في افق المؤتمر الوطني العاشر لحزب التقدم والاشتراكية

منبر النقاش

جانب من إشكال حالة الأرياف وسكانها في بلادنا

من الغرور الظن أن مصيرا محتما يتحكم في سير الأحداث وفي عاقب أوضاع المجتمع، وذلك لتعدد العوامل التي تساهم في سير هذه الأحداث وتطور هذه الأوضاع.
إذا كان هذا صحيحا عندما يتأمل المرء في شأن عالم أريافنا وبوادينا، فلن يمنع من محاولة معرفة واقعها وأوضاع سكانها.
ما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة هو أن عالم أريافنا وسكانها يعانون في المجمل تهميشا ملحوظا لاسيما عندما نقوم بمقارنة مع ما هو عليه الوضع في الحواضر عموما، حتى وإن كان هذا التصريح يحتاج إلى أكثـر من احتـراز، إذ إن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لا تتميـز بوحدة المظهر والأحوال. ورغم ضرورة التذكير بهذا الاحتراز فإن أوضاع أريافنا عموما وأحوال سكانها خصوصا في حاجة إلى عناية أكثر من تلك التي خصصت لها منذ فجر الاستقلال (وحتى قبل تلك الفترة مع خطة “أوضاع الفلاحين) 1944-45 paysannat) ثم عملية الحرث (1958 Opération labours) التي تلتها عملية توزيع جزء من أراضي الاستعمار المسترجعة، وتفعيل ما سمي بالإصلاح الفلاحي (Réforme agricole) عوض “الإصلاح الزراعي” (Réforme agraire) سنة 1963 مع تكوين “تعاونيات الإصلاح الفلاحي” التي لم تأت بما كان منتظرا منها لما نتج عن سلوك “البيروقراطية الإدارية” حتى لا نذهب بعيدا في التعبير.
ثم أتت مباشرة بعد ذلك خطة تشييد السدود الكبرى التي مكنت من توسيع رقعة الأراضي المسقية بشكل ملحوظ، لاسيما في الغرب والحوز وتادلة وسوس واللوكوس ودكالة ومنطقة بركان، وغيـرت جزئيا من المستوى التقني، ثم من ظروف عيش الفلاحين الصغار والمتوسطين على المستوى المادي علما أن بدائرتي تافيلالت ودرعا اقتصرت العملية على تنظيم الري وترتيبه بين فلاحي هاتين الواحتين الكبيرتين.
وأخيرا وبعد مخاض طويل تسببت فيه عوامل مختلفة منها الارتفاع السريع لعدد السكان وتفعيل قانون الاستثمارات الفلاحية الصادر سنة 1969 الذي أدى إلى تمليك جزء من الأراضي القبلية، وبخاصة الأراضي الواقعة في فضاء بعض المكاتب المكلفة بالري.
ثم مع تأسيس حكومة التناوب التوافقي برئاسة الأستاذ عبد الرحيمان اليوسفي نظمت مناظرة هامة (سنة 2001) لقبت بـ “استراتيجية تنمية الأرياف في أفق 2020” طرحت مجموعة من الأسئلة مثل “لماذا لم تستطع المجهودات المبذولة في ميدان التصنيع، إضفاء حركية كبيرة تؤدي إلى خلق فرص تشغيل قادرة على امتصاص الفائض السكاني الموجود في الأرياف؟ ولماذا فشلت سياسات الدعم (للفلاحة والفلاحين الصغار والمتوسطين) في تغيير ظروف عيش معظم سكان الأرياف وتركت الهوة الاجتماعية تزداد تفاقما مما يهدد استقرار المجتمع ويعرقل تنميته الشاملة؟”. إن هذه التساؤلات وغيرها ترغمنا على الانكباب على أوضاع عالم أريافنا.
ولنبدأ بالإحصاءات.. يقدر عدد السكان الحاليين في الأرياف بـ 18 مليون نسمة 80 % منهم، على الأقل، أي أكثر من 13 مليون فرد، يقتاتون من الأنشطة الفلاحية (زراعة وأغراس وتربية المواشي على اختلاف أحجامها)، على مساحة “قابلة للفلاحة”(Superficie agricole utile) تقدر بما يناهز 9 ملايين من الهكتارات، علما أن احتياج العديد من سكان الأرياف إلى الأرض، كموضوع لعملهم وكمورد لعيشهم جعلهم يحولون أراضي كانت رعوية صرفة أو غابوية إلى أراضي تحرث. هكذا عندما كانت تقدر إحصاءات الأراضي الصالحة للفلاحة بـ 5 ملايين هكتار في منتصف العقد السابع من القرن الماضي، فإنها وصلت إلى 9 ملايين هكتار في وقتنا الراهن.
وحتى لو أردنا أن نوزع هذا الكم من الأراضي المستغلة حاليا على مجموع سكان الأرياف الذين يركزون في حياتهم اليومية على الفلاحة، فسنصل إلى نصيب يتعدى بقليل نصف هكتار لكل فرد (ذكر أو أنثى بقطع النظر عن سنة).
