خطاب جلالة الملك بمناسبة عيد العرش منح للتعاقد بين المؤسسة الملكية والشعب، والذي تمثله المناسبة نفسها وأيضا تجديد البيعة خلالها، مضمونا برنامجيا واضحا، أي أن الخطاب جسد رؤية لمرحلة.
لقد سجل الملك قصور نموذجنا التنموي، وجدد التذكير بالحاجة إلى صياغة نموذج جديد، وأعلن عن تشكيل لجنة لمتابعة هذا الأمر سيتم تنصيبها في الدخول المقبل، ثم كلف رئيس الحكومة بأن يرفع اقتراحات لتطوير أداء المؤسسات الإدارية والحكومية وتعزيزها بكفاءات جديدة ومؤهلة.
يتعلق الأمر هنا إذن بأن بلادنا وشعبنا في حاجة إلى إصلاحات اقتصادية واجتماعية كبرى وأساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية، ويعني هذا، بموجب الخطاب الملكي، ضرورة صياغة مخططات إستراتيجية قطاعية جديدة، ومن ثم استعجالية بلورة مقومات نموذج تنموي جديد بما يعنيه ذلك من اختيارات كبرى وإستراتيجية، أي جيل جديد من الإصلاحات في مختلف المجالات يكون قادرا على الجواب على الأسئلة المستجدة وعلى التحديات المطروحة أمام بلادنا اليوم.
وعلى عكس ما ذهب إليه بعض قصيري النظر أو منظري الساعة الخامسة والعشرين مباشرة عقب الخطاب الملكي، فالأمر لا يتعلق بانتصار متوهم للرؤى التيكنوقراطية أو ضربة قاضية للسياسة، ذلك أن اختيارات التنمية والنتائج التي وصلنا إليها اليوم كانت بالذات ومنذ عقود من صنع تيكنوقراطيين أساسا، واليوم هناك حاجة لحوار وطني حقيقي وشجاع لإبداع اختيارات جديدة.
ومن جهة ثانية، الاختيارات التنموية والبرامج الاقتصادية لا يمكن لها أن تنجح على أرض الواقع من دون حاضن سياسي ديمقراطي، أي منظومة متكاملة للعمل السياسي والمؤسساتي تقوم على أحزاب حقيقية ونقابات وجمعيات ووسائل إعلام، وعلى انتخابات وفاعلين سياسيين يمتلكون النزاهة والمصداقية والمعرفة.
المغرب اليوم في حاجة إلى استعادة نبل السياسة وقوة الأحزاب الجدية، وإلى الحيوية المدنية والإعلامية والثقافية في المجتمع، وهذا من أهم المخططات الإستراتيجية التي تقتضيها المرحلة، وتتطلب تعبئة وطنية وجهدا وطنيا رسميا وشعبيا لتحقيقه.
المسار الديمقراطي والسياسي لبلادنا شهد بالفعل تحقيق العديد من المكتسبات والخطوات الإيجابية، وفي نفس الوقت لم يكن دائما سهلا أو بلا تعثرات أو تراجعات، وضعف القوى الحزبية الوطنية التاريخية لم يكن دائما نتيجة فعل ذاتي، وإنما انتكاسات حياتنا السياسية وأخطاؤها كانت وراء ذلك أيضا، ومثل ذلك اختيارا وأسلوبا فشل اليوم ويجب الإقلاع عنه وتغيير الاتجاه.
وعندما يؤكد خطاب جلالة الملك اليوم عن الكفاءة كشرط لتولي المسؤولية العمومية، فإن الأمر ليس محصورا في الخبرة التقنية والدراسية والمهارات المعرفية والتدبيرية، ولو كان كذلك لجاز استيراد حملة أعلى الديبلومات من الخارج، ولكن يتعلق أيضا، وأساسا، بامتلاك المصداقية والتجرد والنزاهة والغيرة على المصلحة الوطنية العليا، وخصوصا التوفر على الرؤية، وهي كلها صفات لا توجد سوى في الأطر السياسية التي يجب أن تكون تربت داخل أحزاب وطنية حقيقية، وراكمت مسارها السياسي بشكل طبيعي ومستقل، ويستحيل أن تعوضها المهارة التقنية وحدها، أو أن نستبدل هذه الأطر بـ «شناقة» جيء بهم عشية استحقاق انتخابي وجرت صباغتهم عسفا باللون المراد.
خطاب الذكرى العشرين لتربع ملك البلاد على العرش حمل لشعبنا أملا في المستقبل، وتتطلع بلادنا اليوم لكي تستطيع صياغة أجوبتها لأسئلة المرحلة، وذلك بكثير من الواقعية والإقدام، وبالحرص الضروري على التميز الديمقراطي للمغرب، وعلى استقراره العام، وعلى إنجاح ديناميته الديمقراطية وتمتين أسس ومقومات دولة المؤسسات.
محتات الرقاص