– إلى أين أيتها النفس المتعبة؟
سرت في زحام الروح أتخبط على غير هدى مع طعم الدهشة الأولى، ولا أعرف للراحة سبيل، تتلكأ السنة في مشنقة الفصول لتنبت الزهور في نيسان، وتهرب من طريق إلى طريق.
حملت كرامتي، ومضيت هائمة أنا وروحي، ألثم ما تبقى من آثار خطى الأحلام على أعتابي، ف أهرب من جحيم يحرقني، فيضيع العمر ويحمل باقة من الحزن معه ليجهض الحديث في صدري، ثم أبحث عن بقعة سلام أضمد فيها جراحي، ربما……
لم يعد يشبهني ذاك التعب الذي يزهر من حزن الغيم يوما، أو عمرا، أو حتى لقاء صباحيا، ليزرع بذور حلم فوق تراب الأفق، تارة ينبت أقحوانا، ف أنتظر على مضض ولادة أخرى، كتلك التي ستهطل بقطرات من أنين، ف أعود لأطرق نوافذ أفكاري الشاردة في ديسمبر، علني لا أغرق في صخب الحنين، وحروف الحب، ورذاذ الشوق، ونبضات تكلى تجعل الحلم يستيقظ، ليضيء طيف السنى في الأفق.
ربما بيني وبين كل هذا الصهيل مساحة كف، وصمت، يربث على روحي، عساني أجد غريبا يسمعني أو يسكنني، يفتح لي قلبه فأحدثه عن نفسي، عن ضغوطاتي، عن همومي وأحزاني، عن هزائمي وانكساراتي، أخطائي، مخاوفي، عقدي، نقاط ضعفي التي تلازم سري، أشلائي المتناثرة وكل شيء لم أواجه به نفسي، بحاجة لغريب أبوح له بثقلي، فيحمله عني ويمضي لا يفشيه لأحد .
أبحر في التيه، أصافح تارة كؤوس النبيذ الفارغة من أول أمس، وكومة دحنون، وأوراق حناء، تخضب عقد الأيام دون أن نسأل الفراشات أين تـأوي عصافير الرب؟ كما كانت تفعل ليلة العيد، وأنا مازلت أمسك قلمي لأتكئ بحروفي على صدرِ الأُمنيات .
يبلل صوتها مآقي الدمع يوما ما، لأدرك أن الشمس عينها لا تغيب، والعمر لا يسأل شجرة الزيتون لماذا لا تشيخ، لترحل من عبير عطره شذرات تسافر مني إلي، مهما أسود ليلها المعتم، ليلتف حولي كالغمام، ويعقد حول الأبواب والستائر ضياعه يوما ما، عله يصدق ما قالته العرافة ذات عمر، ف يصب الملح بوريد العمر، ويضغط بكل قوته على جرحه النازف، لكن النوافذ نسيت كيف تتثاءب، وضوء القمر عاقر البكاء.
حاولت مرارا الخروج من عقدات النبض، تتحشرج الأنات بصدري، لأرصد الضحكات والدمعات في ديسمبر هذا العام، وتتحجر الدموع بالمآقي عساها تربت على السكون، فيوقظها نداء الصوت الفيروزي من لحظات الإغماء، ليلف الضجيج رأسي، وأريه أني لن أتسلق سلم خيباتي، ولا أنسى ما أتمنى، وأنا الشريدة على شواطئ العمر، قسما برب البرق والرعد، لأخبرن الله كم أحبه، أكثر مما أحب ذاتي لأنال البرزخين، دون أن أخبر القمر عنهما.
ف لا يغار الحلم الذي زرعناه معا على حواف الغيم، ولا تتدلى من أجفان القمر كل مساء نمارق لجين، وبعض حبات نبض، وذاكرة تخزن دفء اللحظات، فتتداخل مشاعري ويحرق بعضي بعضي .
قالت :
متبعة أنا يا زمن،
وحيدة، أعاني صقيع الروح وأترنم الضياع ك أغنية حزينة …
قالت :
كثيرا ما يوقظني الفجر وأنا متعبة، ك ميت يحمله كفن، وُلد هكذا متعبا ولا يجد للراحة سبيل، ف أخبر نيسان أنني اشتقت لكل التفاصيل، والملامح، والشامات، ف أمضي إلى ما لا يستحق أن أجعله بداية يومي .
