ينبني أي نص مسرحي على مجموعة مقومات تقنية وفنية أساسية، منها ما هو خارجي كالإرشادات المسرحية والحوار بشكليه ـ المونولوج والديالوج، وهما معا يشكلان النص المسرحي المكتوب؛ ومنها ما هو داخلي ويعتبر عمود البناء الدرامي، كالقصة والحبكة والصراع..
وبالرغم من تطور الكتابة المسرحية عبر المدارس والاتجاهات الفكرية والفنية المختلفة منذ الإغريق إلى الآن، فإن هذه الأسس التقنية والفنية قد ظلت صامدة ومُعْتَمَدَةً من لدُن الكتاب المسرحيين الذين ابتكروا تجارب مسرحية جديدة مُتَجاوِزَة للقواعد الأرسطية في فنون الدراما.
وفق هذا المنظور إذن تتوخى هذه القراءة في نص مسرحية “طلاسم وأرقام” للكاتب والناقد محمد الشغروشني، أن تقارب البنية الصراعية الثاوية في النص، من خلال تجلياتها الفكرية والنفسية والفضائية واللغوية، بدءا باستنطاق عتباته الأولى المتجلية في لوحة الغلاف والعنوان وأسماء الأعلام .
طلاسم الغلاف وغلاف الطلاسم:
تسبح لوحة الغلاف في فضاء اللون الأرجواني، وهي من حيث الشكل دائرة، تتحرك داخلها كائنات بشرية بلا ملامح، تعيش حيرتها واختناقها وسط الدائرة المخترق أديمها من أعلى اليسار فيما يشبه يدا قدرية أو سلطة لذات متعالية، كأنما تريد أن تنقد تلك الفواعل المختنقة من حاجز السواد السميك، والذي يضاعف الغموض والتباس الرؤية .
تتلبس اللوحة التشكيلية للفنان محمد حستي بالنص الدرامي “طلاسم وأرقام” ويلتبس بها، في إطار قراءة متبادلة ومتناسبة إلى حد كبير، تستقرئ الوجود الإنساني كذات منفعلة بمحيطها الخانق والمثخن بالاختلالات، بحث عن خلاص في ما هو أبعد من الدائرة المغلقة، والخروج إلى الفضاء الرحب يمثل ما تسعى إليه شخصيتا راكان بآليات روحانية صوفية، ومن بعده ريان بركوب موجة الهجرة والهروب، كل ذلك بغية الانفلات من ظلمة القبو .
دلالة العنوان ومرجعيته:
يحمل الكتاب عنوان “طلاسم وتراتيل” وهو عبارة عن دمج لصدري عنواني النصين المسرحيين اللذين يَضُمهما المُؤلف، وهما: “طلاسم وأرقام” ديودراما، و”تراتيل نرجس” مونودراما، ويقع في مساحة مئة صفحة من القطع المتوسط.
وقد جاء عنوان النص “طلاسم وأرقام” جمعا نكرة لمفردتين معطوفتين، تكون الشق الثاني لجملة اسمية لمبتدإ محذوف والمقدر بـ “هذه..”، وكلمتا الطلسم والرقم متعالقتان في المخيال الشعبي، بكونهما تفيدان الغموض والإبهام الذي يُبْتَغى رَفْعُهُ وإِزالَتُهُ، نظرا لما تَحْمِلانِهِ من دلالات الخوف والالتباس والمنع، فكل غامض هو مخيف، ولا يلبسه الخوف إلا بغاية إخفائه لشيء أو سر، يراد الإبقاء عليه في حيز عدم التناول، أي أَنْ يَظَل ضمن خصوصيات ضيقة، وإذا انْتُهِكَتْ حُرُماتُه شَاعَ، وفَقَد جراء ذلك قيمته الْأَسْرارِية والسحرية .
