خرافة

 في كتاباته الحديثة، يتابع الأديب المغربي الناطق بالفرنسية الطاهر بن جلون، عن كثب الحياة الاجتماعية والسياسية داخل الوطن وخارجه، ولعل ما يلفت الانتباه في هذه السلسلة من النصوص والمقالات المترجمة عن الفرنسية هو حدة الأسلوب الذي كتبت به، كأنها قدت من حجر مسنون.
 في كل نص، لا بل في كل فقرة من فقرات هذه النصوص التي ترجمناها عن الفرنسية، لا بد أن يتهيأ لك أنك تسمع صوت قرع الجرس، ينبه لوجود خطر، يقلقنا، يزعجنا، يوشك على ابتلاعنا. هذا الخطر له أكثر من وجه: الفقر، الجهل، البطالة، الفراغ، الحقد، الخوف، التطرف، الإرهاب..بوجيز العبارة، هي شهادة صادقة على هذا العصر وتحولاته.

 كان يا ما كان، بيت مصنوع من الخشب في قلب غابة حيث قطاع الطرق هم الذين يفرضون قانونهم. أحدهم، من المحتمل أنه قائدهم، سجل عنه استخدام الأدوات الحادة والتيار الكهربائي الذي كان يحوله بغير قليل من المتعة إلى المقاومين لاستقلال المغرب. هذا البيت مسيج بأسلاك شائكة في حالة ما حاولت بعض الخنازير أو غيرها من الحيوانات المتوحشة أن تجد لها ملجأ هناك. ليس لأنها قد تكون عرضة للتهديد أو المطاردة، ولكن بالأحرى لأنها أحست بوجود جوار مع محتلين للمكان.
 في ذلك الإبان، قليل من الناس الذين كانوا يصدقون خطاب هذا المجرم. قائدهم يلغو ووسائل الإعلام  يريحها ذلك، لأن السيد يجيد فن الخطابة، وبالأخص له موهبة لإثارة فضول نسبة كبيرة من المستمعين والمشاهدين. البعض منهم يجده مزعجا ويأخذون ما يتفوه به مأخذ الجد.
البعض الآخر يتهكم مما يقوله.أأاالل

