“اكتشاف مذهل”.. مضاد حيوي شائع يمكنه إنقاذ الأمهات من مضاعفات الولادة

الولادة تجربة قد تعرض الأم والطفل لأضرار عدة، على الصعيدين الجسماني والشعوري، وسواء كانت الولادة مهبلية أو قيصرية، فهناك احتمالية لإصابة الأم والوليد بعدوى بكتيرية، وهذا أحيانا قد يجعل الاستجابة المناعية للأم تخرج عن السيطرة.

هذه الاستجابة المتطرفة للعدوى تعرف باسم حالة «الإنتان» (sepsis)، وهي ثالث أكثر الأسباب شيوعا حول العالم فيما يتعلق بوفيات الأمهات في أثناء الولادة أو بعدها، فكل عام نشهد الملايين من حالات الإنتان النفاسي، أغلبها في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، وقد يتعذر على الأطباء اكتشاف الإنتان وعلاجه في الوقت المناسب، نظرا إلى أن أعراضه المعتادة -مثل الحمى وتسارع ضربات القلب وانخفاض ضغط الدم- أحيانا ما تظهر كذلك في أثناء حالات الحمل والولادة التي تمر على ما يرام، لكن، إن لم يعالج الإنتان، فقد يؤدي إلى تلف الأنسجة، وفشل أعضاء الجسم، ومن ثم الوفاة في نهاية المطاف.

ولمنع إصابة الأمهات بحالات العدوى هذه في أثناء الولادات القيصرية، يعطيهن الأطباء عادة مضادا حيويا يدعى «أزيثرومايسين» (azithromycin) قبل العمليات الجراحية، والآن، أثبتت دراسةٌ عالمية على الدول منخفضة ومتوسطة الدخل أن هذا النهج ربما يمكنه كذلك أن يمنع حدوث الإنتان في الولادات المهبلية.

 ففي المناطق التي تعاني من قلة موارد الرعاية الصحية، تبين أنه عند إعطاء الأمهات اللاتي يخططن للولادة مهبليا جرعة واحدة من عقار «أزيثرومايسين»، تراجعت احتمالية إصابتهن بالإنتان بنسبة 35%، وبما أنه عقار رخيص الثمن، ويمكن تناوله عن طريق الفم، فربما يكون هذا النهج وسيلة مجدية لمنع بعض حالات الإنتان النفاسي في الدول التي يصعب فيها الحصول على خدمات الرعاية الصحية، والتي يزيد فيها شيوع حالات الإنتان، سواء في أثناء الولادة أو بعدها، وقد نشرت نتائج هذه الدراسة يوم الخميس التاسع من فبراير 2023، في دورية «نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسِن» (New England Journal of Medicine).

وعن تلك الدراسة تقوللورا رايلي، طبيبة أمراض النساء والتوليد بكلية طب وايل كورنيل في مدينة نيويورك الأمريكية، والتي لم تكن ضمن الباحثين المشاركين فيها: إنَّها “تعد خبرا مشوقا للغاية؛ لأنها تزيد من قدرتنا على تقديم رعاية صحية أفضل لأولئك النساء، وتغيير مصائرهن كما نأمل في نهاية المطاف”.

تابعت الدراسة حالة 30 ألف مشارِكة تقريبا في سبع دول، وهي بنجلاديش، والهند، وباكستان، وزامبيا، وكينيا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجواتيمالا، وذلك لمدة أكثر من شهر بعد الولادة، وتبين أن 1.6% فقط ممن تلقين المضاد الحيوي أصبن بالإنتان، مقارنة بنسبة 2.5% ممن لم يحصلن على العقار، وهذا الفرق أكبر مما كان يتوقعه المسؤولون عن الدراسة، كما أن المشاركات لم يصبن إلا بأعراض جانبية طفيفة للغاية، إلا أن المضاد الحيوي لم يؤثر على معدل الإصابات والوفيات لدى الرضع الذين وضعتهم هؤلاء النساء.

ويقول آلان تيتا، طبيب النساء والتوليد بجامعة ألاباما في مدينة برمنجهام، والمؤلف الرئيسي للدراسة: “لقد أثارت النتائج حماستنا، فهي مذهلة للغاية؛ لأن هذا قد يحدث فارقا هائلا في الرعاية الصحية ونتائجها بالنسبة للمريضات”، ورغم أن فريق البحث كان يعتزم الاستعانة بالمزيد من المشارِكات، فإن النتائج المبكرة جاءت حاسمة بما فيه الكفاية، مما جعلهم ينهون الدراسة قبل موعدها المحدد.

