بفرنسا، لما انتفض قلم إميل زولا Emil Zola ” ” قبل أكثر من قرن سنة 1898، وهو يوجه رسالته ” J’accuse ” لرئيس الجمهورية الفرنسية ” F. FAURوالتي نشرت بجريدة L’AURORE” ” دفاعا عن القبطان درايفوز” DREUFUS A.” وانتقادا قويا لمؤامرة عنصرية وقضائية، لم يكن أحد يتوقع أن الرسالة التي توبع صاحبها كذلك، ستخلق حدثا تاريخيا وأزمة سياسية في حياة الجمهورية الثالثة وداخل المؤسسة العسكرية والقضائية وستعري ما تسترت عليه المناورات وأخفاه التزوير وإتلاف وثائق وحجج تبرئ المعني بالرسالة، قبل أن تظهر الحقيقة وفضل صاحب الرسالة في كشفها، أي قبل أن يحسم رئيس الجمهورية بالتوقيع على صك العفو وقبل ان يُقبل طلب درايفوز لمراجعة الحكم لتحسم في النهاية محكمة النقض الفرنسية، للمرة الثانية، بإعادة الاعتبار للقبطان درايفوز ويمنح له وسام الشرف، وفي النهاية يفتح لأميل لزولا ولرسالة باب الاعتراف التاريخي الكبيرولتسجل محاكمة درايفوز بسجل أكبر الأخطاء القضائية بالقرن العشرين، ألا تظن زميلي الأستاذ الوردي أنه ما أحوجنا اليوم لرسائل مثل رسالة زولا لتنبهنا وتنبه قضاتنا لأزمة إنتاج العدالة قبل أن تنبه متلقي العدالة ؟
وعندنا بالمغرب لما نشر الأستاذ الوردي مقاله ” ازمة تلقي العدالة ” على جريدة الكترونية قبل أيام، ووقعه بصفته عضوا بنادي قضاة المغرب، وهو في نفس الوقت وكما يعلم المهنيون والمتقاضون، نائب الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء وممثلا للنائبة العامة بهيئة المحكمة التي أشرفت على محاكمة معتقلي حراك الريف، انتَبهتُ للمقالة ربما لوحْدي، لا أدري..، تساءلت مع نفسي وأنا أقرؤها عن وَقعِهَا المُحتمل وعن الصدى المنتظر الذي يمكن أن تخلفه رسالة قاضي شاب يتمتع فضلا عن خصال إنسانية كما هو مفترض في كل قاضي، بجرأة في الكلام من منصة النيابة العامة وباهتمام ووَلع بمساطر البحث البوليسي وبمحاضر الضابطة يُعارض من يعارضها ويغضب حين القدح في صحتها ومصداقيتها، يَعشق الاعتقال ويُحب أحكام السجن وهو في ذلك يُمثل الدور الذي هو للنيابة العامة في دول عديدة مثل المغرب، أي دور الدفاع عن صناعة عدالة قضائية على المذاق والدفاع عن اجراءات محاكمات تُوصل بسرعة للإدانة، ومن هذا التدريب اليومي، استطاعت النيابة العامة أن تفرغَ ما يقرب من أربعين ألف معتقل احتياطي بالسجون دون أن يحاسبها أحد عن أزمة العدالة الجنائية التي يتلقاها المرتفقون ويُنتجها القضاء الجنائي، فهل خطر على بال الأستاذ الوردي أن يتحدث عن أزمة يشارك فيها وتشارك في إنتاجها مؤسسة النيابة العامة قبل أن يتحدث عن أزمة تلقي العدالة ؟.