أسماء الأعلام بين الدال والمدلول:
“ريان” و”راكان” هما الشخصيتان اللتان تنهضان بأحداث النص المسرحي، في صورتين مختلفتين ومتناقضتين، بين الحُلم والواقع والحركة والثبات، والتعلق بين السماء والأرض في خط عمودي، أَوِ السعي في الأرض بحثا عن فِرْدَوْسِ الخراب في اتجاه أفقي؛ شخصيتان تجمعهما القرابة والدم باعْتبارِهِما أخوين من أب واحد هو رضوان النساج، وتُفرقُهما وِجْهَتَيْ نَظرِهِما إلى واقِعِهِما وكيفية تَغْييره أو تجاوُزِه، فـ “ريان” الأخ الأكبر يحمل من خلال اسم العلم دلالة النجم والماء والارتواء، ولذلك ظل طوال أحداث المسرحية مُعَلقا بين السماء والأرض، مُتَأبطاً أحلامه الْمُتَنَبئَة بفساد العالم الخارجي؛ بينما يحمل أخوه اسم “راكان” دلالة الثبات والقوة والرغبة الجامحة في تغيير واقعه ولو بالهروب من المكان، ومن ثم مَنِشَأُ الصراع بينهما، بين قَائِلٍ بضرورة مغادرة القبو عشقا في الضوء والنور، وبين قَانِعٍ به مَلاذاً أخيراً من ويلات العالم الخارجي .
بنية الأحداث المسرحية:
بنيت المسرحية على عشر إبحارات، واستهلال عبارة عن برولوج، وهي بهذا التقطيع النصي تُرَسخ ما بدأه الكتاب المسرحيون السابقون، من انفلات من قيود الشكل المسرحي التقليدي كما أرساه أرسطو في كتابه “فن الشعر”، إِذْ لا نعثر في المتن على فصول ومشاهد، بل إبحارات، والكلمة ذات شُحْنة دلالية تَصُب في المعنى العام للنص، إِذِ الإبْحار سَفَر وتنقل بين الأمكنة والمساحات النفسية للأخوين ريان وراكان .
وفي كل إبحار أحداث ومواقف، فإذا كان البرولوج قد فَسَح للشخصيتين حَيزاً لتقديم نفسيهما، فإنه قد أكد الارتباط القوي بينهما، فكل واحد يُعَد امتدادا للآخر، فبوجودهما معا اكتمال، وغياب أحدها فيه نقص للثاني. ليكون الإبحار الأول اللحظة التي ستتم فيها معرفة أفكار ومواقف الشخصيتين، ففيه سَنَكْتشِفُ اختلاف وجهات نظريهما واختلاف تقديرهما للأمور؛ وستأتي بقية الإبحارات لتعميق هذا الاختلاف وكيفية تدبيره، في حين سيكون الإبحار الأخير لحظةً للكشف بمعناه الصوفي بالنسبة للشخصيتين، وبمعناه المعرفي بالنسبة للمتلقي؛ ووقتئذ سيتم إدراك الخديعة وانْكِشاف الغاية، وإذا الشخصيتان ما هما سوى أدوات لتحقيق أغراض ونجاح مهمة ثاوية وراء الأقنعة، هي ضرب الأخوين ببعضهما .
“الآن يا ابْنَ أُمي أُقِر بأن أحْلامَك كانت رُؤْيَا لِلْآتي البعيد.. الآن أقر أنهم كانوا ولا زالوا يضربون بعضنا ببعض” ص 70.
فلا سبيل لاستشراف المستقبل وبنائه إلا بالمزاوجة بين النظرتين، أي القيام بعملية تلاقح بين النظرة المشدودة إلى الماضي، والنظرة المرتبطة بالمستقبل لصناعة حاضر قوي، له من المناعة ما يجعله كفيلا بمقاومة الأغراض الخبيثة، والأطماع الماحقة، يقول راكان مخاطبا أخيه ريان: “تُرابُ القَبْو أَوْلَى بِنَا” ص 70.
تجليات الصراع الدرامي:
يتجلى الصراع الدرامي في نص “طلاسم وأرقام” من خلال الثنائيات المتعارضة، والتي تمسك كل شخصية بطرف منها، ففي الوقت الذي يبدي فيه “راكان” ضجره وتأففه من حرفة الحياكة وتحكم الأسلاف وسكن القبو: “هذه الحرفة لم أعد أليق بها (..) تبا بعيش يتحكم فيه الأموات في الأحياء أنى اتجهت أو تحركت تسيجك الأوامر والنواهي.. وممن من الذين ماتوا وصاروا رمادا هناك..” (ص 21).
