ركود السياسة والتجارة وتحول الصراع نحو الثقافة
يعكف العديد من المفكرين والمثقفين داخل صالونات ثقافية أو مجموعات التفكير لمحاولة استشراف المرحلة القادمة وفك خيوط العديد من المعادلات التي تتحكم في خرائط الاقتصاد والمال والتحالفات السياسية والعسكرية، وكشف أنماط جديدة للقوة الناعمة.
وليس غريبا أن نقف على اختلاف وجهات النظر في أغلب مُخرجات وخُلاصات تلك المجموعات، وهذا راجع بطبيعة الحال إلى اختلاف الخلفيات الإيديولوجية والقناعات الفكرية لتلك المجموعات، لكنها تشترك في قواسم موضوعية فرضتها الظرفية السياسية والتحالفات الاستراتيجية وإكراهات الأزمة الاقتصادية العالمية وكذا جائحة كوفيد 19.
إذ لا يمكن الإدعاء بموضوعية أي قراءة استشرافية للمستقبل بدون التوفر على قراءة واقعية لهذا المستقبل المحفوف بالتحديات والإكراهات، وفي نفس الوقت ضرورة ضخ جرعة من الأمل وتخصيص مساحات إيجابية في رقعة القراءة، رغم كل ما نعيشه ونقرؤه عن مآسي هنا وهناك؛ لأنه لا يمكننا الحديث عن المستقبل بدون إشراقات أمل.
فالقراءة الواقعية لما عليه العالم اليوم، يطغى عليها مصطلح «الأزمة». هناك أزمة قيم أخلاقية، وأزمة أيديولوجيات تحتاج لمراجعات قوية، وأزمة تحالفات سياسية واقتصادية صِيغَت في سياقات مغايرة، وأزمة تدبير ملفات شائكة مثل الهجرة والإرهاب الدولي والإسلاموفوبيا؛ ورغم كل الأزمات فالعالم يحاول الانبعاث من جديد وإعادة بعض من قواه على جميع الأصعدة.
لكن ونحن نحاول القيام بتلك القراءة تستوقفنا محطتان هامتان، أولها جائحة كورونا، وثانيها نهاية مرحلة الرئيس الأمريكي ترامب أو فلسفة الترومبيزم، لما لهما من تداعيات عالمية جعلت أغلب الدول تعيد ترتيب بيتها الداخلي وأولوياتها، ومن بين تلك الدول طبعا وطننا المغرب.
إشراقة أمل في مواجهة كل التحديات
فمن السهل جدا، الانخراط في حفل «البكاء الجماعي» عندما يتعلق الأمر بالتفكير في مستقبل المغرب بكل رهاناته وتحدياته وإكراهاته، لكننا في الوقت الراهن نحتاج إلى الموضوعية وللكثير من الأمل للرفع من معنويات كل الفاعلين وكل الفرقاء في هذا الوطن العزيز. وإذا كان النقد البناء مكونا أساسيا للتقدم لأنه ينقلنا إلى فُسحة التصحيح والتعديل والأمل، لكننا نعتقد أنه لا جدوى من الإفراط في النقد لدرجة جلد الذات، أو تبني النقد من أجل النقد فقط.
تلزمنا الواقعية بالقول إن هناك خصاصا في العديد من القطاعات ببلادنا وأن هناك أزمات في تدبير بعض الملفات والاعتراف بوجود عدد من الإخفاقات والنقائص، لكن نفس الواقعية تلزمنا بالقول بأن المغرب كانت له الجرأة بالاعتراف بضرورة تغيير العجلة وأن طرح تصور جديد للنموذج التنموي بمقاربة تشاركية هو ضرورة حتمية، كما استطاع تجاوز امتحان جائحة كورونا بأقل الخسائر مقارنة مع دول قريبة جغرافيا أو متقاربة في الوضعية الاقتصادية.
لذلك فإن أي قراءة اليوم لواقع ومستقبل المغرب تغيب عنها تداعيات كورونا، تبقى قراءة هشة وصورة تنقصها العديد من الأجزاء والمكونات؛ وهذا ما يعلل ربما تأخير تقديم تصور للنموذج التنموي الجديد، حتى تتاح الفرصة للنموذج التنموي الجديد لاستيعاب ما عرت عنه الجائحة من أعطاب اقتصادية واجتماعية وثقافية وتغييرات جوهرية في سلم الأولويات.
ونفس الشيء يقال في الجانب السياسي، فأي قراءة لا تستوي إلا باستحضار الاستحقاقات القادمة وما حمله القانون التنظيمي الجديد من بشائر التخليق والمساهمة في صناعة جيل جديد من الفاعلين السياسيين والحزبيين، والانتصار للنوع من خلال التمييز الإيجابي بالرفع من تواجد نون النسوة في كل المجالس المحلية والجهوية وفي البرلمان؛ فدعم المشهد الحزبي بالمغرب وتجديده وتدعيمه بمراكز التفكير وقنوات التواصل وضخ دماء جديدة ووجوه جديدة يشكل لا محال أحد الرهانات المستقبلية للمغرب.
