تتجسد قيمة مشروع قانون المالية أساسا في نفقات الاستثمار العمومي، نظرا لتأثيرها الكبير على الاقتصاد والمجتمع من خلال «آثارها المتموجة» التي تحدثها قبليا وبعديا. فكيف هي الأوضاع في المغرب؟ سنحاول بكل تواضع، تقديم بعض العناصر الجوابية لهذا السؤال في أفق تطوير النقاش الذي يدور حاليا داخل البرلمان حول توجهات مشروع قانون المالية 2022،الحوار الذي نأمل أن يكون هادئا بدون أحكام مسبقة ولا شحنات انفعالية.
بداية، لابد من التذكير بمسألة بديهية، وهي أن قانون المالية الذي تشكل الميزانية مكونه الأساسي، ليس عبارة عن ركام من الموارد والنفقات،كالمنزل الذي لا يمكن اختزاله في ركام من الحجارة والخرسانة، بل الأمر أعقد من ذلك، إنه بناء علمي محبوك في إطار تخصص أكاديمي يحمل اسم «علم المالية العامة»، وهكذا فالميزانية تخضع لاحترام بعض المبادئ العامة كالسنوية والتخصص والشمولية والوحدة. وينضاف إلى هذه المبادئ الأربعة، مبدأين آخرين: المصداقية والتوازن الميزانياتي، مما يسمح بمزيد من الوضوح والدقة، لجعل الحكومة تتقيد باحترام الإرادة الشعبية وتدبير المال العام ومال الخاضعين للضريبة، تدبيرا سليما بعدما تكون هذه الحكومات قد حصلت على ترخيص البرلمان يسمح لها باستخلاص الضريبة وإنجاز النفقات،علما أنه تم إقرار تصنيف دولي للبلدان يأخذ بعين الاعتبار مستوى شفافية ميزانيتها، يحتل المغرب ضمنه مرتبة قريبة من المتوسط الدولي.
فالميزانية هي مجموعة من الموارد مقابل سلسلة من النفقات، وهذه الأخيرة تنقسم إلى ثلاثة أصناف: نفقات التسيير والنفقات المتعلقة بخدمة الديون ونفقات التجهيز.
الصنفان الأولان؛ وخاصة تلك المتعلقة بالتسيير، هي ضرورية وغير قابلة للضغط، فنفقات التسيير المتكونة من أجور الموظفين، ونفقات سير الإدارة، والتكاليف المشتركة الخاصة بدعم أسعار المواد الأساسية، والتي تسمى أيضا بالنفقات العادية، لها تأثير محدود يظهر على مستوى الطلب والقدرة الشرائية للساكنة. طبعا، كل زيادة في الطلب لها تأثير مساعد على الاستثمار، ومن ثمة على العرض حيث يعكس القانون الذي يعود لجون بابتست ساي Jean Baptiste Say والذي مفاده «كل عرض يخلق طلبه الخاص»، والمعروف عندنا في المثل الشعبي «كل زرع كيجيب الله كيالو».
وفي المقابل، تُحدث نفقات الاستثمار تأثيرا كبيرا على الاقتصاد. وعلى أساس مستوى هذه النفقات يمكن أن نميز بين ميزانية توسعية وميزانية تقشفية، وعلى أساسها يمكن تحديد طبيعة الدولة، هل هي دولة ليبرالية أم موجهة؟ هل هي حارسة أم حامية؟ ويمكن لهذا الاستثمار العمومي أن يشكل بالفعل محركا للاقتصاد، ومحفزا للتطوير في تكامل مع القطاع الخاص في إطار إستراتيجية تنموية متمركزة على الذات ومندمجة. ونعلم جيدا أن الاستثمار العمومي من خل المفعول «المضاعف الكينزي» يتيح زيادة مضاعفة في الدخل، فاستثمار درهما واحدا اليوم قد ولّد على المدى المتوسط دخلا من خمسة دراهم، وهذا الدخل الإضافي يتم استعماله بدوره إما في الاستهلاك، وإما في الادخار أي في الاستثمار، ويتعلق الأمر في هذه الحالة «بالمفعول المسرّع»، ونشير إلى أن كلا المفعولين «المضاعف والمسرّع» لا يسريان بصفة كاملة إلا في إطار اقتصاد متمركز حول الذات ومندمج. لأن في الاقتصاديات التابعة و المفككة، فيكون هاذين المفعولين محدودين للغاية لكونهما يطبقان أساسا في اقتصاديات «المركز»، باستخدام المفهوم المفضل لدى المفكر الاقتصادي سمير أمين. ولهذه الأسباب نجد أن الاستثمار العمومي على الرغم من أهميته النسبية،لا يؤدي إلى كل النتائج المنتظرة. ولأجل تحقيق نتائج أفضل،ينبغي القيام بإصلاحات بنيويةوتغييرأساليبالحكامة.