ومن ثم سيعلن تمرده وتطلعه لعيش واقع أفضل، ما دام الواقع هو المادة الحية التي يشكلها الإنسان وفق إيقاع رغباته هو وبدون تدخل من أحد:
“واقعك هو ما تريده أنت لنفسك لا ما يريده غيرك لك” (ص22).
وتبعا لذلك سيغدو القبو في عينيه سوادا وسجنا وخنقا لحريته، فيصرخ داعيا أخيه إلى مغادرة هذا الفضاء بحثا عن بديل له ونفورا من دائرة مغلقة يغلفها الظلام:
“..يا أخي ريان.. أدعوك للسعي في الأرض خارج هذا القبو لتتنفس هواء جديدا وضوءا منيرا..” ص 24.
بينما يقف “ريان” على الطرف النقيض لأخيه الأصغر “راكان”، فـ “ريان” رجل غارق في أحلامه وإن كان يراها غير كافية ما لم يجد المرء سبيلا لتحقيقها، إلا أنها تمثل بالنسبة إليه تعويضا عن واقعه البئيس، في ظل انسداد الآفاق كما خَبِرَها من خلال تِرْحالِهِ الافتراضي، فالواقع المقترح للتغيير لن يكون من وجهة نظره إلا سوءا ووبالا: “هذا القبو عتبة مباركة (…) هواء هذا القبو أعذب هواء.. وضوؤه أجمل ضياء (…) خارج هذا القبو لا يوجد إلا العراء.. ثم إن الأسماك الواهنة مثلي إذا غادرت ماءها ماتت” ص 24.
ينهض الصراع من قلب اختلاف وجهات النظر والرؤية إلى العالم، وهو صراع ذو أبعاد عدة فكرية وإديولوجية ونفسية واجتماعية؛ كما يمكن إرجاع أسبابه إلى جذره البيولوجي، أولا، والمعرفي ثانيا، وإلى خبرة الحياة ثالثا.
فالأخوان ينتميان إلى جيلين مختلفين، بينهما فجوة زمنية تقدر بثلاثة عقود، وهي مدة كافية لِتُنْبِتَ الاختلاف بينهما، فالأكبر “ريان” خَبِرَ الحياة، واستفاد من تجاربها، وبناء عليه، فقد أكسبته الحكمة والرزانة وحب الاستقرار، بالرغم من مستواه المعرفي المحدود، ولذلك يتميز معجمه اللغوي بالبساطة والمزاوجة بين اللسانين الفصيح واللهجي، في حين يتفوق عليه “راكان” باطلاعه المعرفي الواسع وقدرته على الاقناع بأساليب مختلفة، زيادة على القوة والاندفاع، فهو غِر لم يَمْلَأْ بَعْدُ صفحته البيضاء، يرى الحياة بِعَيْنَيْ الرغبة في التغيير، لكونه لم يُشارك في بنائها، ويطمح إلى أن تكون له بَصْمَتُه الخاصة عليها، يَبْنيها وِفْقَ طموحه واستجابة لأسئلته الحارقة، التي تذكي نيران ظنونه وهواجسه وشكوكه، لا يطمئن إلى الاستقرار، باعتباره قرين الموت، ويطمح للتجديد لأنه الحياة، فلا قيمة للحياة من وجهة نظره إن ظلت سجينة أسوار قبو لا تعرف طعم النور ولا تُعانِقُ أشواق الشمس.
لاشك في أن اختلاف وجهات النظر ستكون له انعكاسات على المستوى النفسي لكلتي الشخصيتين، فالأكبر سيشعر بالخوف وتسود الحياة في عينيه إن هو فَقَدَ أخاه، ومن هنا مَأْتَى نَصْب فخ يكون بمثابة درسٍ لأخيه الأصغر، والذي لطالما اعتبرَ نَفْسَهُ وَصِيا عليه، فهو من قام بتربيته وتعليمه، ولذلك استعان بالوالي كسلطة قاهرة بإمكانها لَجْمُ طموحات الأخ المتمرد؛ أما الأصغر فسيلوم نفسه ويُعَنفُها لأنها مصدر تعاسته، وسبب اعتقال أخيه وأبيه الثاني.
