سفر إلى “وينكي دنيا” أو “الهند الغربية” أو رحلة أول عربي إلى القارة الأمريكية

عندما كان السلطان العلوي مولاي الرشيد بن علي الشريف بصدد تأسيس دعائم دولته بالمغرب بعد أن دارت المعارك الطاحنة بينه وبين أخيه مولاي امحمد قرب مدينة وجدة، كان هناك من العرب من أبحر في المحيط نحو القارة الأمريكية، يكاد الأمر يبدو موغلا في الغرابة، فكيف لرحالة عربي أن يركب البحر في 1668 متوجها نحو القارة التي اكتشفها كولومبوس عام 1492، أي بعد هذا الاكتشاف بمائة وستة وسبعين سنة؟  وللحقيقة فإن سؤال : ترى من يكون أول عربي حط بالقارة الأمريكية؟ كان دائما يقفز إلى ذهني، حتى إذا أعيتني الحيل أجلت البحث فيه… لكن تصفحي الأخير لكتاب المستشرق الروسي العظيم اغناطيوس كراتشوفسكي “تاريخ الأدب الجغرافي العربي” (الصفحات من 701 إلى 706) جعلني أجد جزءا من الجواب عن هذا السؤال المؤرق.
ففي سنة 1668، قرر الكاهن العراقي إلياس الموصلي مغادرة بغداد أولا إلى القدس الشريف ثم إلى حلب فإسكندرونة، ومن الميناء الإسكندروني أبحر إلى مدينة البندقية ومنها إلى فرنسا وإسبانيا والبرتغال حيث عقد العزم على الإبحار نحو القارة الأمريكية، فعاد إلى إسبانيا ومن قادس ركب البحر، فمر على جزر الخالدات ليصل بعد شهر إلى فنزويلا في شمالي أمريكا الجنوبية. ثم اتجه إلى بنما وكولومبيا والبيرو وبوليفيا والأرجنتين فتشيلي ثم عاد إلى ليما ليكتب تفاصيل رحلته الأولى. ثم ما لبث أن عاد إلى المكسيك فإسبانيا وإيطاليا حيث قابل بابا روما سنة 1683، أي في الفترة التي كان المولى إسماعيل قد أرسى دعائم دولته في المغرب. ومن الطريف أن محقق الرحلة أشار إلى المغرب معلقا على الرحالة عندما أتى على ذكر الكاناري: … ومن بعد ثلاثة أيام أشرفنا على جزيرة اسمها كنارياس.. فكتب المحقق: .. هي الجزائر الخالدات غربي أفريقية الشمالية قبال بلاد مراكش.. مما يدل على أن بلاد الصحراء المقابلة للجزر (طرفاية والعيون) كانت تعتبر ضمن البلاد المراكشية. 
أما الرحالة، فهو إلياس ابن القسيس حنا الموصلي “الكلداني” من عائلة عمون. كان قسيسا نسطوريا وربما تحول إلى الكثلكة، إذ أن روابطه بالفاتيكان والبابوية تبدو ثيقة وقوية. فالمعلومات عن سيرته قليلة، ومن الظاهر أن لغته الدينية هي “السريانية” الشرقية، وهي من سلالة الآرامية لغة السيد المسيح. أما لغته العربية فجيدة ومتينة، لكن تكثر فيها المفردات الفارسية والتركية واللاتينية، وقد كان مخطوط الرحلة دفينا في خزائن حلب حتى عثر عليه راهب يسوعي (الأب أنطون رباط) ، فحققه ونشره في فى مجلة “المشرق” في عددها الثامن عشر بتاريخ 15 شتنبر سنة 1905، وهي المجلة التي كان ينشر فيها الأب لويس شيخو نفائسه عن اللغة العربية. وكتب المحقق رباط : ” ..ففي أواسط أيار من السنة الحاضرة بينما كنّا نطالع المخطوطات المحفوظة فى مطرانية السّريان بحلب لفت نظرنا كتاب عربي عنوانه ”سياحة الخوري إلياس الموصلي ” فاختلسنا أويقات الفراغ لقراءته، وأخذنا العجب لمّا راينا شرقيا قد زار أكثر الأنحاء الأمريكية فى القسم الثاني من القرن السابع عشر ووصفها وصفا لا يخلو من اللذّة فعوّلنا على تعريف الكتاب ونشر أهمّ فصوله”. والجميل أن تحقيق الأب رباط أضحى بدوره وثيقة تاريخية مفيدة وطريفة، تكشف عن إيديولوجيا مسيحي الشرق في زمانه، فنقرأ له: “وكل يعلم أن الشعوب التي كانت في أدني درجات الهمجية أصبحت بفضل المرسلين في أعالي سلم الحضارة”، بل يمكن القول إن نبرة الموصلي تبدو أقل حدة من نبرة محقق كتابه بعد ثلاثة قرون من كتابة رحلته. ورغم بعض الاخطاء التاريخية والهنات اللغوية العابرة، فالكتاب مرجع تاريخي واجتماعي مهم لفهم ماجريات الأحداث في القارة الأمريكية، والتي يسميها “يونكي دنيا” أي العالم الجديد باللغة التركية ويبدو أنها كانت تسمية شائعة في ذلك العصر، ويطلق عليها كذلك الهند الغربية تمييزا لها عن الهند الأسيوية (أو الهند الشرقية)، كل ذلك لا ينتقص من قيمة رحلته. 