وتعقيبا على هذه النتائج، قال مايكل سانتوس، المسؤول بمؤسسة معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، التي كانت ضمن الجهات الممولة للدراسة: “إنها مفاجأة سارة للغاية أن نكتشف تأثيرا كبيرا هكذا! هذه نتيجة مذهلة حقا!”.

يأتي هذا الاحتفاء بالنتائج من خطورة الإنتان؛ فوفق رايلي، حتى لو نجا منه المريض، قد يصاب جسده بأضرار دائمة، وتقول في هذا الصدد: “قد يفقد المريض أصابع يديه وقدميه، وتتلف أعضاؤه الداخلية، مثل الكليتين والكبد والدماغ”.

لكن الخبر السار هو أنّه من الممكن في كثيرٍ من الأحيان وقاية المرضى من تلك الحالة، فوفق ما قالت طبيبة أمراض النساء والتوليد ليندسي أدمون، التي تدرس العدالة الصحية بجامعة ميشيجان الأمريكية، ولم تشارك في الدراسة: “أعتقد فعلا أن هذه الدراسة وحدها قد تكون كافية لتغيير الممارسات المتبعة في تلك الحالات”، جدير بالذكر أن معدل وفيات الأمهات بعد الولادة في الولايات المتحدة يزداد منذ أواخر التسعينيات، ويفوق ضعف معدلات الدول الغنية الأخرى، كما أن هناك تفاوتا صارخا في تلك المعدلات بين الأعراق في الولايات المتحدة، حيث ترتفع احتمالية وفاة الأمهات السوداوات بعد الولادة عن البيضاوات بحوالي ثلاث مرات، وفقا للوكالة الأمريكية لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، ولذلك، ترجو أدمون أن تجرى دراسةٌ مماثلة في الولايات المتحدة وغيرها من الدول مرتفعة الدخل التي تشهد مع ذلك تفاوتات كبيرة في الخدمات الصحية المتوافرة.

ومع جدوى عقار «أزيثرومايسين» في الوقاية من الإنتان، فلا بد من تقييم فوائده في مقابل عواقب الإفراط في استخدام المضادات الحيوية، فهذه العقاقير تنقذ الأرواح بالفعل، لكنها في أثناء ذلك تدفع البكتيريا إلى إيجاد وسيلة لمراوغتها، والبكتيريا المقاوِمة للعقاقير في تزايد مستمر، وأحيانا ما تكون فتاكة، كما أن عقار «أزيثرومايسين» على وجه الخصوص يستهدف مجموعة واسعة من أنواع البكتيريا، وهذا هو سبب فاعليته في حالات الولادة، لكن هذا يزيد أيضًا من احتمالية بقاء ميكروباتٍ مقاوِمة للعقاقير في الجسم بعد استخدامه، ولذلك، فإن هذه الآثار السلبية لا بد أن تؤخذ في الاعتبار عند تقييم جدوى هذا النهج، وفق ما ترى مرسيدس بونيت سيميناس، مسؤولة الشؤون الطبية بقسم الصحة الجنسية والإنجابية وبحوثها لدى منظمة الصحة العالمية (WHO)، والتي لم تشارك في تأليف الورقة البحثية للدراسة.

وفي هذا الصدد يقول سانتوس: “هذا السؤال في بالنا جميعا، بل إنه كان جزءا من تصميم الدراسة”، فما زال الباحثون يعملون على تحليل العينات المأخوذة من المشارِكات، ليحددوا بدقة تأثيرات العقار على أنواع البكتيريا التي كانت في أجسامهن من الأصل، ويتوقع الباحثون نشر هذه النتائج عام 2024.

وفي مناطق العالم التي تشيع فيها الإصابة بالعدوى خلال الولادة، ربما تستحق الوقاية من الإنتان أن نجازف بالإسهام في انتشار البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، وهذه الدراسة هي “الخطوة الأولى” في ذلك، وفق ما قالت جولي جِربِردينج، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة معاهد الصحية الوطنية الأمريكية، لكن توفير هذا العقار لمن يمكن أن يستخدمنه أكثر من غيرهن سيتطلب جهودا عالمية منسقة، وتضيف جِربِردينج أنه بإمكان منظمة الصحة العالمية أن تتولى مراجعة النتائج، وأن تقرر إدراج العلاج في قائمة الأدوية الأساسية الخاصة بها، وفي إرشاداتها للرعاية الصحية في حالات الولادة.

فوفق ما ترى جربردينج، وفيات الأمهات بعد الولادة هي “مسألة يتجلى فيها انعدام المساواة بوضوح، وهذه فرصةٌ للتعامل مع هذا البعد بالغ الخطورة من أبعاد تجربة الولادة”. (مجلة للعلم)

Related posts

Top