وقد اعتبرت أنه من واجبي قراءة المقال وفهم عقلية كاتبه والمدرسة التي تعلم فيها، والتمعن فيما أثاره من إشكاليات منها بالأساس الحدود الفاصلة ما بين التعليق، ونقد، وتحقير، critiqué, discrédité commenté,الأحكام القضائية خصوصا عندما استشهد بأحكام محاكم فرنسية، أدانت النقد الذي وصل حد القذف أو احتقار القضاء والقضاة، وأضاف بأن الأحكام عنوان الحقيقية ولا رقابة على القاضي سوى ضميره مؤكدا أن الخوض في مناقشتها مهمة صعبة ينحصر فهمها على النخبة وليست في متناول العامة، مناديا بضرورة إعادة الاعتبار للقرارات القضائية واحترام القضاة وبفتح حوار بعيدا عن الشعبوية لرفع الوعي بمفهوم احترام العدالة. ومن باب رفع اللبس والخلط الذي خيم على طروحات المقال أبدي ملاحظات أجملها في ستة وهي:
الملاحظة الاولى:
إن الطرح الذي أتى به الأستاذ الوردي جره نحو الخلط والاعتقاد أن العدالة هي القضاء وأن مفهومهما واحد، في حين أن العدالة بنيان فكري وفلسفي وسياسي وإبداع انساني ومجموعة من قيم ومبادئ ومُثُل وقواعد أساسية لحياة المجتمع ولعلاقات السلطة بحقوق المواطن في كل المجالات المدنية والحقوقية والسياسية والاقتصادية وغيرها تتضمنها وطنيا محتويات الدستور كميثاق وعقد اجتماعي يحدد مراكز كل الاطراف بالمجتمع، وتتضمنها المواثيق الدولية كذلك، وأما القضاء فهو آلية مؤسساتية مِثل عدد من المؤسسات، وسُلطة مُمثَلة في قضاة دورهم إنتاج نسبة من العدالة من خلال تطبيق حقيقي وسليم للقانون وضمان فعلي للحقوق وإنتاج جدي لقرارات ولأحكام تحمي مراكز المتقاضين في الخصومات، ومن هنا يبدو أن السؤال الحقيقي الذي كان على الاستاذ الوردي طرحه هو المتعلق بأزمة إنتاج العدالة وأزمة ضمانها توزيعها بإنصاف بين المتقاضين من قبل القضاة في العملية المعروفة بالمحاكمة، وكذا سؤال أزمة جودة القرارات والأحكام، وسؤال أزمة تنفيذ الاحكام القضائية، وأن ما تحدث عنه الاستاذ الوردي ووصفه تلقي العدالة ما هي سوى نتيجة طبيعية للأزمة الأم التي أخفاها، وهو يعلم أن المستهلك لمنتُوج القضاة هو المواطن المتقاضي أي في النهاية المجتمع، وبالتالي لا يمكن أن يفرض أحد على هذا الأخير، المواطن والمجتمع، ابتلاع وهضم أي منتوج كما تبتلع الأبقارعشب المراعي، مما يبقى معه انتقاد القرارات وللأحكام والتعليق عليها حتى لو كان الانتقاد لاذعا بعد صدورها أمر طبيعي وعادي بل واجب في مجتمع ديمقراطي وفي نظام قضائي يعرف القضاة فيه بأنهم ليسوا ملائكة تحت عرش الرحمان مطهرون لا يخطئون، فالنقد ليس هدية من أحد بل هو مكون ثقافي وواجب مجتمعي اتجاه كل السلطات تنفيذية أو تشريعية وقضائية تحترم المواطن وتحترم حرية التعبير وتعي بأهمية النقد والرقابة.
الملاحظة الثانية:
لم يكن للأستاذ الوردي أن يتحمل عناء التنبيه بين سطور مقاله من احتقار وازدراء الأحكام وقضاة الأحكام، لأن الموضوع لا يحتاج لا لتنبيه ولا لمقال ولا لبيان، فلا أحد يقبل احتقار القضاء واحتقار القضاة لأن الواجب يقضي احترام الأشخاص وعدم إهانتهم والمس باعتبارهم، سواء كان الشخص حمالا أو وزيرا أو مستخدما أو قاضيا أو رئيس دولة…الخ.