إن هذا التوزيع الافتراضي لا يأخذ بعين الاعتبار النظام العقاري للحيازات الفلاحية كما لا يعتبر جودة التربة من عدمها ولا يهتم بالعوامل المناخية الخاصة بكل منطقة من مناطق البلاد، ولا يبالي بتوفر الري من عدمه. كل ذلك يبين أن معظم سكان الأرياف والبوادي يعيشون الآن ظروفا غير مقبولة، ولا تستطيع وتيرة الهجرة إلى الخارج أو إلى المراكز الحضرية التخفيف بشكل ملحوظ من الضغط الديمغرافي الذي تشهده أريافنا.
والسؤال المركزي الذي يفرض نفسه هو: هل في إمكان مخطط المغرب الأخضر حل هذه المعضلة الكبيرة التي تهدد الاستقرار الاجتماعي محليا في الأرياف وبشكل أوسع في البلاد؟
إن فكرة مخطط “المغرب الأخضر” التي ظهرت كخلاصة من خلاصات مناظرة “استراتيجية تنمية الأرياف في أفق 2020” المشار إليها أعلاه، كانت تقتضي اندماجا أكثـر إتقانا بينها وبين ما توحي به المخططات القطاعية الوطنية الأخرى، كما كان عليها أن تعمل بجد وتبصر من أجل جعل حد للازدواجية التي تتميز بها فلاحتنا وجعلت فلاحة تدعي الحداثة تمارس بجوار أخرى مازالت “تقليدية”. وكان بالتالي على هذه الخطة أن تحقق توازنا بين ما لقبه صائغو المخطط بالرافعتين: الرافعة الأولى « Pilier1 » التي تعنى بـ “الفلاحة ذات القيمة المضافة العالية والإنتاجية المرتفعة” والتي تشمل نحو 400.000 استغلالية في إطار ما يتراوح بين 700 و900 مشروع باستثمار يعادل 110 إلى 150 مليار درهم يصرف عبر عقد من الزمن، والرافعة الثانية التي لقبت بـ “القطاع الذي يحتاج إلى الارتقاء به عن طريق “العمل التضامني”Pilier 2 fondé sur une mise à niveau) (.. وتخص هذه “الرافعة الثانية” حيازات أو استغلاليات تتراوح أعدادها ما بين 600.000 و800.000 في إطار مشاريع تقدر ما بين 300 و400 مشروع خصص لها استثمار يصل إلى ما بين 15 و20 مليار درهم.
بعبارة أوضح نرى أن الرافعة 2 التي تشمل العدد الأوفر من الاستغلاليات، وبالتالي من الفلاحين، تتمتع باستثمار لا يمثل سوى قرابة 10% مما يخصص من مال للرافعة 1. وفي ذلك حيف كبير بالنسبة لأغلبية الفلاحين الصغار والمتوسطين لاسيما وأن القطاع الفلاحي (وعلى رأسه الحيازات الكبرى الغنية)، مازال معفيا من الضرائب المباشرة.
إذن فمخطط المغرب الأخضر بني على أسس اقتصادوية وليس على أسس اجتماعية؛ كما استند على عمل يكاد يكون خيريا (التضامن) عوض أن تختار خطة تسعى إلى تنظيم الفلاحين الصغار والمتوسطين في إطار تعاوني ديمقراطي بفعل روح دستور البلاد ومنطوقه.
وبالتالي لن يؤدي هذا المخطط إلى ما يتمناه كل وطني غيور على تحسن أوضاع مواطنيه ويريد التقدم لبلاده بالتغلب أولا على الازدواجية التي تتسم بها فلاحتنا منذ العشرينيات من القرن الماضي، وثانيا على ما يترتب عن “الفائض السكاني” الذي تعاني منه الأرياف والذي يتسبب في العديد من الأزمات الاجتماعية الحالية، إن هذا الوضع يرغم هؤلاء السكان متزايدي الأعداد على مغادرة أوطانهم الأصلية واللجوء إلى الهجرة إلى الخارج أو النـزوح إلى الحواضر مثقلين بذلك كاهل المجتمع الوطني برمته اقتصاديا واجتماعيا نتيجة الكلفة المترتبة عن طفح المدن.
لا شك أن إيجاد حل لظاهرة ازدواجية الفلاحة وما ينتج عنها من مصاعب في بلادنا لن يكون فوريا، بل يجب أن يمتد على فترة زمنية ليست بالهينة، مع التحلي بإرادة قوية ومثابرة لا تتزحزح، تكون مبنية على نظرة شمولية تستطيع التنسيق المتقن بين جميع القطاعات الإنتاجية الوطنية من دون إغفال العناية بقطاع التعليم والتكوين والقطاعات الاجتماعية الأخرى.
إن ما يترتب حاليا عن الصعاب التي يعانيها سكان مختلف أريافنا وبوادينا ينعكس على توازن المجتمع برمته ويتجلى في توسيع بقع التوتر الاجتماعي عبر أرجاء الوطن.
