يهمنا في هذه الورقة أن ننظر إلى مسألة اتصال الأخلاق بالسياسة أو انفصالها عنها من زاوية فلسفية، لنُنعم الرأي في حقلين يختلفان نظريا، لكون السياسة لا تعني فقط تسيير الدولة للمجتمع بطريقة عمودية، بل تعني أيضا تأسيس مجموعة سياسية، تستند إلى علاقات أفقية يمكن أن توجد بين المواطنين، والتزامهم داخل الفضاء العام.
بعضهم يرى أن السياسة القائمة على الأخلاق هي أفضل السياسات الممكنة، فالأخلاق هي الشرط الأساس لجعل سياسة ما عادلة، ولا يتصورون أن تكون السياسة كذلك إذا خالفت أبسط القواعد الأخلاقية كالصدق والأمانة والأثرة. فإذا كانت السلطة السياسية تدار عن طريق تفويض، وهو النموذج المؤسسي الأكثر استقرارا في الديمقراطية التمثيلية، فإنها تستوجب الثقة، لأن المواطنين لا يمكن أن يعهدوا بإرادتهم إلى نوّاب إلا إذا كان هؤلاء يمارسون عهدتهم بأمانة، ويسعون حقا للصالح العام، ويعبرون في أقوالهم وأفعالهم عن إرادة المواطنين، دون أن يستغلوا موقعهم لخدمة مصالحهم الشخصية.
ومن ثمّ، فالأخلاق في رأيهم ضرورية لممارسة السلطة السياسية لكي لا تنحرف عن غاياتها، فتغدو خاضعة للأهواء، وتتحول إلى أداة لتحقيق أهداف شخصية، لأن السياسة الجيدة هي سياسة عادلة، ومن ثمّ لا يمكن للسلطة السياسية أن تمارَس دون أن تستند إلى تحديد دقيق لما هو حق، أو جيّد، أو عادل، وتلك غاية الأخلاق.
فريق ثان يعتقد أن السياسة تعني مجمل المؤسسات والأعمال التي تنظم المجتمع، وتسمح للدولة بتسييره وتوجيهه الوجهة المناسبة، ما يعني أن هدف السياسة النجاعة، كأن تعمل على تجنّب النزاعات أو حلّها، والسير بالمجتمع نحو غاية تحددها الدولة. ومن ثمّ، فالسياسة الجيدة هي سياسة فعّالة في المقام الأول، تنتج الآثار المرجوة أو المنشودة، ولا سبيل عندئذ إلا بفصل الأخلاق عن السياسة، لأن مهمة السياسة في رأي هذا الفريق هي التصرف في شؤون الدولة، بينما الأخلاق هي من مسؤولية الأفراد، فليس بالعواطف النبيلة تحقق الدولة ما ترجو، لاسيما في غياب مبادئ أخلاقية كونية وموضوعية يلتقي حولها الجميع.
ولا مجال عندئذ إلا بتخيّر أحد أمرين: إما إقصاء الأخلاق من الحقل السياسي، وإما استبعاد السياسة عن الأخلاق لكي تضمن فعاليتها، استنادا إلى ما نظّر له ماكيافيلي في كتابه “الأمير”، حين وقف بوضوح مع الجدوى ضد الأخلاق، حجته في ذلك أنه لما كانت غاية ممارسة السلطة هي الاستقرار، فإنها تبلغ تلك الغاية بالقوة لا بالعدل، والخير في رأيه ألا يفي الحاكم بوعوده إذا لم تكن الظروف ملائمة، أو أن يضحّي ببريء عند الضرورة لإقرار السلم الاجتماعية. وهو ما تبناه من بعده الفيلسوف الأميركي روبرت نوزيك (1938-2002) حين أكد أن الدولة لا يحق لها أن تتدخل في ما يرجع بالنظر إلى الأخلاق.
ويذهب أبعد من ذلك حين يعتبر أن تدخل السياسة في المسائل الأخلاقية قد يكون خداعا يراد منه إضفاء شرعية غير مستحقة على نظام سياسي، كمراقبة الحريات وما يتداول في أوساط المجتمع من أفكار. وهو ما ذهب إليه نيتشه أيضا في “جينيالوجيا الأخلاق”. أي أن الأخلاق غريبة عن السياسة، التي ينظر إليها فقط كعامل ضبط وتعديل.
بيد أن السياسة ليست ملكا للدولة وحدها، يقول فريق ثالث، بل للكيفية التي يشارك بواسطتها المواطنون أيضا، وأفضل السياسات الممكنة ليست الأنجع ولا الأعدل، بل تلك التي تكون قادرة على تكوين مدينة حقيقية والحفاظ عليها. وبذلك تغدو الأخلاق ضرورية لوجود المجموعة السياسية، فالسياسة في الواقع لا تعني فقط مجمل الوسائل والمؤسسات التي تحكم الدولة بواسطتها، كما أن السلطة لا تمثل السياسة إذا قامت على القوة وحدها، بل لا تكتسب شرعيتها إلا بقبول المواطنين بها.
ومن هنا تكون أفضل السياسات هي تلك التي تسمح بخلق مجموعة، أي كيان سياسي يستند إلى روابط المواطنين في ما بينهم، والتزام كل واحد منهم بالحفاظ عليها. ولا يمكن لذلك الالتزام أن يتم إلا متى قبل كل فرد بعدم تلبية مصلحته الخاصة بشكل آلي، والتخلي عنها لفائدة المصلحة العامة. فلا سياسة حقيقية من دون التزام حميم لكل فرد نحو المجموعة التي ينتمي إليها، واقتناع الأفراد جميعا بانتمائهم إلى مجموعة. وهذا ما عبّر عنه روسو في العقد الاجتماعي، وما اقترحه الأميركي جون رولز (1921-2002) حين دعا إلى توافق حول مفهوم للعدل يمرّ عبر نقاش عامّ تضع إثره المجموعة الوطنية المبادئ المشتركة للعدل بصرف النظر عن القناعات الأخلاقية المختلفة لهذه الفئة أو تلك.
وصفوة القول إن الأخلاق هي أفضل السياسات، فهي شرط أساس لوجود مجموعة سياسية حقيقية، ينجم عنها كل ما هو خيّر، فشرعية ممارسة السلطة، وعدالة السياسات المتبعة، ونجاعتها، يمكن أن تحظى عندئذ بانخراط كل فرد في مشروع مشترك.
بوبكر العيادي