احتضن المركز الثقافي التابع للمديرية الجهوية للثقافة مؤخرا، لقاء مفتوحا مع
الكاتب المغربي محمد برادة، تخلله توقيع روايته الجديدة الموسومة بعنوان “رسائل من امرأة مختفية”.
في كلمته الترحيبية أشاد الأستاذ محمد سنور بالأديب الكبير محمد برادة كروائي وناقد ومترجم، وبإسهاماته في الحقل الثقافي بصفة عامة والأدبي بصفة خاصة، واعتبر هذا اللقاء استثنائيا، حيث يحتفي جمهور المثقفين بمدينة القنيطرة بمبدع من عيار ثقيل أرفد المكتبة المغربية والعربية بعطاءات نقدية وإبداعية الهامة.
الناقد مصطفى النحال استعرض أربعة مسارات أساسية في منجز محمد برادة، يتعلق الأول بالمسار الجامعي، فقد كان من الأوائل الذين أثروا الحقل الجامعي وأدخلوا المناهج الحديثة الغربية في الدرس الأدبي إلى جانب ثلة من الأساتذة الأجلاء كأحمد اليابوري ومحمد السرغيني، مما جعل الكثير من النقاد يتأثرون ويقبسون من شعلة الحداثة التي أدخلها محمد برادة.
المسار الثاني يتجلى في المسارالنقدي، واستعمال الأدوات والمقاربات النقدية المتسمة بالحداثة، أما المسار الثالث فيتمحور حول الترجمة وسعي محمد برادة المتفتح على الآخر ومقاربته للثقافة العربية ولا سيما في مجال النقد الأدبي وبخاصة وقوفه عند باختين، حيث قدم إضاءة قوية على المستوى النظري والإجرائي.
المسار الرابع يرتبط بالمنتوج الفني والإبداعي، فمنذ رواية “لعبة النسيان”، نلمس وعيا جماليا متقدما بالخلق الفني لشخصيات إشكالية تتصارع داخل الرواية والمجتمع، وتلاحق العطاء مع رواية “الضوء الهارب” ورواية “حيوات متجاورة” ورواية أو محكيات “مثل صيف لن يتكرر” ورواية “موت مختلف” وصولا لرواية “رسائل من امرأة مختفية “، وهي رواية تحكي عن ذات امرأة مكبلة بقيود عقلية ذكورية، فالبطلة نموذج لامرأة مثقفة جريئة وطموحة سبقت عصرها وهي تماثل على نحو ما “مدام بوفري” لفلوبير، امرأة تمارس الكتابة كمقاومة وحرية وتهرب من إكراهات الواقع لمدارج الحلم، فمحمد برادة بوعي كبير بالمتخيل لتحدي حقيقة الواقع ومثبطاته مع فتح حوار معه وتجازوه عبر المرتقب والمتخيل، ولا يصادر الكاتب حق القارئ المحتمل في التأويلات الممكنة ولا يقدم حلولا.
الأستاذ إدريس الخضراوي أشار في البدء، بأن محمد برادة ليس ناقدا عاديا ولا يمكن مقاربة تجربته بسهولة، فمنجزه النقدي والأدبي يتسم بالوفرة والتنوع والإضافات المائزة، ومكانته مغربيا وعربيا وازنة بكل المقاييس.
أكد المتدخل على دور محمد برادة الفعال في تحديث وتطوير الدرس الجامعي في غضون الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ولعل البيان الذي أصدره سنة 1963 في مجلة ” القصة والمسرح ” التي كان يصدرها إلى جانب المرحومين: عبد الجبار السحيمي ومحمد العربي المساري، عبر بحق عن تطلعات الأدباء الشباب للآفاق الواسعة، مع وضع قطيعة لما أنجز قبل هذه المرحلة الحساسة في تاريخ المغرب، فمفهوم المثاقفة أساسي لإدراك المنجز النقدي لمحمد برادة الذي سعى جاهدا للانفتاح على المناهج الحديثة سيميائيا وتأويليا.
ففضلا عن عطاء محمد برادة النقدي الهام، فهو كاتب روائي كبير بمنجزاته السردية، منذ أن أصدر روايته البكر”لعبة النسيان” وصولا لروايته “رسائل من امرأة مختفية”، الدالة على نقلة نوعية في مسار مبدعنا الكبير، بطلة الرواية كنزة الشاوي المسماة روائيا بـ “جاذبية عبد العزيز” معتزة باسم أبيها المقاوم ضد الاستعمار الفرنسي، فقد عاشت في مرحلة مشحونة بالصراعات إبان فجر الاستقلال والمخزن يحكم قبضته على القوى المتوثبة للبدائل والتغيير، فبطلة الرواية السابقة لزمانها جريئة ومتحررة ومتشبثة بحريتها واستقلالها، ففضلا عن غنى الموضوع الذي تتمحور حوله الرواية، نجد الرهان القائم على الشكل المخصب بخلطة أمشاج: تعدد أصوات وخطابات وضمائر وتجاور أجناس.