 شيئا فشيئا يكبر البيت. طابق آخر ينضاف، ساحة زيادة، إثنان وثلاثة أقبية إضافية. في غرفة بالمخزن، ينفق القائد وقته في فبركة الكلمات التي تدعم أفكاره السياسية والعنصرية. يحلو له نسج أسماء وأمكنة الموت مثلما يفلح في تحريف الشريعة من أجل إشاعة حقده لليهود. هكذا يقول إنه لا يحب الفن التشكيلي لشاغال ولا سياسة شمعون فاي، أما العرب فلا يتحدث عنهم، يروق له استرجاع من وقت إلى آخر ذكرياته معهم. لا يأسف على أي شيء. حقده لا يماثله غير غضبه لرؤيتهم يتكاثرون في المصانع وأوراش البلاد. في يوم ما ألقى بعض رجاله  بأحد المارة المغاربيين في نهر السين. آخرون رموا من نافذة القطار جزائريا في منتصف الليل بين بوردو وفنتميل. من الواضح أن القائد لم يكن هناك سدى. لا حاجة إلى الاعتذار وإظهار الأسف. هذا ليس من طبيعة البيت.   
البيت الذي يقع في قلب الغابة تم تحويله من مكانه، صارت له واجهة على الشارع. الركائز لم تتغير مع ذلك: الحقد والوهم، العنصرية والخوف. استغلال حيرة الناس وجهلهم. البرنامج في صفحات قليلة ما دام أنه فقير ومغلف باللغو الذي تستلذ بعض الآذان سماعه، لأن المصيبة حلت بهم. القائد له حس التمكن من ضبط الصيغ والمعادلات، هكذا يكفي لتسريح المهاجرين إلى محلاتهم لوضع لحد للبطالة. أو تجريد أبنائهم الذين ولدوا على أرض فرنسا من جنسية هذا البلد. لا يعدو أن يكون ذلك واحدة من أبسط نزواتهم. لقد شرحنا للناس بما يكفي أنه لو كان كل المهاجرين بعصا سحرية يختارون طريق العودة إلى بلدانهم، فإن الاقتصاد الفرنسي لن ينهار فقط بل إن البلد بأسره سيتوقف قبل أن يصير خرابا. يمنع التفكير والتخيل.
 بعد المهاجرين، الزعيم هاجم المهاجرين الجدد الذين لم يكونوا مهاجرين لكن فرنسيين من أب مهاجر. بالنسبة إليه، محمد سواء ولد في فرنسا أو في غيرها، لا يمكن إلا أن يكون مهاجرا.
البيت الكبير صار مقرا لأحد الأحزاب. العنصرية والجهل من ثوابته. ينتشر، يتنظم، يراعي اللغة ويقوم بالاستحمام استعدادا للسلطة. أولئك الذين يلتحقون به ليسوا جميعا يائسين أو عنصريين، لكنهم يجدون في خطاباته نبرة تطمئنهم إلى حد أن البعض منهم قد مروا من الحزب الشيوعي.
 انتهى زمن بيت المجرمين بداخل الغابة المتوحشة. أتى عصر الثياب النظيفة والانزلاقات الخاضعة للمراقبة الشديدة. الأبواب والنوافذ مفتوحة تماما. الناس يأتون من كل مكان. الحزب لم يعد يشم رائحة الخنزير الجريح. يدخل إلى المشهد السياسي بكل صخب وغطرسة. الآخرون، اليسار واليمين الجمهوري باتوا متجاوزين. لا يصدقون ما يرونه. منذ 22 أبريل 2002، أخذت الأشياء مأخذ الجد. انتهى زمن الخرافة. عوض القتال بكل قواه الذاتية، يقرر المرشح الاشتراكي التعيس مغادرة ميدان السياسة. خطأ، خلط بين الأمور، فوران العواطف ومشاعر الأسف. في السياسة القتال لا يتم في الزقاق. لا نبكي في الركن، بل نشمر على السواعد ونحرك الشعب.
 منذ ذلك الإبان، تغيرت الأمور. استقراء الآراء كانت فضيحة منذرة. رؤية القائد وهو يصل إلى صدارة الانتخابات الرئاسية القادمة بات في حكم الواقع. سؤال يفرض نفسه: ما السبب الذي يجعل الفرنسيين أكثر فأكثر يصوتون لصالح هذا الحزب؟ لا يبدو أنه ليس في علمهم أن برنامجه الاقتصادي كارثة، وأن الخروج من اليورو ثم من أوروبا ستكون مصيبة غير محمودة العواقب. مع ذلك يلتحقون بهذه الجماعة التي تخرب فرنسا بالكامل.  
الفراغ، هذا هو الجواب. فراغ أحدثته الأحزاب السياسية التقليدية التي تنفق وقتها في الاهتمام بمصيرها الشخصي. فراغ ناجم عن ثقافة فقدت توازنها  بابتعادها عن الأرض وتركيزها على المركز. ثقافة لا تتقاتل.، تترك الحبل على الغارب، ولا تقوم بأي رد فعل إلا نادرا. فراغ فاقمته وضعية التخبط التي يوجد عليها التعليم. فراغ تشير إليه الحالة الميؤوس منها للضواحي والغيتوهات التي يتخرج فيها أمثال مراح، كواشي والآخر كوليبالي. فراغ ناجم عن حالة الانطواء، وتعفن مجتمع فقد الثقة في نفسه.
 فراغ ناجم كذلك عن كون أي حق في الرد لم يتعارض بشكل منهجي مع الخطاب المخادع والديماغوجي لهذا الحزب. يتم ابتذال الأشياء الأكثر تعفنا. فراغ في النهاية من صنع الطرف الضال في الأماكن المسمومة.
البيت في قلب الغابة صار جزءا من تراب البلد. حتى لو كان من وقت إلى آخر يتم تلطيخه بالعنصرية، يعدل الرمية ويصير على ما يرام.
الفراغ أخذ مكانه داخل جلد الحقيقة الأكثر صلابة.     
بقلم: الطاهر بنجلون

ترجمة: عبد العالي بركات

Related posts

Top