وتدل مقدمته الدينية على ذلك الأسلوب الذي اتخذه المسلمون منهاجا في التقديم، فيكتب الموصلي ما نصه: ” الحمد لله الذي خلق البرايا بحكمتهِ، واخترع الموجودات بأمرهِ وكلمتهِ، وصوَّر الإنسان على شِبْهِه ومِثاله، وسلَّطهُ على سائر المخلوقات بفضلهِ وإنعامه، ونهاهُ عن ثمرٍ لا يأكلهُ لئلَّا يموتَ موتًا. فهذا المخلوق الضعيف لمَّا خالف أمر خالقهِ وأكل من المنهِيِّ عنهُ تجرَّد من النعمة التي كان مُتَسَرْبِلًا بها، وصار مطرودًا مع ذرِّيته، من فِرْدَوْس عدن إلى أرض الشقاء والحزن، إلى أن تحنَّن عليه سبحانهُ وتعالى وشاء إعتاقهُ، فأرسل ابنهُ الحبيب الأقنوم الثاني وكلمتهُ الأزليَّة إلى بتول عذراء طاهرة وأشرف المخلوقات، وحلَّ في أحشائها حلولًا لا يُدرك، ولبس منها جسدًا كاملًا، وصار إنسانًا ما خلا الخطيئة، وتردَّد بين العالم، وصنع الآيات بشفاء المرضى وقيام الأموات….” ثم ما يلبث أن يتحدث عن التبشير المسيحي في هذه البلاد وسبب تسميتها فيكتب : ” لمَّا تفرَّقت الطوائف المذكورة من أحضان الكنيسة المقدسة، شاء السيد المسيح أن يدخل عوضهم أناسًا مختلفي الأجناس والطباع، غريبي الألسن واللغات، قاطنين في البراري والجبال، سالكين بعيشة وحشيَّة لا فرق بينهم وبين البهائم، معذَّبين ومنقادين بضلالة الشيطان، فقومٌ منهم عبدوا الحجارة، وطائفة عبدت الوحوش، وآخرون عبدوا الأشجار، وغيرهم كانوا يقدمون ذواتهم ذبيحة للشيطان اللعين، وكانوا ساكنين في الإقليم الرابع الذي كان مخفيًّا عن الأبصار، ومستورًا عن الأفكار، حتى إن القديس العظيم معلِّم الكنيسة المقدسة مار أغسطينوس كان يظن أنَّ هذا الإقليم هو غير مسكون من البشريين. فسبيلنا أن نبرهن ونبيِّن رجوع هذه الطوائف المذكورة إلى الإيمان الحقيقي، واحتضانهم للكنيسة المقدسة، حتى إن كثيرين منهم بعد دخولهم في الإيمان بالمسيح حُسِبُوا من جملة القديسين. وأما هذا الإقليم الذي قصدنا التكلم عنهُ فهو ممتد الطول والعرض، وهو أكبر من الثلاثة أقاليم الأخرى المعروفة بأسيا وأفريكا وأوروبا طولًا وعرضًا، وقد جعلوا لهُ اسمًا جديدًا وسمُّوهُ ميريكا مسلوبًا..” وما إن يصل إلى تسمية ميريكا حتى ينبري المحقق اليسوعي فيعلق في الهامش: … بقوله إن: «اسم أمركة مسلوب» يريد أن الإقليم الرابع الذي وصفهُ كان حقُّهُ أن يُسَّمَى باسم مكتشفه كريستوف كولومب، قال في الصفحة 102  من هذا الكتاب، حيث يذكر تاريخ الاكتشاف: «وكان في رفقة المكتشفين رجل اسمهُ ميريكو Améric Vespuce  من بلاد إيطالية من مدينة فلورنسة، وكان نوتيًّا في المركب ذا تدبير وعلمٍ وعقل. فشخَّص تلك الأرض وهنودها على ورقة «خارطة» وعرضها على ملك إسبانية فحينئذٍ سُمِّيت تلك الأرض ميريكا. وبالحقيقة كان الواجب أن تُدعى باسم كولون «كولومب»، لأنهُ كان المبتدئ والمجتهد في هذا الأمر، لكن بعد ما انتشر هذا التكني في أفواه الخلائق، وشاع على مسامع الناس جميعًا، لم يكن ممكنًا أن يتغير؛ فبقيت تسمَّى ميريكا”. 