لكن الخلط بين عملية النقد كوسيلة للتعاطي المنطقي والعقلي والفكري مع الانتاج القضائي أي مع قراراته بمستوياتها المختلفة، وما بين عملية أخرى عاطفية أواندفاعية أو مزاجية، وهي عملية القدح أو السب أو الاحتقار قد ولد لدى الأستاذ الوردي مُيول خاص جره لربط أمرين مختلفين، واستنتج فِي كتابته أن كل نقد موجه لإنتاج قانوني مثل إنتاج حكم قضائي يساوي ويوازي ازدراء صاحبه أي احتقار القاضي المصدر له، هو أمر غير صحيح بالمطلق، لأن هذا منطق نتاج عملية تدريب ذهنية راسخة غالبا عند من ينحصر دوره على فتح المتابعات و إقرار الاعتقال المسبق حتى في أبسط القضايا مما يمكن أن يكون مبررا لما سقط فيه صاحب المقال. فليس كل نقد موجه لحكم قضائي هو انتقاص من صاحبه وليس من المنطق، لكن القضاة مخلوقات يعيشون معنا على نفس الكوكب كباقي البشر لهم مزايا ولهم عيوب بالتالي ليست كل انتاجاتهم أي قراراتهم وأحكامهم سليمة يُلزم المتلقون لها الصمت أمامها عدم انتقادها، فالسوق القضائي وإحكامه كسوق العُملات لا يمكن أن يقبل عليها الناس وهي غير صالحة ولا تفرض نفسها إلا اذا كانت جيدة ومن مستوى عالي، ومن هنا كان من المفروض على الأستاذ الوردي أن يتجنب لغة الخشب وأن يدافع عن تفاعل القضاء مع المرتفقين ويقبل منهم ملاحظاتهم وانتقاداتهم، لأن ذلك في مصلحتهم ولأن القضاة ليسوا قضاة النخبة ولا يتوجهون بأحكامهم للنخبة لكي يستمعوا للنخبة وحدها ويتجاهلون غيرها، بل هم قضاة في خدمة العدالة للعامة من المتلقين دون تمييز بما في ذلك التمييز في الاستماع للبعض دون البعض الآخر.
الملاحظة الثالثة:
لا يمكن أبدا أن نُصلح ونرفع من شأن العدالة ومن مستوى احترامها بفرض الصمت على المتلقين لها أو بمنعهم من تحليلها وانتقادها بشكل صريح وواقعي بعيدا بالطبع عما يمكن اعتباره قدحا أو إهانة، فالعدالة لا تصلح للرفوف ولا تخصص للمتاحف ليتفرج عليها السياح، والقضاء لا يتفاعل مع الصامتين ومع الخائفين ومع المهزومين ومع المصفقين والمهرجين من الناس، ومن يفكر بهذا المنطق فهو في حاجة ماسة لعلاج لأفكاره، والأستاذ الوردي انطلق من مرجعيات لم تعد مقبولة سياسيا وثقافيا ومجتمعيا لما أكد منذ بداية حديثه على الاختيار التقليدي لمواجهة نقد الأحكام وانتقاد القضاء وهو الحل الجنائي بالتجريم والعقاب، ولم ينتبه لدروس التاريخ التي علمتنا أن علاقات الانسان أو المواطن بالدولة وبسلطات الدولة كانت عبر التاريخ علاقات صراع يحتدم ويتصاعد فيه النقد لكل ما تقترحه الدولة عندما يَعُم الظلم والفساد والاستبداد وتنعدم الحرية وتتفوق لدى الحكام قوة السلطة على قوة القانون، وقد كان عليه قراءة ما حدث مؤخرا بداية من التسعينيات من القرن الماضي من خلال سقوط قيود الاستبداد وما تلى ذبك من الثورات والانتفاضات التي عُرفت بالربيع العربي وعُرفت عندنا بالمغرب بعشرين فبراير وعرفت بحراك الريف وجرادة وغيرهما، وكل هذه التحركات هي عبارة عن سخط على أوضاع فاسدة وعبارة عن نفد قوي ورفض علني لما أنتجته الدولة وسلطاتها بما في ذلك السلطة القضائية نفسها، لأنها سلطة من سلطات الدولة وقضاتها من موظفي الدولة وإنتاج القضاة أي أحكامهم لابد له أن يكون جيدا عادلا ليتقبله المتلقي اي المواطن وينحني له، فالحكم القضائي الفاسد والضعيف لا يمكن احترامه من المتلقي لأنه حكم لا يخلق الاطمئنان ولا يقوي رابطة المواطن بالسلطة والدولة بل يرفع فرص الغصب ومناسبات السخط والاحتجاج، فضعف أو فساد صناعة العدالة وإنتاج الأحكام لا يشعر به القضاة، بل يشعر به متلقو العدالة، ومثل ذلك مثل ضعف بقية السلط الأخرى وضعف مستوى منتوجها الذي يحتج ضده المتلقون والمستهلكون، وهذا عند علماء السياسة و الاجتماع أمر عادي جدا كان على الاستاد الوردي الانتباه اليه وتقدير مخاض مجتمعنا في هذا القرن الذي هو قرن الرفض والاحتجاج ضد كل ما لا يلبي طموح المواطن المشروعة أو غير صالح من انتاج قطاعات الدول وسلطاتها سواء التنفيذية او التشريعية أو القضائية، ومن هنا لا يمكن أن تَسلم العدالة وتُستثنى وحدها من الانتقاد ولا يمكن أن نمنع المتلقي من تقييمها والحكم عليها والحكم على من صنعها بالتعليق والنقد الحر بالمقاييس المشروعة.
