني والده بتثقيفه وألحقه بكلية الطب، وما زال يحصل دروسه حتى انتابته نوبة عصبية وهو في السنة الثالثة من دراسته، فقضى بلبنان ثلاثة أشهر، عاد بعدها خفيفاً من بعض ما جثم على نفسه.
ثم عدل عن الاستمرار بدراسة الطب، وألحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب، وقرأ تأملات (ديكارت) على الفيلسوف الفرنسي لالاند، وراقته الدراسات الفلسفية.
في سنة 1929 حصل على شهادة الإجازة وعين موظفاً بالجامعة المصرية.
له ديوان من جزأين، بعنوان: «ديوان العاصي» الجزء الأول 1926 – والجزء الثاني 1930
وله أعمال أخرى، من بينها:
رواية: “غادة لبنان”، وقصة “الأديب المنكود”.
**
من قصائده الشعرية:
صبوة قلب
صبوتُ ولكنْ بعـد ما نفد العـمرُ
وبعضُ الهـوى حـلـوٌ وبعضُ الهـوى مُرُّ
وبعضُ الهوى يستـنفد العـمـرَ هـمُّهُ
وبعضُ الهـوى قـد طـال مـن أجله العـمر
وما الـحـبُّ إلا غبطةٌ بعضَ ساعةٍ
ولـوعةُ سـاعـاتٍ يضـيـق بـها الصدر
فلا تُكثروا لـومي فـمـا لـيَ حـيلةٌ
وما بعـدَ ما يـقضـي هـوايَ بـه أمـر
سلا لـيلةً قَضّيـتُهـا فـي لواعجٍ
وحُمِّلـتُ فـيـهـا مـا يضـيـق بـهـا الصـبر
سلـوا هـذه عـن لـيلةٍ قـد قضـيـتُها
أُفـاخر بـاللذات ما حَسُنَ الفخر
فإنْ كـنـتُ قـد بُدِّلـتُ بؤسـاً بغبطةٍ
ورَوّعـني مـن بعـد نُصرته الـدهــر
وقـمتُ عـلى هَمٍّ وبِتُّ عـلى أسـىً
فلـيس بـهـذا الأمـر أو غـيره نُكْر
فـما العـيشُ إلا دولةٌ بعـد دولةٍ
لهـذي انهـزامٌ تـارةً ولها نصر.
***
الساعة الأخيرة
سـاعةً يُؤنسنـي فـيـهـا الــمَلَكْ
هـامسـاً هـيّا لـمـن قــد أرسلكْ
قـائلاً لا تخشَ سـوءاً يـــا فتىً
هـا هـو الـمـركبُ قـد هـيّأتُ لك
سِرْ حثـيثـاً لا تـمـانعْ إنمـــا
فـي غدٍ تُثنـي عـلى مـــن أوصلك
واسْعَ بـالروح إلى الـمـولى ولا
تذكرِ الـدنـيـا فلـــيستْ مَنزلك
واتـركِ الجسمَ لـيفـنى بعـد مـا
ذاهـبُ الآلامِ فـيـهـا أنحـــلك
أسـرعِ الخطـوَ ولا تخشَ أذىً
دون مـا تلقـاه فـي الـدنـيـا الهلك
هـا هـي الـحدبـاءُ قـد جَهَّزهــا
لكَ مَنْ قبـلكَ للـمـوت سلك
فـاشددِ العزمَ وهـيّا لنرى
لـذةً كُبرى وتحـيا كـمَلَك
***
دولة العشق
جـريحُ عـيـنـيكِ يرجـو مـنكِ مغفرةً
والـذنـبُ ذنـبكِ لكـنْ عنه يُعتَذر
أنـا الـذي نهضتْ بـالـدهــر عزمتُهُ
أَسَرْتِنـي وبـهـذا الأســرِ أفتخر
يـا دولةَ العـشقِ مـن يحـمـي ذِمـاركِ مـــن
عـيـونهـنَّ الـتـي بـالصـبِّ تأتـمـر
يـا دولةَ العـشقِ هُبّي قـد نعستِ وقـد
غزتكِ نُعْسُ عـيـونٍ ملؤها الخفر
جفـنـان مـا اقتـربـا إلا لـيأتـمـرا
ولـيس يـنقض حكماً مـنهما القـدر
وإنْ هـما افتـرقا صادا الـذي ائتَمرا
عـلـيـه لله مـن صِيـدوا ومـن أُسِروا
فإن وقعتُ أسـيراً بعـد نظرتهــا
فلـم يكـن مـنقذي خـوفٌ ولا حَذَر.
اعداد: عبد العالي بركات