ومن بين العادات المثيرة التي يثيرها الكاتب، واقعة المسافر الذي توفي في عرض البحر فألقي جثمانه في اليم: “… وبعد خروجنا من قادس بثلاثة أيام حدث اضطراب عظيم في البحر، ودام ذلك علينا ثلاث ساعات، فكان برفقتنا رجل شريف يسمى دون نيقلاوس أنيفانته، وكيل الملك، فمن كثرة الخوف الذي دخل عليه مات في تلك الليلة، فربطوا برجليهِ جرارًا مملوءة ماء وحدفوهُ بالبحر؛ لكي يغطس إلى أسفل، ولا يعوم على وجه الماء، وتأكله الحيتان، فلما حدفوه ضربوا له ثلاثة مدافع…”.
تعتبر رحلة الموصلي بحق وثيقة تاريخية وجغرافية تصف القارة الأمريكية، والهنود من سكان البلاد الأصليين يقاومون ويستميتون في المقاومة، والأجمل في هذا الوصف أنه يشير إلى غياب العملات واعتماد المقايضة، وفرض المسيحية بعد احتلال الأرض وهتك العرض، فقد كتب الرحالة: ..” ولم يكن لهؤلاء الهنود في ذلك الزمان دنانير، لكن كانوا يتعاملون ويبدلون شيئًا بشيء، وكان في هذه البحيرة جزيرة كبرها فرسخان يسكنها هنود كَفَرةَ يعبدون جبلًا منصوبًا أمامهم يسمى الجبل الأحمر، وما كان يقدر أحد يجوز إليهم لأن عندهم آلة الحرب كرماح وسهام ومقاليع. وكانوا يخرجون إلى البر السالك ويأسرون السبنيولية ويأخذون البغال الذكورة ليذبحوها ويأكلوها. فأمر هذا الوزير المذكور صاحبي أن يجتمع حكام القرى الذين في تلك النواحي، فاجتمعوا مقدار أربعة آلاف نفس، وعملوا أربعين كلكًا، وجعلوا فيهم أكياسًا مملوءة ترابًا، وأيضًا بعض أفراس، ثم أخذوا في أيديهم الأسلحة وجازوا في البحيرة على الكلك، فلما اقتربوا من الأرض وقف هنود الجزيرة مقابلهم للحرب، وكانوا يرشقونهم بالسهام والجنود السبنيولية يضربونهم بالرصاص، وألقوا أكياس التراب على ساحل الجزيرة لتقدر الخيل تخرج إلى البر؛ لأن هناك وحلًا شديدًا. فلما وصلوا إلى الأرض ركبوا خيلهم وركب أيضًا الفرسان، واجتمعوا على الهنود وكسروهم، وقتلوا منهم كثيرًا، واستأسروا الباقي، وعددهم ثلاثمائة هندي غير النساء والأطفال. وقد مات في الحرب منهم ستمائة نفس، ثم أخرجوهم من تلك الجزيرة وأتوا بهم إلى بلد الكوسكو، فطلب الوزير من أسقف البلد أن يلقنوا هؤلاء الهنود ويعلموهم قواعد إيمان المسيح ويعمدوهم ويقسموهم على البلاد، أما أنا فبقيت في هذا البلد ثمانية أيام. ..” 
إن قراءة في هذا النص البديع، تجعلنا نحس بأن أدب الرحلات كان ذا معنى عندما لم يكن السفر بالأمر الهين، أما وقد صار العصر الحالي يعتبر السفر جزءاً من الحياة العادية، فقد حرم المسافر من تجربة الرحلة الحقيقية بكل ما فيها من مغامرة وإثارة واكتشاف، وحل “السائح” الحديث بنظارته الشمسية وسرواله القصير وقميصه المزركش محل “الرحالة” القديم، وعمت السطحية فصار السائح يبحث عن ما يجده قرب منزله من مشروب أو مأكول وربما فضل وهو المسافر أن يسافر في شاشة هاتفه النقال. فهل ما زال للترحال مكان؟ وهل ما زال للسفر معنى؟ إذا كان السفر قد فقد معناه، فالتجوال في الكتب على الأقل يمنح لذة موازية أو هكذا هيأ لي.

<بقلم: منتصر لوكيلي

Related posts

Top