الملاحظة الرابعة:
تناسى الاستاذ الوردي التجربة المغربية المريرة التي عرفها المواطنون وعرفها من يسميهم بمستهلكي العدالة، والتجربة هاته درستها وحللتها هيئة الانصاف والمصالحة أمام الرأي العام وأمام الملك نفسه، بعد أن كشفتها كتابات الضحايا سنوات الرصاص أنفسهم، والتي اعتبرت ان القضاء من خلال العديد من الاحكام والقرارات التي صدرت ما بين 1956 و 1999 له مسؤولية عن جانب كبير من الانتهاكات القضائية لحقوق الانسان وتبين للمغاربة أنه خلال ما يقرب من نصف قرن والقضاء موالي للسلطة وللدولة ولمراكز القوة والنفوذ، وقد كان على الأستاذ الوردي قبل أن يعاتب المتلقي ويحذره بالقانون الجنائي على نقد القرارات والأحكام أن يتأمل في دموع المتلقين للعدالة وهم يحكون في جلسات الاستماع العمومي، كيف جرى لضحايا أحكام الإعدام والسجن والتعذيب والقتل في أكبر المحاكمات السياسية التي أصدرها قضاة أي من قبل القائمين مبدئيا على ضمان الأمن القضائي و توزيع العدل والحقوق وخلق العدالة بالمساواة وللجميع والذين اختاروا حينها أن يضعوا أقلامهم وأحكامهم و ضمائرهم في خدمة الدولة بدل خدمة العدل والحق وتطبيق القانون باستقلالية وحياد، وربما كان الأستاذ الوردي صغير السن ولا يتذكر كيف مُتع المذنبون والمتسببون في أزمات العدالة من الافلات من العقاب تحت مسمع ومرأى صناع الاحكام و ضُمان العدالة، وهنا أقترح عليك يا عزيزي بالمناسبة أن تتريث قبل جلد المواطن متلقي العدالة وأن تضع قلمك وسط أقلام أخرى لتساهم في النقاش الحقيقي الذي لا زال المغاربة بمن فيهم متلقو العدالة يثيرونه بعمق وموضوعية ومسؤولية، وهو موضوع عدالة المغرب اليوم وعدالة المستقبل، وموضوع أزمة استقلال القضاء وأزمة نجاعته وفعاليته في ضمان الأمن القانوني والقضائي، وأزمة نوعية الاحكام والقرارات القضائية وجودتها، وأزمة نجاعة العدالة أي عدم احترامها واحتقارها ورفض تنفيذها من قبل الدولة وإداراتها ومرافقها وجماعاتها ومنتخبيها ووزرائها، وأزمة استرجاع ثقة المتلقي في القضاء وفي أحكامة وبحث أسباب التذمر والاحتجاج التي تصل أحيانا للإضراب عن الكلام وعن الطعام خوفا على مصير المحاكمات ومصير الحريات…. وهذه مواضيع حسب علمي لم يسبق للأستاذ الوردي أن طرحها أو عالجها، وأخيرا عليكم التمعن في سؤال واضح وهو هل أزمة العدالة في مفهومكم هي أزمة التعليق على الأحكام، أم هي أزمة صناعة وتنفيذ الاحكام؟ وهل الأزمة أزمة متلقي العدالة أم أزمة المسؤولين عن تحقيق العدالة؟
الملاحظة الخامسة:
ربما لن يَقتَنِعَ الأستاذ الوردي نفسه قبل أن يُقنِعَ الآخرين بضرورة قَمع ومعاقبة “متلقي العدالة” كما هو معمول به في دول أخرى، فقد استشهد وتحجج ببعض القرارات القضائية بفرنسا في قضايا سياسية حساسة، واختار منها ما كان ولا زال مثار خلافات سياسية أكثر من قضائية، ولم يستحضر سياقاتها وأراد أن تطبق فوق تربة مغربية مليئة بالأشواك وبالمنعرجات التي تكسر كل المسلمات التي تصلح لمناخ منتعش بالمساواة أمام القانون وبمصداقية أقوى للمؤسسات ومنها المؤسسة القضائية، فقد