أكدت عدد من التقارير الصحفية أن المغرب قرر أخيرا إدراج تاريخ وثقافة اليهود المغاربة، في البرامج التعليمية والدراسية في المدارس المغربية، بل إن هذا القرار قد بدأ تنفيذه بالفعل، ففي الطبعة الجديدة من مقرر “الجديد في الاجتماعيات” الموجه للسنة السادسة من التعليم الابتدائي، وفي درس خاص بـ “المغرب في عهد العلويين”، والحديث عن السلطان محمد بن عبد الله مؤسس مدينة الصويرة، تمت الإشارة إلى ما نص عليه الدستور المغربي من اعتبار المكون العبري أحد روافد الهوية الوطنية، كما تم التعريف ببيت الذاكرة، باعتباره فضاء تاريخيا وثقافيا وروحيا لحفظ الذاكرة اليهودية المغربية وتثمينها.
هذه الخطوة وإن كانت متأخرة، إلا أنه لا يمكن إلا تثمينها وتشجيعها، لما للثقافة اليهودية من أثر في الواقع المغربي وتاريخه وعاداته وتقاليده وأنماط عيشه، فليس من العدل ولا من التصالح مع الذات تغييب كل هذا التاريخ والتأثير في تكوين الشخصية المغربية، وتعريفها بجذورها وأصولها الهوياتية.
لا يخفى على كل باحث في التاريخ، تأثير الثقافة اليهودية ودورها في تشكيل عادات المغاربة وأنماط عيشهم، فمن حق المغاربة أن يعرفوا وأن يتلقوا في تعليمهم كل ما يتعلق بهذا الجزء الأصيل في تشكيل وعيهم وثقافتهم وأعرافهم.
من حق الأجيال الصاعدة أن تعرف أن وجود اليهود بهذه البقعة قديم وأصيل، وأنه يعود لأكثر من 28 قرنا مع وصول البحارة الفينيقيين، وليس فقط مع الهجرة اليهودية من الأندلس بعد سقوط غرناطة عام 1492.
من حقها أن تعرف ما سبب تسمية أحياء بسلا والبيضاء وشفشاون والرباط وفاس بـ “الملاح”، وكيف كانت تجمعات لليهود، وكيف كانت في الغالب قريبة من قصر السلطان، لتمتيعهم بكل أنواع الحماية والتأمين، وليتمكنوا من ممارسة شعائرهم التعبدية، وتنظيم حياتهم الاجتماعية بكل حرية.
من حق هذه الأجيال أن تعرف أن اليهود كانت لهم مساهمة وافرة في تشكيل الطعام المغربي، وأن أشهر وصفاته التي يختلط فيها المالح والحلو كالبسطيلة ووطاجين اللحم بالبرقوق تعود أصولها لليهود، وأن تخزين اللحوم وتحويلها إلى “قديد” و”كرداس” من ثقافة اليهود، فضلا عن عدد من الأطباق والعادات الغذائية.
هل تعلم هذه الأجيال عن الدور التاريخي الذي لعبه اليهود في إنعاش الاقتصاد وتطويره، حتى إن فكرة الأسواق الأسبوعية في القرى والبوادي كانت من إبداع اليهود، والذين اقترحوا إقامة سوق أسبوعي لكل منطقة، بحيث يبعد كل واحد عن الآخر مسافة يوم من المشي، وترتيب أيامها حسب موقعها، بشكل دائري حيث تشمل الأسواق أهم محاور المنطقة بشكل تسلسلي، وفي كل سوق منها تجد ما يسميه اليهود بـ “المعبد” وبه لحوم الكاشير، ليتمكن التاجر اليهودي من عرض سلعته كل يوم بمنطقة، مع أداء العبادة وأكل اللحم الحلال في دينه، وقد استفادت الدولة من ذلك بخلق رواج اقتصادي لا زال قائما إلى اليوم، مع سهولة جمع الضرائب واستخلاصها، كما استفاد سكان هذه المناطق بتوفر الفضاء الذي يسمح لهم بترويج سلعهم وشراء سلع أخرى، في فكرة بديعة لا وجود لها بالعالم إلا في المغرب.
من حق هذه الأجيال أن تتعرف على ما أضافه اليهود للفن المغربي، تأتي على مسامعي في الفترة الأخيرة وأنا بالشارع أو عند الحلاق أغنية “سير يا ناكر لحسان”، وقد أعيد إنتاجها بتوزيع جديد وآلات حديثة، تلك التحفة التي حفظناها مع جيل جيلالة والحسين التولالي قلة فقط من المطلعين من يعرفون أصولها ومنشأها، وأنها من نظم الشاعر اليهودي إبراهام أنجار، ومثلها كثير من قصائد الملحون والأندلسي والغرناطي، وفي مختلف الفنون المكتوبة والشفهية.
لم لا تعرف هذه الأجيال شيئا عن إسحاق الفاسي وموسى بن ميمون ويهودا بن قريش وابن بارون، وكل اليهود الذين كانت لهم مساهمات هامة في الحياة العلمية والفكرية والسياسية.
لذلك أعتبر أن هذه الخطوة اليوم ستكسر حاجزا نفسيا كبيرا صنعته السياسة والإيديولوجيا، والتعليم من أهم أدواره التنوير ورفع التعتيم، وإلا فإننا نكرس للظلامية، في عالم مدني ينحو في اتجاه التوسع وإسقاط الحدود، خاصة في المجتمعات التي تتعدد بها الأعراق، لذا لا سبيل لنا سوى التصالح مع ذواتنا، وألا نكون على رأي شاعرنا اليهودي “ناكرين لحسان”.
بقلم: محمد عبد الوهاب رفيقي