لذا فالتغلب على هذا الواقع أضحى ضروريا ومستعجلا. وهذا الاستعجال يقتضي مراجعة جدرية للتصور الذي ميـز “مخطط المغرب الأخضر” منذ انطلاقه، أي قبل 8 سنوات وذلك بإعادة النظر في توزيع الاعتمادات بين الرافعتين المكونتين لهذا المخطط بترجيح كفة الرافعة الثانية التي تهم العدد الأكبر من المزارعين المغاربة، ودعم المجهود الرامي إلى إدماجهم في الاقتصاد العصري بشكل سريع لكن بدون تسرع، بطريقة تضمن إنهاء ازدواجية الفلاحة الوطنية المنقسمة بين فلاحة عصرية تقوم بها بعض الحيازات “العصرية” كبيرة الحجم، مساحة ومالا، تراهن على تصدير “الماء والشمس” كما يقول المتتبعون لأوضاع فلاحتنا الوطنية، وبين فلاحة تضم فلاحين صغارا ومتوسطين يمثلون أغلبية النشيطين في الميدان.
وحتى يستطيع الوطن ربح رهان التنمية الشاملة لأغلبية سكان عالم أرياف البلاد، فلا مناص من العمل الجاد على مستويات مختلفة، منها حث الفلاحين الصغار والمتوسطين على التكتل في تعاونيات يسيرونها بأنفسهم بحسب أنماط التسيير التشاركي الديمقراطي التي يؤكد عليها نص الدستور. وبشكل مواز لتحقيق ما يمكن توخيه من العملية على كل مجموعة يعنيها العمل التعاوني أن تُقدِم على تصفية الأمية من بين صفوف أعضائها في إطار برنامج يرمي إلى الارتقاء بمعارف المعنيين بالأمر في ميادين الزراعة وتربية الماشية وتدبير العمل الإنتاجي الفلاحي مع إدماجه في الحياة الاقتصادية، بدءا “ببنكرة” (bancarisation) كل التعاونيات التي ستكون مطالبة بتعويض سلبيات صغر الحيازات وعدم قدرتها على تحديث وسائل الإنتاج بجميع أصنافها ومدخلاتها، وتجاوز العراقيل التي تعتـرض سبيل الفلاحين عندما يرغبون في الحصول على قروض مالية مناسبة، واللجوء إلى السوق الوطنية وحتى الخارجية، ولاشك أن هذا النظام الجديد إن رأى النور لمن شأنه التقليص من ظاهرة الفقر في البوادي والأرياف.
إن فكرة تأسيس مثل هذه التعاونيات التي يجب أن ينادي بها حزبنا، حزب التقدم والاشتراكية، لمن شأنها أن تعوض بمزيد من النجاعة فكرة التجمع Agrégation)) التي اختارها واضعو “المخطط الأخضر”، والتي لم تعط أي نتيجة تستحق الذكر بالنسبة لفئات الفلاحين (المزارعين ومربي المواشي على السواء) الصغار والمتوسطين.
وحتى يزداد عمل هذه التعاونيات التي نقترحها نجاعة، يمكن لأجهزة الدولة أن تسترجع الوظيفة التي كانت تقوم بها من إرشاد وتوجيه ومساعدة للمزارعين ومربي المواشي، وذلك بتنظيم العلاقات التي يجب أن تقوم بين المتعاونين من جهة ومختلف العاملين في ميدان الهندسة الزراعية والبيطرة وغيرهم.
وهذا يقتضي من الدولة أن تولي أقصى الاهتمام للبحث الزراعي والفلاحي والبيطري مع مراعاة التهديدات المحدقة بالقطاع الفلاحي من جراء التحولات المناخية المنتظرة على مستوى المعمور واستباقا لآثارها وحماية للبيئة في جميع تجلياتها.
هذه بعض المقترحات التي يمكن للحزب، بعد مناقشتها في إطار الإعداد للمؤتمر الوطني العاشر أن يتبناها ويعبئ حولها الفلاحين حتى تترجم بالملموس إرادتنا الجماعية في “التجذر” بين أفراد شعبنا التواقين للتقدم والتنمية الشاملة والمستدامة.
وحيث أن الواقع الوطني يمثل نظاما متداخل الأطراف، فلا مناص من التنسيق بين جميع مكوناته، إذ لا يمكن ربح رهان التقدم والازدهار على المستوى العام من دون الاستعداد للرد على تقوية زخم الهجرة من الأرياف إلى المدن، رغم ما يمكن توخيه من آثار إيجابية إذا ما لم يُعَد النظر في مفهوم ومضمون “المخطط الأخضر” كما هو في حلته الراهنة. ويعني هذا الاستعداد لإعطاء ما تستحقه عملية التصنيع في الأرياف وفي المدن من أهمية، تلك العملية التي يجب أن تعتمد على ما يكتنـزه وطننا من خيـرات طبيعية، برا وبحرا، وغيرها ومن خيرات بشرية، علينا أن ننميها بإصلاح تعليمنا وإيلائه العناية التي يحتاج إليها، من دون أن ننسى ما علينا أن نصر عليه من العناية بأحوال المواطنين في ميادين الصحة والسكن والتثقيف وباقي شروط وظروف العيش الكريم المطابق لما يفرضه العالم المعاصر.
بقلم: اسماعيل العلوي
*****
الإقرار والالتزام بإصلاح المسار

