على هامش ندوة “مدونة الشغل بين النص القانوني والتطبيق الفعلي” التي نظمتها وزارة الشغل والإدماج المهني يومي 2 و3 أكتوبر 2020 بالرباط، بتعاون مع الشركاء الاجتماعيين وحضور الخبراء والممـارسين نبدي الارتسامات التالية: ونفتتحها بسؤال طويل وعريض وهو: هل تحتاج مدونة الشغل لسنة 2003 تدخلا جراحيا -عـفوا- تشريعيا عـاجلا لإصلاح مــا أفسده الدهــر ووباء كــورونا – 19 معا؟
لا نعتقد ذلك وهذه أسبابنا المنطقية كما نراها:
1- مدونة الشغل هي في حد ذاتها ما زالت ضعيفة كضعف الأجير في علاقة الشغل وتحتاج إلى من يقويها ويحميها ويسندها، ولهذا فهي تحتاج إلى كتيبة من مفتشي الشغل قوية عددا وعدة، حتى يكون الجهاز المكلف بمراقبة مدى احترام المشغّلين لمقتضيات مدونة الشغل في مستوى المسؤولية المسندة إليه، لأنه حسب وزير الشغل السابق السيد جمال أغماني “لا يتعدى عدد مفتشي الشغل في المغرب كله 370 فردا مكلفين بمراقبة 250 ألف مقاولة مصرح بها لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي…”، فكيف ولا ستبقى المدونة حبرا على ورق؟
2- على المستوى القضائي تحتاج مدونة الشغل إلى محاكم الشغل التي عمرت بالمغرب ما بين سنة 1929 و1974، وبالتالي فهي أقدم وأسبق وجودا تاريخيا من المحاكم الإدارية (1994) والمحاكم التجارية (1997)، ولهذا فمحاكم الشغل تحتاج إلى مدافع صلب لإعادة الروح والاعتبار إليها، وكانت هناك محاولة سنة 1998 بندوة وطنية بمراكش وتم إجهاضها، لماذا؟ هذا سؤال يجب أن يطرح وتتم الإجابة عليه بموضوعية.
3- مدونة الشغل تطرقت إلى العديد من أسباب انقضاء عقد الشغل كالاستقالة، والفصل لأسباب تأديبية أو اقتصادية، والتقاعد… إلخ، ولكنها لم تنظم ما يسمى بـ ((مغادرة الأجير لعمله تلقائيا)) التي يدعيها المشغلون بكل مرونة وسهولة وهذا الادعاء له مصداقية وثبوتية امام قضاة منازعات الشغل بنسبة جد مهمة، بينما الحقيقة لا يعلمها إلا الله، فكم من مغادرة تلقائية كانت اضطرارية أو لا وجود لها في الواقع ومع ذلك تصدقها بنسبة كبيرة بعض الأحكام القضائية، ولهذا يجب تنظيم ((المغادرة التلقائية للعمل)) في مدونة الشغل بشكل قانوني وشفاف، قال أحد المحامين بالدار البيضاء الممارسين للمادة الاجتماعية، إنه لما يدخل مكتبه أجير مفصول تأديبيا من الشغل وبيده مقرر الفصل يفرح هذا المحامي لأنه بشكل أو بآخر سيعرف كيف ينقذ موكله من هذه الورطة ومن فك المسطرة التأديبية، ويقول له: ((سوف أَسُلُّكَ مِنْهُا كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ))، ولكن لما يقول له ذلك الأجير إن سبب فصله هو ((المغادرة التلقائية للعمل)) يقول له ذلك المحامي: ((الله غالب… حظوظ في كسب دعواك قضائيا جد ضئيلة، لأن الاجتهاد القضائي ليس في صالحك))، هذه ثغرة، هذا ملف تشريعي كبير في مدونة الشغل يجب أن يغلق ويتألم منه الأجراء في صمت.