بداية ينبغي إزالة نوع من الغموض حول الأرقام التي يقدمها مشروع قانون المالية الحالي، فالأمر يتعلق بمبلغ 245 مليار درهم كمجموع الاستثمار العمومي الذي يضم الاستثمار المحدد في الميزانية العامة، واستثمار الحسابات الخصوصية للخزينة، والمصالح الاقتصادية المسيرة بصفة مستقلة (SEGMA) والجماعات الترابية «جماعات محلية وجهات»، والمقاولات والمؤسسات العمومية، ثم صندوق محمد السادس للاستثمار.
فكما هو معلن، يبدو لنا مبلغ 245 مليار ضخما للغاية، حيث يمثل أزيد من 20٪ من الناتج الداخلي الخام، ولكن حينما نقدم على تشريح هذه الأرقام على ضوء الوقائع الملموسة، نجد أنفسنا أمام أرقام متواضعة. فهناك أولا فرق كبير بين ما هو متوقع وما سينجز بالفعل،إذ أن معدل الانجاز يتراوح ما بين 60٪ و80٪. لنضع أنفسنا في فرضية متفائلة، ونأخذ 70٪ كمعدل للانجاز، سنكون إذن أمام 170 مليار درهم بدل 245 مليار درهم. ومن جهة أخرى، كلما ينجز لا يتم وفق قواعد سليمة النظر للعديد من الاختلالات التي وقفت عندها تقارير المجلس الأعلى للحسابات ومؤسسات أخرى.
وأخيرا، نجد أنفسنا، ونحن نحلل هذه الأرقام، أمام العديد من مناطق الظل بخصوص تحويلات الميزانية العامة إلى المقاولات والمؤسسات العمومية والحسابات الخصوصية للخزينة، وخصوصا نحو هذه الأخيرة التي يطلق عليها البعض بكثير من المبالغة «الصناديق السوداء»، ومن أجل معالجة هذه الاختلالات وتحسين نجاعة الإنفاق العمومي ومردودية الاستثمار العمومي، تم إطلاق إصلاحات تهم أساسا القطاع العام. وإذا كانت الأمور مازالت في البداية، ينبغي الاعتراف بأن النوايا حسنة. لذلك، نقترح تدبير مرتكز على النتائج، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وإعادة هيكلة القطاع العام مع مراجعة حجمه… فالوكالة الوطنية للتدبير الاستراتيجي لمساهمات الدولة، سيكون من اختصاصاتها الحرص على ضمان التنسيق والتماسك بين مؤسسات هذا القطاع.
هذه الإصلاحات العميقة، ينبغي أن تهم أيضا القطاع الخاص بقطع روابطه بالريع والمواقع الاحتكارية، وعقلنته بدفعه للتباري في ساحة المنافسة. وهي متطلبات يمكن اعتبارها شروط مسبقة للأجرأة الفعلية للنموذج التنموي الجديد.
وبهذا،سنعيد الثقة للمواطنين في مستقبل بلادهم، ونبين لهم أن التغيير ليس خيالا ولا لعبا، بل هو تغيير مرغوب فيه ونتحمل كل تبعاته، أي أن الأمور جادة. وكل تردد في هذا الاتجاه ستنتج عنه مخاطر نحن في غنى عنها، فلدينا تحديات أخرى ينبغي مواجهتها، وأمامنا مهام وطنية تنتظرنا.
> بقلم: د. عبد السلام الصديقي