كما أن كل قراءة تهمل هندسة الثروة الاجتماعية في الأفق القريب والمتوسط سواء على مستوى توسيع التغطية الصحية أو التغطية الاجتماعية، تجعل منها قراءة مجانبة للواقعية ولا تقف على أرضية صلبة.
ولا يمكننا قراءة مستقبل المغرب بدون استحضار مستجدات ملف الوحدة الترابية، أي قضية الصحراء المغربية، سواء من خلال قراءة لكل قرارات مجلس الأمن الدولي خاصة في السنوات الأخيرة التي تدعم مبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي وسياسي توافقي وسلمي؛ أو من خلال افتتاح مجموعة من القنصليات بمدينتي الداخلة والعيون بالصحراء المغربية، أو أخيرا من خلال اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء إلى الحدود الموريتانية، وضم أوراق هذا الاعتراف إلى الأوراق الرسمية للقضية داخل مجلس الأمن الدولي المكلف بشكل حصري بملف الصحراء المغربية.
ومن شان هذه الاعترافات والخطوات الدبلوماسية للدول الصديقة بفتح قنصلياتها في الجنوب المغربي أن تساهم في جعل أقاليمنا الجنوبية أكثر «جذبا» للاستثمارات الأجنبية وبالتالي تساهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية لسكانها كما ستكون حلقة وصل تربط المغرب بعمقه الإفريقي.
هي قراءات تغلب عليها شئنا أم أبينا، إشارات الأمل والثقة في مغرب يجتهد من أجل التصحيح والتعديل والبناء، مغرب مراكز التفكير والطاقات الشابة سواء الموجودة داخل الوطن، أو المنحدرة من مغاربة العالم الذين يشكلون خزانا كبيرا من الكفاءات والخبرات الواعدة ويساهمون في دعم عناصر التنمية الاجتماعية والمجالية بالمغرب. فلا يمكن قراءة مستقبل المغرب بدون إشراك مغاربة العالم.
من الحروب التجارية إلى الثقافية
وإن قراءة المستقبل بتحدياته ورهاناته تعني أيضا ما يقع خارج المغرب سواء في البيت الإفريقي أو المجال المتوسطي أو بالدول الأوروبية وكذلك بالولايات الأمريكية. وهنا أيضا أثرت جائحة كورونا في تغيير الكثير من الميكانيزمات التي كانت تحكم العلاقات الدولية، وتصدرت آليات جديدة في مجالات التحالف أو التفاوض كديبلوماسية الكمامات مثلا أو الدبلوماسية الصحية كنوع جديد من القوة الناعمة، وسباق المختبرات العالمية من أجل التوصل إلى لقاح فعال للكوفيد 19.
كما عرت كورونا عن أزمة غير مسبوقة للعلمانية في الدول الغربية، عندما تم إغلاق الفضاءات العمومية للعبادة بأوامر السلطات الحكومية وليس بأوامر من رجال الدين مما أثار حفيظة بعض رجال الكنيسة، استوجبت تدخل الفاتيكان للتخفيف من حدة النقاش الذي فرضته تدابير جائحة كورونا.
وفي نفس مجال العلاقات الدولية، ساهمت خسارة ترامب في انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية ونهاية «الترومبيزم» في إعلان تغييرات في معالم العالم وفي تكتلاته وأحلافه؛ وتغيرت الرهانات من ترويج لفكرة «الحروب التجارية» إلى تبني فكرة جديدة أي «الحروب الثقافية «.
وقد جعل هذا التغير أغلب المحللين ينحازون لفكرة إحياء نقاشات التاريخ والإرث التاريخي للدول الاستعمارية، والتاريخ المشترك بين للدول المستعمرة والاستعمارية بين الجاليات في الدول الغربية، بالإضافة إلى مواضيع الإسلام والعلمانية والانعزالية الإسلامية، والمسلمين في البلدان الغربية وإشكالية الرموز الدينية وطرح إشكاليات معرفية وتاريخية تتعلق بإشكالية المقابر مثلا في الديانات المختلفة وكذا الدعوة إلى إعادة قراءة التراث.
ولا يمكن المرور عبر هذه التحولات والمنعرجات الجديدة في الساحة الدولية دون الإشارة الى ما يعرف الآن بـ cancel culture أو «ثقافة الإلغاء» بالدول الغربية، والتي انتشرت بقوة خاصة بعد مقتل الأفروامريكي جورج فلويد في ماي 2020 وما تبعه من موجة استنكار ومسيرات عارمة وتدمير تماثيل شخصيات عالمية اشتهرت في مجالات فلسفية وفكرية وفنية، اتهمها أنصار هذا التيار بالعنصرية والتمييز الجنسي.
لذلك فإن الاعتقاد السائد الآن، هو أن المرحلة القادمة بعد نهاية فترة ترامب أو «الترومبيزم» سيغلب عليها العنصر الثقافي والحقوقي والتاريخي، وهو ما يعني الاتجاه من ساحة الحروب التجارية إلى ساحة الحروب الثقافية.
< بقلم: عبد الله بوصوف