يجب رد الاعتبار تشريعيا لمدونة الشغل التي تركت مدونة التجارة تتدخل في شؤونها، فمدونة الشغل لسنة 2003 نظمت الفصل أو التسريح الجماعي للأجراء لأسباب اقتصادية في المادة 66 وما بعدها، وهذا التنظيم التشريعي احترمته مدونة التجارة لسنة 1996 وحتى قبل أن تولد مدونة الشغل سنة 2003، فالمادة 592 القديمة في مدونة التجارة كانت تنص على أن الفصل الجماعي للعمال لأسباب اقتصادية يجب أن تشرف عليه السلطة الإدارية المحلية المختصة، أما تعديلات مدونة التجارة لسنة 2018 في ما يخص مساطر صعوبات المقاولة فقد أعطت هذه الصلاحية لسنديك التفليسة (خبير) حسب الصياغة الجديدة للمادة 624 من مدونة التجارة لسنة 2018، من باب المقارنة نقول إنه في سنة 1998 لما أرادت المنظمة العالمية للتجارة أن تنظم على الصعيد الدولي علاقات العمل ووضع المبادئ الأساسية لها، تصدت لها المنظمة الدولية للعمل ولم تتنازل لها قيد أنملة عن اختصاصاتها وأخرجت مسرعة إلى حيز الوجود إعلان منظمة العمل الدولية بشأن ((المبادئ والحقوق الأساسية في العمل ومتابعته)) الذي اعتمده مؤتمر العمل الدولي في دورته السادسة والثمانين التي عقدت في جنيف وأعلن اختتامها في 18 يونيه 1998.
المادة 62 من مدونة الشغل لا تنص صراحة على الأجل الذي يصدر فيه المشغل مقرر الفصل التأديبي وإن كانت الفورية في إصدار هذا المقرر تستنج من ثنايا نص المادة 62 من مدونة الشغل، ومع ذلك يظل هاجس وضع النقط على الحروف تشريعيا ورادا وقائما.
لعل المدونة في حاجة بعض الشيء إلى مراجعة تقنية شكلية لتنقيح صياغة بعض النصوص أو تقسيمات بعض المواد، فعلى سيبل المثال لا الحصر المادة 23 من المدونة تعالج ((محو الأمية لدى الأجير)) وتسليمه ((بطاقة الشغل)) وكان من الواجب تخصيص مادة لكل فكرة من الفكرتين حتى لا يختلط شعبان برمضان كما يقال.
المادة 588 من مدونة الشغل يجب أن تعاد صياغتها حتى تكون أكثر فهما واستيعابا وأكثر تعبيرا عن مضمون النص وعلاقته بغيره من المواد.
8- لائحة النصوص التطبيقية والتنظيمية لمدونة الشغل من مراسيم وقرارات وزارية ما زالت ربما لم تكتمل، وما زال هناك الكثير من البياض أو الفراغ في بعض المواد التشريعية التي ينبغي أن تملأ بالمراسيم او القرارات الوزارية، مثلا زمان ومكان الاستماع إلى الأجير قبل فصله لم تحدده المادة 62 من المدونة وحاول الاجتهاد القضائي من خلال قرار محكمة النقض (2007) والمعروف بقرار ((ربيعة بنفضول)) أن يعالج المسالة، ولكن يستحسن أن ينظم الإشكالية مرسوم تطبيقي يحدد مكان عقد الاستماع إلى الأجير، والساعة التي يتم فيها ذلك، وكيف يتم الاستدعاء لجلسة الاستماع… إلخ.
9- كذلك كثرة التناقضات في التطبيق القضائي لمدونة الشغل يجب وضع حد لها بتدخل تشريعي، فمثلا المادة 62 من مدونة الشغل نصت على أنه إذا فشلت مسطرة الاستماع إلى الأجير “يتم اللجوء الى مفتش الشغل”، فهذا اللجوء الى مفتش الشغل فسرته محكمة النقض تارة لصالح الأجير وتارة أخرى لصالح المشغل، وذلك بسبب غموض النص وعدم وضوحه وإن كان المشغل هو الملزم بمسطرة الفصل من الألف إلى الياء أي أنه هو الملزم بـ”اللجوء إلى مفتش الشغل” إن لم تتم مسطرة التأديب والاستماع للأجير في حضن المقاولة لسبب ما.
10- على مستوى علاقات الشغل الجماعية، وقبيل سنة انتخابية بدا التحضير لها مبكرا، وفي عز أزمة كوفيد-19 نرى أنه ربما يكون مشروع القانون التنظيمي لممارسة حق الإضراب يجب أن يؤجل لبعض الوقت، إلى حين نضجه والتقاء الأطراف حوله في إطار التوافق والحوار الاجتماعي والمنهجية الثلاثيةtripartisme والتي تعني: العمل الجماعي لكل من الحكومة + النقابات عملية + المنظمة المهنية للمشغلين أي الباطرونا، ولكن ما يجب أن ينكب عليه المعنيون بالأمر حقيقة بالدراسة والتفاهم هو أنه ((لا حرية نقابية دون حرية للعمل، ولا حرية للعمل دون احترام لحد أدنى من الحريات النقابية)).