دينامية متميزة يشهدها حزب التقدم والاشتراكية وهو على بعد أسابيع قليلة من عقد مؤتمره الوطني العاشر تحت شعار “نفس ديمقراطي جديد” وهو شعار طموح يرفع سقف الانتظارات عاليا. وعلينا أن نرتقي إلى مستوى طموحه.
إن المؤتمر الوطني يعتبر إحدى المحطات الأساسية في حياة الأحزاب السياسية وعربون عنفوانها وحسن أدائها الداخلي.
وحزب التقدم والاشتراكية، حزب سياسي وليد مخاض تاريخي طويل ونتيجة لعملية ديناميكية ومستمرة للمأسسة، جعلته في علاقته ببيئته يتحدى نفسه باستمرار ويتطور. وهذا المفهوم الديناميكي يجعل من مأسسة الحزب عملية جدلية مستمرة بين القاعدة الحزبية والقيادة التي يختارها مناضلو الحزب والمنتسبون إليه لينظموا ويؤطروا من خلالها عملهم وأداءهم.

المسار الحزبي: التعبئة والمأسسة

سنكون مضطرين أولاً إلى إثبات أننا في الواقع نضع مناضلي حزب التقدم والاشتراكية في قلب الجهاز الحزبي. وسيكون هذا في عمقه التزاما بإصلاح المسار.
نحن حزب برهن على مدى أزيد من 70 سنة من النضال أنه مشتل للأفكار. فنحن أقوياء بالفكر والاجتهاد. وحسبنا أن نخطئ أو نصيب، لكننا نبادر وننتقد ونتعرض للانتقاد – الظالم والمجحف أحيانا – وننتقد ذواتنا نقدا ذاتيا ولاذعا أحيانا أخرى، لكننا لا نستسلم للفتور وللتراخي وللتكاسل الفكري.
نحن حزب نشأ من رحم الحركة العمالية، في مرحلة كانت فيه الأحزاب الوطنية مصدر اهتمام وإثارة وجذب للنخب السياسية وللمثقفين والمبدعين والأكاديميين. وكانت عمليات التعبئة والتأطير الحزبي في أوجها. لكن فتورا أصاب المنظومة ككل.
وبدأت الكوادر الحزبية تغادر التنظيمات اليسارية بوجه عام أو تجمد نشاطها أو تقلص منه، ربما لأن الأحزاب التاريخية فقدت القدرة على إشباع تطلعات مناضليها ورغبتهم في ممارسة أدوارهم. ومن تجليات هذا الفتور العام تراجع الحزب في التأطير والحضور في أوساط المجتمع المدني وغياب آليات للعمل في الأوساط المهنية المختلفة.
وعلينا بمناسبة هذه المحطة التنظيمية الهامة (المؤتمر الوطني العاشر) الحرص على استعادة الوهج التأطيري المعهود في تنظيمنا السياسي.
فربما عدم إحساس “المناضل” بأهمية دوره وضعف تطوير المؤسسة الحزبية أو غياب المأسسة أو ضعفها أو عدم تطعيم الحزب بما يكفي من مؤشرات المأسسة، كلها عوامل تؤدي إلى فقدان المصداقية والتزاحم غير المنتج وطغيان الطابع الانتخابي الصرف.
وهي تؤدي إلى ابتعاد الحزب تنظيميا عن الوظيفة الإيجابية في تحفيز الإبداع والخلق والعطاء مقابل زيادة نزعة التحكم والسيطرة.
وقد نتباهى بسياسة الانفتاح التي نهجها الحزب خلال السنوات الأخيرة، بهدف ضمان توسع الحزب، لكننا نخشى أن تكون العملية كمية وليس كيفية، ولم يواكبها تكوين وتأطير كاف، لتحسين القدرات والكفاءات السياسية وتقوية الارتباط بالحزب.