قدم قضايا كنماذج لكنه نسي بأنها انتهت ببراءة المتابعين، فقضية جينو H. Guaino الذي توبع أمام الغرفة 17 بمحكمة باريس وهو برلماني وأحد المقربين السياسيين من الرئيس ساركوزي والذي غضب في تصريحاته الصحفية وانتقد سنة 2013 قرار قاضي التحقيقJ. Michel Gentil عندما تابع الرئيس الفرنسي بمناسبة قضية بيتانكور، وبناء على وشاية من قبل الاتحاد النقابي للقضاة Union Syndical des Magistrats (USM) انهت بحكم برائته ابتدائيا وأدين استئنافيا، لكن محكمة النقض ألغت قرار الإدانة سنة 2016 وقالت : … considérant que l’outrage à magistrat ne peut s’appliquer dès lors que les propos litigieux n’ont pas été adressés directement au juge وقد ذهب القرار في اتجاه العديد من الأحكام التي صدرت عن المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان والتي أعطت للنقد مكانته الحقيقية اعتبارا لأهمية كل قضية ومكانة الجهة التي يوجه اليها، ومن أبرز تلك الاجتهادات القرار الصدر عن المحكمة الأروبية سنة 2007 ولصالح حرية النقد في قضية رولان دوما R.DUMAS وزير الخارجية السابق عما جاء في كتاب له حول قضية ELF، وقبلت المحكمة ما فيه من نقد قوي لوكيل
الجمهوريه وصوره الكاتب: ‘un procureur de l’affaire Elf «aurait pu siéger dans les sections spéciales de ces tribunaux spéciaux de l’Occupation والقرار هذا عمق المفاهيم ووسع دلالات حرية التعبير وحرية انتقاد القضاء وأحكامه وقالت المحكمة الاوروبية : les propos de Dumas étaient relatifs à «une affaire d’Etat qui suscita un déferlement médiatique» et «donnaient des informations intéressant l’opinion publique sur le fonctionnement du pouvoir judiciaire» وهذا يكفي للرد على توجه الاستاذ حكيم الذي رافع ضد توسيع مساحة نقد القرارات القضائية بشكل شبه مطلق ومن دون اعتبار ما لأهمية مواضيع النقاش وعلاقاتها بالمصلحة العامة .
أما النموذج الثاني الذي أورده وأخطأ في نهايته، الاستاذ حكيم فله أهميته والأمر يتعلق بحكم إدانة الرابطة الفرنسية لحقوق الانسان (LDH) ونقابة القضاء Syndicat de la Magistrature، وجمعية Gisti، بمناسبة البلاغ المشترك الصادر سنة 2015 الذي انتقدوا فيه قرار محكمة الاستئناف بباريس التي رفضت لجمعية لرعاية الأحداث تكفلها بحَدث مُهاجر مالي، والتي انتهت ببراءة الجميع بتاريخ 16 نونبر 2016 بعلة أن مساحة الانتقاد الموجه لإحكام القضاة هو غير النقد الموجه للقضاة، وهو الاشكال الذي تحاشى التطرق له، ومن هنا يبدو ان الهم الذي كان وراء طروحات الاستاذ الوردي ليس تمحيص جدي ومشاركة محايدة في نقاش مجتمعي لقضية التعامل مع قرارات القضاء، بل كان وراءها في نظري التوجس من مرحلة تاريخية يمر منها المجتمع المغربي تتسم بالتشبع والتشبث بالحريات الفردية والعامة والتشبث بالمساءلة العامة لكل مسؤول والتشبث بالشفافية والاحترام في المعاملة مع المواطن والتشبث بكونية حقوق الانسان وبرفض عقليات ” الديمقراطية والحريات جرعة جرعة”.