الباحث أسامة الصغير، ذكر أن الكاتب محمد برادة يحتفي بتعدد السراد، وجعل من فعل الكتابة العامل الأول في التبئير، منذ المفتتح الكاتب الضمني يعلن عن نفسه، تتداخل في النص صيغ مركبة ومنتجة للسرد، حدث اختفاء “جاذبية” الاختياري فتح احتمالات وأضحى محطة انعطاف مؤطر للرواية، حيث تتوالى الأصوات، فصوت صديقتها “هاديا” التي تواصل جانبا من السرد لتسلمه لـ “هيمان” المتأمل والحالم ، بيد أن الكاتب الروائي ليس وحده يكتب الرواية بل يجب استحضار القارئ والشخصيات الساردة ومخيلة المؤلف.
شخصية “جاذبية” مشدودة للكتابة وهمومها، فهي كاتبة عمود صحافي، ونفس الهاجس نجده عند زوجها الثالث الذي يعاني من مرض العصاب “حميد زيدان” الذي يعتقد بأن الكتابة خلاص من قهر الوحدة واضطراب العواطف، شواغل الكتابة وأسئلتها تقض مضجعه وتضاعف من حيرته، وتسوق الرواية الحديث عن رواية افتراضية يدبجها “حميد زيدان”، حيث الكتابة تتأمل نفسها والعالم بكل ملابسته الاجتماعية والثقافية والسياسية، والمغرب على وجه التخصيص منذ ستين سنة من الاستقلال، فالمتسائل تتقاذفه الهشاشة والعيش بين المؤقت والزائل.
في معرض كلمته وأجوبته، تذكر الأستاذ محمد برادة زمنا جميلا كان يربطه بالقنيطرة، وبخاصة مع رفيقي الدرب إبراهيم السولامي وعلي أمليل، حيث كان يزورهما بين حين وآخر، ويتمتع بالإنصات للشباب المبدع آنذاك، فرواية “رسائل من امرأة مختفية” تغوص في زمن عقب استقلال المغرب، فاستقلال المغرب والكفاح من أجل الحصول عليه كان متخيلا مشتركا، ثم تناسلت الأسئلة: ماذا نصنع بهذا المستقبل في مطلع الاستقلال؟
رواية “رسائل من امرأة مختفية” تقف عند هذا القلق الباحث عن أرضية صلبة لتحقيق الذات والبحث عن الوجود .
في الستينيات من القرن الماضي وما قبلها، سادت كتابات عبد المجيد بنجلون وأحمد بناني وغيرهما، كتابات مستمدة من الواقع وعمدت لتشريحه، ومع فورة الطرح الوجودي وترجمة جورج طرابلشي لكتب سارتر، انتشرت دعوة الكتابة الملتزمة، اتجاه يسعى لتغيير العالم ويواكب التحولات التي عرفتها المجتمعات العالمية، إلا أن سطوة هذا المنحى، غيبت بشكل أو بآخر العناية بكل المقومات الجمالية التي تزخر بها النصوص، ولعل جهد بعض الأساتذة كأحمد المعداوي وأحمد اليابوري، سعى لتحويل الذائقة ولفت انتباهها لمساحات في الأثر الأدبي تكون أكثر غنى وثراء.
التجريب في الرواية يفتح للطاقات المبدعة الشابة زوايا متعددة، وبخاصة واليوم أصبح الأمر ميسرا، على عكس جيل الستينات وما قبلها، حيث كان التطور بطيئا، فالسرد الروائي زمنئذ، كان يستفيد من فنون مختلفة: التشكيل والموسيقى والمسرح والسينما، فالتجربة لم تكن غاية في حد ذاتها بل هي وسيلة.
وعن علاقة الرواية المغربية بالسينما، نص محمد برادة على أن هناك أعمالا قليلة هي التي وصلت للسينما، وهناك أعمال مغربية قابلة للصيغ السينمائية، ودعا لحوار بين الطرفين، حتى يتم الغنى والتكامل بين الطرفين.
رغم شساعة العالم العربي وتعدد ساكنته بالملايين، فالكاتب في هذه الربوع لا يمكن أن يتعيش من قلمه، فالكتابة تبقى ملجأ ومحط معاناة وعذابات مهما قست، تبقى لذيذة ومحتملة.
> بقلم: المصطفى كليتي