وعلينا الحرص على بناء عمل حزبي منظم على المستوى الأفقي والعمودي يكون أكثر اتساعا وأكثر انفتاحا حيث يحتل فيه التثقيف السياسي مكانا كبيرا إلى جانب النشاط الانتخابي الصرف.
فالنضال النظري له أهمية قصوى عند كل الأحزاب السياسية، فلا وجود لمشروع حداثي ديمقراطي بدون نضال فكري ونظري في المرجعيات الفكرية، وخصوصا في التنظيمات اليسارية والتقدمية.
إن بناء المؤسسة الحزبية بناء متينا يمر عبر بناء الكيان المؤسسي. وقد نتخلى عن العمودية، وقد نصبح حزبا جماهيريا للجميع، من أجل العمل على بناء الثقة في الكفاءات وفي الوجوه الجديدة، بهدف بناء أفكار خلاقة جديدة، لأن التجربة الأخيرة أثبتت أن ارتباط الحزب بشخص أو أشخاص بعينهم قد يؤدي إلى خنقه أو تجميده وصعوبة التحكم في الهياكل.

التدبير الجماعي والإدارة الجماعية

إن المؤتمر العاشر لحزب التقدم والاشتراكية يعتبر محطة أساسية لتقييم أداء الحزب من خلال إعادة النظر في بعض بنود القوانين المنظمة وتجديد القيادات الحزبية.
وإن من ملامح التجديد تجديد النخب الحزبية renouveler les profils من خلال التخلي عن الذاتيات، وتغليب التواصل بتجديد أنواع التفكير وأنماط التدبير: فالتفكير السديد مرتبط بالتدبير المفيد.
إن الثقة في مواهب جديدة، وفي وجوه جديدة، بجانب رد الاعتبار للكوادر الحزبية المجمدة mise en veilleuse قد يبني أفكارا جديدة تصب في مصلحة الحزب وتمده بشرايين ودماء جديدة في تواصله مع المواطنين والفاعلين في المدن والقرى.
كما أن تقوية لامركزية الحزب، من خلال توسيع وتعزيز صلاحيات ومهام المجالس الجهوية باعتبارها إدارات لا ممركزة للإدارة الوطنية للحزب هو كذلك رهان تنظيمي بامتياز يسمح بإشراك المناضلين في صنع القرار الحزبي وتشجيع بروز أفكار جديدة، واستغلال التقنيات وآليات التواصل الحديثة بما في ذلك إنشاء منصات عبر الإنترنت لاستلهام الأفكار والنقاش، وخلق “مختبرات للتواصل الفكري” لمن شأنها أن تعزز هذا المسار التجديدي…
وهنا لا بد من الخروج من منطق التبعيات، والتوجه نحو منح الثقة للكفاءات الكثيرة والهائلة المتوفرة داخل الحزب، والتي تم إبعادها أو يئست أو ابتعدت من تلقاء نفسها… ويجب بذل الجهد لتجميعها وإعادة الثقة لها في بناء مسار نضالي واضح وصريح.
ومن المفروض أن تكون تجربة الحزب بعد 20 سنة من تواجده في الحكومة جد غنية على مستوى الأشخاص والأطر والقياديين والكفاءات المؤهلة لبناء حزب عصري يؤهله ليكون أول حزب يساري قادر على أن يكون تأثيره أكبر، خصوصا في تقريب وجهات النظر المختلفة في حقل اليسار المغربي.
فيبقى تحليل هذه التجربة محدودا. وتظهر محدوديته في قصور طرحه في الأطروحة لارتباطها بنمط التدبير.
ومن شأن الاجتهاد في تحليل هذه الوضعية أن يفتح المجال لتمكين الحزب من مواقع انتخابية جد متقدمة، ومن نخب قيادية ذات مشروعية انتخابية في مختلف المستويات.

