عزيز بلال والاختلالات البنيوية في الاقتصادات المغاربية

في رحاب فكر عزيز بلال

التنمية… ما لا تقوله الأرقام! 

عندما نتحدث عن التنمية، تتبادر إلى الأذهان مؤشرات اقتصادية باردة: نسب النمو، معدلات الاستثمار، أرقام الإنتاج… لكن هل تختزل هذه الأرقام حقيقة التنمية؟ ولماذا تفشل العديد من الدول، رغم الخطط والاستراتيجيات، في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي ومستدام؟
في قلب هذا الجدل، يبرز فكر عزيز بلال، الاقتصادي المغربي الذي لم ينظر إلى التنمية كمعادلة حسابية، بل كمشروع مجتمعي تحكمه تفاعلات اجتماعية، ثقافية، وأيديولوجية، لا تقل أهمية عن العوامل الاقتصادية. في كتابه “التنمية والعوامل غير الاقتصادية”، يقدم الأستاذ عزيز بلال طرحا نقديا لواقع التنمية في دول العالم الثالث، كاشفا عن الروابط الخفية بين الاقتصاد والسياسة، بين التراكم الرأسمالي والتبعية، وبين الصناعة والهيمنة التكنولوجية.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب صدر أصلا باللغة الفرنسية، وترجمه للغة العربية الأستاذ نور الدين سعودي، وراجعه الأستاذ محمد شيكر، وقام بالتنسيق الأستاذ أحمد أوبلة.

نواصل قراءتنا في كتاب “التنمية والعوامل غير الاقتصادية” للمفكر الاقتصادي عزيز بلال، حيث ننتقل في هذه الحلقة إلى الفصل الثالث، الذي يعالج إشكالية تراكم الرأسمال في ظل التبعية الاستعمارية.
يوضح بلال كيف أن الاقتصادات المغاربية خضعت لهيمنة استعمارية فرضت عليها مسارات تنموية مشوهة، مكرسة اختلالات بنيوية حالت دون تحقيق تنمية مستقلة ومستدامة.

الهيمنة الاستعمارية وتحكمها في البنية الاقتصادية

يرى عزيز بلال أن المجتمعات المغاربية، كغيرها من المستعمرات، وجدت نفسها محرومة من السيادة الاقتصادية، حيث فرض عليها إعادة تشكيل بنياتها وفقا لمتطلبات توسع النمط الرأسمالي الأوروبي.
كما يرى المفكر عزيز بلال، لم يكن الاستعمار مهتما بأي مساهمة إيجابية لهذه المجتمعات، بل اقتصر دوره على استغلال الموارد البشرية والطبيعية لصالحه، من خلال: مصادرة الأراضي الزراعية على حساب الجماعات القروية؛ توفير يد عاملة رخيصة لاستغلالها في القطاعات الإنتاجية الكبرى؛ احتكار المستوطنين الأوروبيين للأنشطة الاقتصادية الأكثر ربحية، بما في ذلك الفلاحة، الصناعة، المعادن، البنوك والتجارة؛ حصر النظام التعليمي على فئة صغيرة من السكان الأصليين بهدف دمجهم كأعوان في خدمة الإدارة الاستعمارية.

اختلالات هيكلية في النمو الاقتصادي

يؤكد عزيز بلال أن النمو الاقتصادي في ظل الاستعمار كان هشا وغير متوازن، إذ اعتمد على “قطاعات الاستثمار التفضيلي” التي كانت تخدم مصالح المستعمر، في مقابل “قطاعات ناقصة الاستثمار” التي ظلت تعاني من نقص التمويل وضعف التأهيل.
وقد أدت هذه التفرقة حسب عزيز بلال إلى: غياب دينامية داخلية للاستثمار، مما جعل الاقتصادات المغاربية تابعة كليًا للرأسمال الأجنبي؛ ضعف التأثير المضاعف للاستثمارات، حيث لم تؤدِ إلى تحولات بنيوية عميقة؛ استمرار التبعية المالية والاقتصادية للمراكز الاستعمارية، خاصة فرنسا.
طبيعة الاستثمارات وأولويات الاستعمار

يلاحظ عزيز بلال أن الاستعمار ركز استثماراته على قطاعات تحقق أرباحا مباشرة، مثل المناجم والفلاحة التصديرية، وأهمل التصنيع الفعلي الذي كان بإمكانه خلق نسيج اقتصادي متماسك، وكانت قرارات الاستثمار تخضع لاعتبارات استعمارية صرفة، حيث: قررت سلطات الاستعمار تطوير البنيات التحتية لخدمة التصدير والأسواق الخارجية، وليس لدعم الاقتصاد المحلي؛ سيطرت الشركات الكبرى على قطاع المناجم، بينما احتكر المستوطنون الأوروبيون الفلاحة الرأسمالية؛ ثم وجهت الاستثمارات العقارية والتجارية نحو المضاربات بدل دعم القطاعات الإنتاجية.

عدم التوازن في الاستثمارات

يستعرض عزيز بلال مجموعة من الإحصائيات التي تؤكد الاختلالات في توزيع الاستثمارات خلال الفترة الاستعمارية؛ فقد كانت الاستثمارات في البنية التحتية والسكن تستحوذ على نسبة كبيرة، بينما تقلصت حصة الفلاحة والصناعة.
في المغرب، مثلا، انخفضت الاستثمارات الفلاحية من 26% في 1920 إلى 13% في 1955، بينما ارتفعت حصة استثمارات المعادن والطاقة والتجارة من 26% إلى 52% في نفس الفترة.

المشاكل الاقتصادية والاجتماعية

نكون قد وصلنا إلى نقطة هامة في فهم تأثيرات الاستعمار على الاقتصادات المغاربية؛ إن الاختلالات الاقتصادية التي أوجدها الاستعمار، رغم الجهود المبذولة، خلقت تحديات عميقة أمام التقدم الاقتصادي، وستكون لها تبعات ثقيلة على المجتمعات المغاربية بعد الاستقلال.
في الحلقة المقبلة، سنواصل اكتشاف كيف أن هذه التحولات التي فرضتها القوى الاستعمارية شكلت الأساس للعديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها المنطقة حتى يومنا هذا.

 إعداد: عبد الصمد ادنيدن

Top