هذا الأمر، سيدفع متلقي هذا العمل المسرحي ـ نصا أو عرضا ـ إلى طرح التساؤلات التالية:
إلام يرمز القبو أهو ذاك “الهو” القابع في أعماق الإنسان، وبالتالي، فالمسرحية تسعى إلى إلقاء الضوء على ما يعتمل بداخل علبة الإنسان السوداء؟ هل يمثل “ريان” / الأخ الأكبر، الضمير، أو الأنا الأعلى الساعي إلى ضبط سلوكات “راكان” / الأخ الأصغر، وفرملة رغباته المتمثلة في الخروج عن الأعراف والتقاليد التي ينبغي أن تظل مرعية، لاسيما أن هذا الأخير يعيش فورة الشباب وطموحاته، وبالتالي يهدد الاستقرار ويُنْذِرُ بتحطيم التقاليد؟
أيمكن اعتبار “راكان” هو الأنا الراغبة في التحرر من غير انفصال تام عن الأعراف والتقاليد، والساعية إلى إحداث التغيير والتجديد، بدمج أو هضم التراث والانفتاح على الحياة بنفس جديد؟
فالنص المسرحي يهجس بالكثير من الأسئلة ذات الارتباط بالوجود والهموم والآمال، على اعتبار أنه مرآة يرى فيها الناس أنفسهم والآخرين، كما أنه يجهش بالأحلام المجهضة والوجع الحقيقي الذي قد لا يُرَى أو يُقَال بوضوح دائما. إضافة إلى أنه يشكل فسحة لإعلان الاحتجاج والتمرد على الظلم والاستغلال، ويبحث عن فرصة للخلاص الفردي والجماعي في أفق تشكيل عالم جديد يتميز بالعدل والحرية والجمال.
من الصعب على أي مبدع عربي أن ينفلت إبداعه من حضور السلطة والصراع معها، فهي تعتبر العنصر القوي الواقف في وجه اكتمال يناعة الإنسان باكتساب حريته، إنها الفاعل الأقوى في ضبط السلوكات، وكَبْحِ رغبات التغيير. ومسرحيتنا تنضبط لهذا المنحى، وترى في السلطة، ممثلة في الوالي عنصرا قامعا، سلطة تُوَظف العنف بمختلف أشكاله لتحقيق أغراضها والمحافظة على مصالحها. وترى في التغيير خطرا يَتَهَددها، لذا فهي تسعى بكل جهد، موظفة كافة العناصر المتاحة، لكسر الإرادة والحفاظ على الواقع كما هو لا كما ينبغي أن يكون؛ إنها ميالة للاستقرار إلى حد الجمود. ومن هنا يشتد الصراع بين الأخوين، فكل منهما تُوَجه سلوكاتِه أفكارَه الوجهة التي تختلف عن أفكار الآخر.
بيد أن ما ينبغي الإشارة إليه، أن الأخ الأكبر لا يتبنى وجهة نظر السلطة، حتى وإن استنجد بالوالي لضبط أفعال أخيه الأصغر، إنه يمتلك نظرة حكيمة تجعله يقدر الأمور وفق إيقاع الممكن لا المستحيل، وقد سار خلف أخيه في نهاية المسرحية، وإن كان مكرها وغير مقتنع بجدوى الرحيل، ولذلك وقف متسائلا:
“أنت نساج وأنا خياط.. وهل يوجد خارج هذا القبو بلاج خالية من والٍ يبحث عن رداءٍ أو حذاء..” ص 63.
يندمج البعد الإديولوجي والبعد الاجتماعي اندماجا وثيقا، فالحرمان عنصر من عناصر التمرد، والواقع الكالح يدعو إلى تغييره؛ وهذا ما نلاحظه على مستوى تصرف الشاب “راكان”، فقد سَئِمَ واقعه المزري، واعتبر حياته شَبيهَةً بالموت باعتبار المكان الذي يتخذه للعيش والعمل في ذات الوقت، مكان جدير بتغييره أو تركه، وبخاصة وقد عرف تدهورا بفعل عوامل شتى، أهمها أنه لا يمنح فرصة لتسرب الشمس، ولا يحقق الرقي الاجتماعي المنشود من جهة، ونظرا لحالة الكساد التي اسْتَفْحَلَتْ وضربت رواج صناعة النسيج التي هي حرفة الأخوين ومصدر رزقهما.