11- بعض المتدخلين في الندوة العلمية المذكورة ربطوا بين وباء كورونا أو كوفيد – 19 وبين مدونة الشغل وضرورة تنقيحها وتعديلها، والواقع أنها – أي مدونة الشغل – تتوفر على كل المواد والمقتضيات التشريعية لتنظيم علاقة الشغل بين الأجير والمشغل ولا تحتاج لأكثر من معالجة بسيطة على النحو الذي أوضحناه أعلاه، ولكن في المقابل بسبب وباء كورونا ربما نحتاج إلى مراجعة شاملة لقانون الضمان الاجتماعي ومراجعة قانون الحماية الاجتماعية لحماية المغاربة، سواء كانوا أجراء أو عاطلين عن العمل أو مقاولين شباب أو مقاولات ذاتية صغيرة أو ومتوسطة من الهشاشة والفقر والتقلبات الاقتصادية بسبب كورونا أو غير كورونا، والتعويض عن فقدان الشغل المنصوص عليه في ظهير 27/7/1972 المنظم للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يعد بداية لحل هذه الإشكالية الكبرى أي الحماية الاجتماعية، خطوة أساسية نثمنها ولكن يجب تطويرها نحو أحسن وتعميمها وتبسيط إجراءات الحصول على مثل هذا التعويض أو الدعم أو المنحة الاجتماعية.
وأهم من يظن أن مدونة الشغل لما نعيد قراءة كتبها السبعة، ونعيد فيها النظر بتعديلها تارة لصالح الأجير وتارة أخرى لصالح المشغل، سوف تخلق المقاولة أوتوماتيكيا العدد الوافر من مناصب الشغل وسيقع امتصاص البطالة، لأن من سيحل مشكل التشغيل ويقضي على البطالة ولا سيما بطالة الجامعيين والشباب وذوي الهشاشة ومن لا تكوين مهني لهم، هو: الأبناك بما فيها بنك المغرب، ومديرية الضرائب، والمشرع المالي، والحكامة الجيدة للإدارة العمومية المغربية، والوقاية من بطء إجراءات التقاضي في دعاوى استخلاص الديون والتعويض عن الأضرار، والحد من القطاع غير المهيكل في منظومة المقاولات، وملاءمة البرامج الدراسية والجامعية مع سوق الشغل، وانتشار مؤسسات التكوين المهني في ربوع المملكة، واحترام قواعد المنافسة الشريفة بين المشغلين، وهل هناك قائمة أو كناش الزبناءcarnet d’ adresse لدى المقاولات، وما تتوفر عليه كل مقاولة من طلبيات الزبناء bons de commande، والإنتاج الجيد للمقاولة المغربية و بأسعار معقولة، وحماية المستهلك والتحاور معه، وقدرة المقاولة المغربية على التنافسية داخليا وخارجيا، والاستماع إلى تظلمات المقاولين حتى ولو كانت بسيطة وروتينية، وإعادة الاعتبار لعمل الأجير ولعمل المقاول بمنحه الأجر الذي يستحقه فعلا وليس المساومة عليه أو تبخيس عمله وقتل روح الابتكار والعمل الجاد لديه، يقول نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)).
***
فهل مدونة الشغل لها القدرة على مواجهة كل هذه التحديات والمسؤوليات وغيرها التي لم تخلق لها وتصادف المقاولة المغربية في طريقها وتجعلها عاجزة عن الاستثمار وخلق مناصب الشغل، علما بأن وظيفة أو أدوار مدونة الشغل لا تتعدى ((تنظيم علاقة الأجير بالمشغل من الناحية القانونية سواء كانت علاقة فردية أو جماعية)).
فكيف نجرؤ يا مدونة الشغل على تحميلك ما لا تستطيعين تحمله، وكيف نقبل أن تكوني ذلك المشجب الذي تعلق عليه أخطاء ارتكبت بشكل جماعي أو عشوائي؟
وسامحينا إن فعلنا ذلك عن قصد أو غير قصد، ولهذا تحدثنا معك يا مدونة الشغل دون لغة خشب، وعلى هامش ندوة علمية، والله أعلم.
بقلم: د .إدريــس فــجــر*