تعزيز الروابط مع اليسار

حسبنا أن حزب التقدم والاشتراكية حزب يساري حي، لا يخشى حدة النقاش، ويسعى مناضلوه ومناضلاته عن حسن نية إلى تأهيل الأداة الحزبية، وتطوير أداء هياكله وبنيات الاستقبال، من أجل حضور أكثر فعالية في المشهد السياسي، بما يحقق الانفتاح والتوسع، وتطوير برامج القرب، من أجل تجذر أكبر في المجتمع.
لكن أمام بلقنة القوى التي تنتمي إلى اليسار، أصبح من العصي تلاقيها حول مشروع مرحلي مشترك يحدد ماهية اليسار الحقيقية ليستطيع مواجهة خصومه بشكل مباشر، بدل هدر الجهد فيما بين قوى اليسار في شيطنة مكوناته والتنقيص من قيمتها ووزنها.
لقد أصبح من المشروع طرح الأسئلة الجوهرية حول هذا الوضع المبلقن، والذي يزيد تأزما، في الوقت الذي تزداد فيه هيمنة القوى التي تصطف وراء بناء مشروع ليبرالي محض، لن تتحقق معه لا العدالة الاجتماعية ولا المجالية.
ولقد حرصت أطروحة المؤتمر – التي هي استمرار لمشروع حداثي ديمقراطي – على إبراز معالم تجديد الرؤية للعمل السياسي وإعادة صياغة المشروع اليساري للحزب، مما يحقق له إمكانية التأثير أكثر في المشهد السياسي، إلى جانب باقي قوى اليسار، والدفاع عن الاختيارات الديمقراطية والحداثية التي يحملها بقناعة وقوة.
وفي هذا المنعطف التاريخي الذي يسائلنا حول تغيير النموذج التنموي والبحث عن المسار المنشود، تشكل عودة الأحزاب السياسية إلى الواجهة، حدثا علينا تثمينه واستغلاله كورشة للتفكير والإبداع وابتكار الأفكار. وبالتالي، فرغم الميول نحو الفتور السياسي، إلا أنني متأكد من أن الأحزاب السياسية الجادة والمسؤولة تبقى إحدى الرافعات الأساسية لبناء مجتمع ديمقراطي، يكون فيه التنافس السلمي والشريف على السلطة الوسيلة المثلى لتداولها.
وأكيد أن لحزب التقدم والاشتراكية مكانة مميزة في هذه الدينامية، إن استطعنا جميعا أن نبقي في الحزب شرارة التعبئة والمأسسة، ونبقي الحزب مدرسة للتنشئة السياسية وجهازا للعمل السياسي وخزانا يمد الدولة بالأطر البشرية التي ستدبر شؤونها، وتمد البلاد بالمرتكزات النظرية والفكرية الكفيلة بتحديد وإنجاز المشاريع التي تنمي الوطن.
وحسبنا أن يكون حزبنا في مستوى تطلعات المجتمع المغربي تنظيما وتأطيرا وممارسة.

> بقلم: عبد اللطيف أعمو

Related posts

Top