و اتمنى من صاحب “ازمة تلقي العدالة ” أن يتأمل في الأخير في ثلاثة قضايا تتعلق الأولى بالمرحوم الملك الحسن الثاني ضد جريدة لوموند الفرنسية ومديرها آنذاك السيد كولومباني، والتي تفوق مسألة تعليق أو نقد لحكم قضائي، بل تتعلق بإهانة رئيس دولة أجنبية والذي دام حولها النقاش من سنة 1995 لسنة 2002 وانتهت بصدور قرار المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان التي أدانت فرنسا بسبب انتهاكها لمادة 10 من الاتفاقية الاوروبية و بسبب مؤاخذتها لجريدة لوموند عن جريمة القذف في حق رؤساء الدول وهو ما اعتبرته المحكمة الأوروبية انتهاكا لحرية التعبير، وعقب صدور قرار من هذا الحجم انتهى مصير المادة 36 من قانون 29 يوليوز 1881 المتعلق بقانون الصحافة أي انتهت جريمة offense a chef d’état étranger أي المس برئيس دولة أجنبية التي حذفت نهائيا من قانون 1881 وهو الأمر الذي سجل فيه القضاء الفرنسي ومحكمة النقض قفزة من قفزات مجدها لتعزز مكانة حرية التعبير ضمن الحريات الأخرى حتى وإن كام الأمر مرتبط برئيس دولة، وتتعلق الثانية بالملك محمد السادس وما انتهت إليه عبقرية قضاة محكمة النقض بفرنسا جوابا على الدفع بعدم دستورية قانون، حيث جاء في قرارها الصادر بتاريخ 6 فبراير 2018، وأعلنت أمام قضاة العالم أنه : (( يمنع على الدول الأجنبية رفع دعوى بالقذف أمام المحاكم الفرنسية)).
الملاحظة السادسة والأخيرة:
منطلق الأستاذ الوردي في حديثه عن أزمة تلقي العدالة هو محاكمة معتقلي حراك الريف وشعوره بنصيبه من المسؤولية عن أدواره فيها وعما شهدته من اختناق ومن احتكاك ومسؤوليته عن نتائجها وتداعياتها وردود الرأي العام حولها، وقد كان من المفيد وهو يتناول جانبا من نتائجها أن يبدي رأيه في الملف وفي المحاكمة بعد أن انتهت مرحلة المحاكمة الأولى وذلك كما يفعل قضاة في دول أخرى حيث يثيروا نقاشا منظما ومؤطرا مع الجمهور من متلقي العدالة، وهذا أمر سيتم عندنا بالمغرب في القادم من القرون، ولما اكتفى الأستاذ الوردي بطرح جانب غير ذي صلة بجوهر المحاكمة فذاك عيب غير مقبول.
وأخير، متى نكف يا عزيزي حكيم، عن تعليم المواطن وإعطائه الدروس، ومتى سنقول بأننا في حاجة للمواطن لكي نتعلم ونتلقى الدروس.
ومتى يشعر المواطن انه في غير حاجة لإثبات مواطنته كل مرة ليعترف به الآخرون. كما عبر عن ذلك الفيلسوف PIERRE BOURDIEU
الذي قال: QU’EST-CE QU’UN CITOYEN QUI DOIT FAIRE LA PREUVE, À CHAQUE INSTANT DE SA CITOYENNETE?
بقلم: النقيب عبد الرحيم الجامعي