الأحزاب أيضا تتحول

 

صارت الحياة الداخلية للأحزاب والاستعدادات لعقد مؤتمراتها ومختلف مواعيدها التنظيمية، تتحرك على إيقاعات لم تكن معهودة في السنوات السابقة، حيث الانغلاق كان هو الأسلوب السائد، والشرعية كانت تبدأ وتنتهي عند كاريزما الزعيم ومساره التاريخي…

وسواء بمناسبة المؤتمرات الحزبية التي انعقدت في السنوات القليلة الماضية، أو تلك الجاري الإعداد لها هذه الأيام، فإن التجاذبات والسجالات باتت تجري خارج المقرات، بل وعلى أعمدة الصحف، وعبر مواقع الأنترنيت، وهذا ما يمكن أن يدفع هذه الأحزاب إلى تمثل ممارسات تنظيمية وسياسية مغايرة، تستحضر تحولها إلى مؤسسات وطنية من حق المواطنات والمواطنين التعرف على ما يجري بداخلها، وإبداء الرأي في مختلف منظومات عملها الداخلي والإشعاعي.
قد يفضي هذا التحول في التعاطي مع الشؤون الداخلية للأحزاب أحيانا إلى حوادث سير أو تجاوزات، ولكن الأساس أن الأمر يرتبط بتحول سوسيولوجي وثقافي وسط الأجيال الجديدة، ولا مفر من استحضاره الدائم، والبحث عن أشكال التعاطي معه من خلال إبداع آليات تنظيمية وتواصلية وتأطيرية متجددة، وتوفير الفضاءات الملائمة للعمل الحزبي.
من جهة ثانية، فإن الحراكات الحزبية الداخلية صارت اليوم تقوم على التنافس الديمقراطي حول المواقع القيادية، بما في ذلك حول منصب الزعيم، وهو ما لم يكن يظهر بكل هذا الجلاء في السابق، حيث كانت تركيبة الجهاز القيادي في الحزب تكون معروفة حتى قبل بدء أشغال المؤتمر، كما لم يكن الكثيرون يمتلكون حتى جرأة التفكير في منافسة الزعيم «المرشح»، وبالتالي، فقد كانت شرعية التاريخ والأقدمية في الحزب والاعتقال والنفي سابقة عن سواها، بما في ذلك عن شرعية المبدأ الديمقراطي، أو الترشيح الحر والتصويت لانتخاب مسؤول الحزب.
وبالفعل، فقد نجحت بعض أحزابنا في ممارسة الترشيح المتعدد لمنصب زعيم الحزب، وبالتالي اختارت قياداتها عقب تصويت حر وشفاف، بل وبواسطة بطائق إلكترونية وأمام أعين المراقبين والصحفيين، كما أننا سمعنا عمن يتقدم بالطعون إلى المحاكم، وهذه كلها مؤشرات للتحول، ولبداية تشكل مرحلة جديدة تعيشها أحزابنا، ستطرح عليها في المستقبل كثير تحديات ومسؤوليات لم تألفها في السابق.
إذن، التحول الذي بدأت ترتسم معالمه الأولى، يتأسس وسط المجتمع من خلال الأجيال الجديدة، وأيضا داخل الأحزاب نفسها، وهو ما يطرح أسئلة لابد للأحزاب الجدية أن تتأملها وتستوعبها، وتعمل على صياغة الأجوبة المناسبة لها.
إن الانتقال إلى ممارسة تنظيمية شفافة وعصرية داخل الأحزاب، وخصوصا من حيث حكامتها وتدبيرها العام، وأيضا من حيث الولوج إلى مواقع القيادة الحزبية، لم يعد قابلا لأي تراجع إلى الخلف، وإنما صار من الضروري تطوير مؤشرات وإرهاصات التحول إلى قواعد ثابتة في السلوك الحزبي الداخلي والإشعاعي.
وفي الوقت نفسه، فإن الأجيال الجديدة من شبابنا ونخبنا التي تصر على إبداء رأيها في الشؤون الحزبية الداخلية، مدعوة هي نفسها إلى الانتقال إلى دور الفاعل المباشر من خلال الانخراط في العمل الحزبي والاهتمام بالشأن السياسي، وبالتالي الخروج من دائرة التنظير والمتابعة والانتقاد إلى دائرة تحمل المسؤولية، وتقوية الممارسة الحزبية الوطنية الجادة، لأن ذلك هو الطريق الوحيد لتقوية الديمقراطية في بلادنا، وتطوير ما حققه شعبنا من مكاسب على هذا الصعيد.
ومن مسؤولية المجتمع برمته أيضا، حماية تعدديتنا الحزبية والسياسية، والرفض الدائم للتحكم، وبالتالي جعل الأحزاب الحقيقية والجادة قوية ومستقرة، وتعيش تحولها التنظيمي والسياسي بشكل مستقل وطبيعي، وبواسطة مناضلاتها ومناضليها أولا وأخيرا.
[email protected]

 

Top