كثيرا ما يزهر البنفسج على عتباتي، فتغفو عيني وتنام، ويلتصق ملامح وجهها على كفي، فتبلل تربة روحي بصوتها .
فكيف أقنع نفسي بالرحيل، وأفك أزرار الخصام؟
وأنا التي ترسل ظلالها إلى براح الروح، قبل أن تخونها شجاعتها ويجتاحها ضعف يشدها إلى الوراء .
– ومن يدري؟
لمتاهة الروح رهبة ألفتها، وكلي فوضى تتبختر أمامي متمردة، ساحرة، وكل ما يشغلني، ويغمرني شعوري بجاذبية الأمور، فلا العمر يرسم فرحا مغادرا، ولا الصمت يمتطي جسدي الشارد، ولا القهوة عادت كما كانت ذات مساء، وصوت صرير الفجر يذبحني من وريد الشوق إلى وريد نهاية العمر، حاولت مرارا امتشاق الحلم، وكل الملاحم التي أسردها على ذاكرتي كانت أثقل من القدر، فأوشكت أن أعلق تعبي على دوح السراب، عندما يحضر الضباب .
وأسألني،
عن تعاويذ النوم الأخيرة، وأمضي، والفجر ينتظر أن يفل حتى يأخذ دوره كشيء مهم، أو كروح شريدة.
وأسألني،
– هل مازال في القلب متسع للانتظار؟
ينثرني يقيني على طهر جذوة الندى ألقا، والكون ساكن على ناصية الأمل بأسارير الهوى، كنور مسافر في مسامات القدر، والفجر سر، والسر روح متفردة النبض، تحيك ضفائر الضياع، ليسكن فوح الندى وجدانها، ويتنفس الفجر من مباهج النور، ليرسم وشاح الحب المنسدل الضياء، ف تحوم فوق قلاعي أقاويل سرقت شمس الأمل، وقطعت أوتار التعب، ولم تدرك من الفجر إلا هجعة النفس، وخسوف الحب.
أعاند عبثية الحياة، وعهد اللقاء، ف تحوم فوق قلاعي أقاويل، انتفضت متمردة لترسم تباشير حرف، ولهفة، وصوت اشتياق يقصف الجو قصفا في منتصف العمر، فيبصر أهل الروح جثوم الظلام على أنفاسهم .
أمضي، وقد تنفس الفجر، وأضاءت الروح سراجها، لتخلف نورا قد غاب خلف الأكمة البعيدة للأقدار، وتسربلت أنفاسه لتزيل غبار البعد، وتعيد لي نبض الحياة وأمضي، وللفجر انبعاث ينتشي بغيابي، ف أرى بعينيه الجفاء، ولفؤاده الخسوف في سمائه، ف أستشعر معه سريان الروح، ورعشة الفؤاد، وأحاديث عابرة قصت على مسامع الصمت حكاية ضائعة، تنبعث في ذهن العمر تارة، وتارة أخرى يهتز لها الكيان وكل شيء.
– ماذا أقول لنيسان؟
– وماذا أفعل أنا؟
واسم الأحلام على شاهد اللحد يذبحني كل يوم …
سؤال تلعثم بحزني، وتعثر بدروبي، وما أهون الأمل، وما أعدى الأيام، وأنا أسافر بحثا عن موطني، حاملة على ظهر قلبي حقائب ضياعي، واشتياقي لأخبئ داخلها خوفي، وبعض القصائد.
تارة ألملم شظايا روحي، وبقايا حلمي، لأحلق مع الأنجم، وتارة أوقد شموع لهفتي، وأنسج لها قلادة من التعب، وفي سراديب روحي بوح يرفض الانهيار، وجل النبضات قد هرمت ولم تعد تدري كيف يغرد القلب خارج السراب، ليغني للروح ألحانا، ويمسح برقة وجه الحياة.
بقلم: هند بومديان