واستنادا إلى ذلك تبدو المسرحية من خلال تلك الأسئلة الحارقة التي تطرحها تهدف إلى إشراك الآخرين فيها، تورطهم ليواجهوا أنفسهم بشجاعة، تمكنهم من البحث عن حلول ناجعة وقادرة على إعادة صوغ هذا الواقع الأليم وفق إيقاع جديد، سمته الأساس: الحرية، والعدل، والمساواة. عالم يسع الجميع من دون تمييز أو استثناء.
المستويات الجمالية والفنية
توظيف الرموز:
من العناصر البانية للمسرحية اعتمادها على توظيف الرموز لمنح النص أبعاده الجمالية؛ ومن ضمن الرموز الموظفة لغايات دلالية وجمالية، نجد: القبو، والناعورة، والرداء، وهي كلها رموز تدخل في النسيج النصي متلاحمة لتحقيق أبعاد متعددة فنية وجمالية ودلالية.
القبو:
هو صنو القبر وقرينه، إذ بالإضافة إلى التجانس الصوتي الجامع بين الكلمتين، هناك مقومات أخرى تلحمهما، منها وجودهما تحت أرض، والظلمة، وغياب أشعة الشمس؛ وبناء عليه، يمكن القول: إن واقع القبو هو واقع موت غير معلن، نحسه ونلمسه، وإن دبت فيه حياة الشخصيتين الأساسيتين: “راكان”، و”ريان”، وإذا كان هذا الأخير قد ألفه حتى صار بالنسبة له الرحم الذي يشكل له ملاذه الآمن، ومن هنا استحضاره للأم، في أحد المشاهد، كعنصر حام، يسعى إلى تحقيق الطمأنينة للابن؛ فإن “راكان”، سيتمرد على هذا المكان، ويسعى إلى الخروج منه، معلنا عن حقه في الحياة.
الناعورة:
بانتقالنا إلى الناعورة سنجد أن لها ارتباطا شديدا بشخصية “رايان” ذات الارتباط بالزمن الماضي، إلى حد التداخل بينهما، يقول بهذا الخصوص: “أنا المغزل والمنسج والناعورة.. أنا القبو والقبو أنا..” ص 13. لقد صار التداخل بينهما قويا بحيث انصهرت كل العناصر في ذات واحدة هي ذات “ريان”، فلم يعد ممكنا الفصل بينها، مادام كل منهما يشكل هوية الآخر وشخصيته الخاصة. وهكذا تكون الناعورة بالنسبة لـ “ريان”: “سفر وتاريخ.. تاريخ من الحب والحلم والرجاء والاستجداء والأمل والجوع والفقر والأسى والحرمان وكيد الأحباب وخيانة الصحاب وغدر الزمن.. هذه الناعورة هي وجهي الآخر الذي استدار لظله.. فتاه في فلوات ذاكرته.. عندها وعندها فقط.. سمعت هاتفا يغشى بصوته حجب رؤياي..” ص 33.
إن الناعورة وهي تحمل كل هذه الصفات ترتبط بالألم والخيانة ودوران الزمن، وبناء عليه، فإن “ريان” يتحصن بالذاكرة ويحتمي بالقبو كنوع من الرحم؛ الملاذ الآمن بانتظار بزوغ لحظة الميلاد الأكثر إشراقا وجمالا.
الرداء:
يعد هذا الرمز من أشد الرموز ارتباطا برمز الناعورة، فهو يحمل دلالة القوة والسلطة والقمع، ويشير إلى نوع الخيانة التي اشتكى منها “ريان” آنفا.
يرتبط الرداء بالنسيج، والنسيج حياكة تقترب من نصب الفخاخ، وليس غريبا أن يطلب الوالي، وهو رمز السلطة والغلبة، من “راكان” نَسْجَ رداء فريد من نوعه، وتكون صناعته سرا من أسرار الدولة، يُعَاقَبُ كل من قام بإفشائه. وقد نسج الأخوان الرداء، كما نسج الوالي الفخ لهما، وانتظر بصبر وقوعهما فيه، منذ أن علم برغبة “راكان” ونيته في الهروب من واقعه المظلم.
والملاحظ أن للرداء سحرا على من يلبسه، بحيث يفقده شخصيته ويتلبسه، لدرجة ينسى فيها نفسه، ويصير سلطانا آمرا؛ يتجلى ذلك حين لعب الأخوان، تباعا، دور الوالي، كما في حدث في الإبحار الثامن، ص 54 و55.
