على غرار معظم الدول الأوروبية، تعيش بلجيكا على وقع تضخم غير مسبوق تجاوزت نسبته 12 بالمائة في أكتوبر، ما ينعكس بشكل مباشر على القدرة الشرائية للمواطنين، الذين أضحوا متوجسين من الارتفاع النوعي في الأسعار ولهيب فواتير الطاقة، التي تثقل كاهلهم وتجعلهم يعيدون النظر في نمط استهلاكهم.
فسواء تعلق الأمر بذوي الدخل المنخفض، المتوسط أو الموظفين الذين يتقاضون أجورا مرتفعة، أضحى الجميع يبدي استياءه إزاء ارتفاع مستوى المعيشة، الذي يطال المواد الاستهلاكية وفواتير الغاز والكهرباء على حد سواء، حتى أن شريحة عريضة من البلجيكيين أضحت عاجزة عن تسديد فواتيرها وتلبية حاجياتها اليومية كما كان عليه الحال في السابق.
ولعل الإضراب الذي شل الحركة في بلجيكا، يوم تاسع نونبر الجاري، شكل أحد المظاهر البارزة لاحتجاج البلجيكيين على تآكل قدرتهم الشرائية وتراجع الوضع الاجتماعي في البلاد، والذي تمثل أحد أهم مطالبه في تحديد سقف لأسعار الطاقة وإقرار زيادة فورية في الأجور. وشملت هذه الحركة الاحتجاجية موظفي المستشفيات، وسائل النقل العمومية، الشرطة، المطارات والشركات.
وتشير أرقام حديثة إلى أن مبيعات التجزئة في بلجيكا تراجعت بنسبة 10 في المائة مقارنة بسنة 2019، حيث أن البلجيكيين أضحوا يستهلكون أقل بكثير مما كانوا عليه في السابق، وأصبحت الطبقات ذات الدخل المحدود تكتفي باقتناء المواد الأساسية حفاظا على قدرتها الشرائية المنهكة أصلا بتبعات الأزمات المتتالية، وعلى رأسها الأزمة الطاقية الحالية.
وعلى الرغم من أن سعر الغاز انخفض نسبيا في الأسواق خلال الأسابيع الأخيرة، إلا أن مستوياته لا تزال مرتفعة بأكثر من تسع مرات مما كانت عليه قبل اندلاع شرارة أزمة الطاقة، الأمر الذي ينعكس من خلال الفواتير الملتهبة التي أضحى يتوصل بها البلجيكيون، ما حدا بالكثير منهم إلى مناصرة أو الانضمام لحركة جديدة تحمل اسم “لا تدفع” (دونت باي) التي نشأت بداية في المملكة المتحدة.
وبالموازاة مع ذلك، تتعالى الأصوات المنادية بالرفع من الأجور التي لا تزال تشكل موضوع نقاش شائك بين النقابات والحكومة الفيدرالية وأرباب العمل، حيث ترفض الهيئات النقابية المصادقة على “تجميد الأجور” خلال فترة الأزمة هذه، وتشير على الخصوص إلى أن الهوامش الإجمالية للشركات كانت “مرتفعة تاريخيا” حتى النصف الأول من هذا العام، وأن هناك قطاعات مثل الطاقة، الأبناك أو صناعة الأدوية سجلت أرباحا غير مسبوقة.
وفي ظل شبح الركود الاقتصادي الذي يخيم على البلاد بفعل الأزمة الطاقية العالمية والتبعات الوخيمة للحرب الروسية-الأوكرانية، تجد الحكومة الفيدرالية نفسها محاصرة بين مطرقة رفع الأجور ومساعدة الأسر وسندان الحفاظ على التوازنات الماكرو-اقتصادية ودعم الشركات، وبالتالي التمكن من تعزيز ثقة المستثمرين وإنعاش سوق الشغل.
وهنا، فإن الكثير من الاقتصاديين يشيرون إلى أن رفع أو تخفيف الضرائب عن الأجور المنخفضة يشكل أحد الآليات الكفيلة بتخفيف وقع الأزمة على الطبقات ذات الدخل المحدود أو تلك التي تستفيد فقط من الإعانات الاجتماعية.
وفي انتظار إيجاد الحلول المناسبة، يكابد البلجيكيون من أجل التأقلم مع وضع جديد لم يألفوه من قبل، والذي جعل البعض منهم يتذوق الطعم المر للضائقة المالية ودفع البعض الآخر إلى ولوج متاهة الاقتراض، لكن أملهم يظل قائما في ما هو قادم من الأيا