والتحرر من الواقع المزري كما تبدى في القبو، لا يمكن أن يتحقق إلا بنزع هذا الرداء الجهنمي، والخروج من إهابه، وطرحه بعيدا، باعتباره رمزا للتسلط والغلبة والقهر.
النص المسرحي ومرجعياته:
التغريب:
يسعى التغريب إلى تحطيم وهم الحقيقة والاندماج مع الشخصيات والأحداث، سواء عند فنان العرض أو عند المتفرج. وأول عنصر من عناصر التغريب فى العرض، يتمثل فى خشبة المسرح… فعندما ينفرج الستار يظهر الديكور المسرحى الذى (لا يشرح) مكانية الحدث المسرحى بالتفصيل، كما هو الحال في المسرح الواقعى مثلا، ولكنه (يشير) إلى المكانية فى إيجاز حتى يتجنب المتفرج الاندماج فى الحوادث إذا ما أحس بواقعية الظروف المحيطة بها، أى يشير فقط إلى المكان دون الإفراط فى التفصيلات الدقيقة.. لكى يظل هذا المكان مجرد رمز لأي مكان مشابه يمكن أن تحدث فيه هذه الآحداث وليس مكانا محددا بعينه، وبالتالى ينفى عنه صفه الخصوصية المرتبطة بزمان معين، أو مكان معين، الآمر الذي يطلق ذهن المتفرج، إلى المبادئ المطلقة التي تحكم مجتمعنا مرفوضا ثم إلى ما يجب أن يكون عليه مجتمع المستقبل.
ذاك ما نلاحظه حين نلقي نظرة سريعة على الصفحة التاسعة والتي تعرض فيها صفات الفضاء المسرحي بشكل موجز وسريع، إذ اكتفي في وصفه بما هو أساس تحقيقا لمبدأ تشغيل خيالي المتلقي، وإخراجه من دائرة السلبية إلى دائرة الفعل والإنتاج. فقد اكتفي بالحديث عن القبو كمكان تجري فيه الأحداث بكثير من الإيجاز، فهو ليلا للنوم، ونهارا للعمل، وبداخله أدوات بسيطة للإنتاج، يشتمل على ثلاث عتبات، وباب عليه رداء فاخر، وكرسيان، فضلا عن أكوام من الصوف. هذا التقتير في الوصف، إضافة إلى دوره المذكور آنفا، يذكرنا بالمسرح الفقير الذي لا يهتم للتفاصيل، ويكتفي بما هو أساسي، حتى إن بعض عناصر الديكور تقوم بأدوار عدة لا تعيق حركة الممثلين، ولا ترهق عين المشاهدين.
كما أن التغريب يتحقق في المسرحية من خلال عناصر موظفة بذكاء وعن قصد، منها: مخاطبة “ريان” مخرج المسرحية وهو يتقمص دور الوالي، إذ بهذا القول يكسر النص الجدار الفاصل بين الركح والمشاهد، ويدرك هذا الأخير أنه أمام تمثيل يدعوه للبقاء متيقظا، مانعا إياه من أي تماهٍ يقود إلى فقدان الوعي والتبصر. ويتقوى هذا المسعى حين ينبه “ريان” أخاه بعدم الاندماج في دور الوالي بقوله: “أنت راكان أنست نفسك في لباس الوالي”… إن الانصهار في الدور يسيء إلى أهداف المسرح التنويري، لأنه يعمد إلى تشويه وعي الإنسان، بجعله يصدق ما يشاهده، وينصهر معه، مما يفقده القدرة على الحكم وإبداء الرأي. المسرح التنويري من خلال التغريب يهدف إلى تكسير الإيهام، ويناهضه، فدوره الأول توعوي ولا يتساهل في الجانب الفني.
توظيف التراث:
لقد تميزت محاولات التجديد في المغرب باستلهام التراث والبحث عن قالب مسرحي متميز، كما تميزت بالبحث عن أشكال مسرحية من التراث الفني والثقافي والشعبي وسعي المسرح إلى توظيفها توظيفا إيحائيا، وإلى النهل من الماضي لإضاءة الحاضر.
وقد قام المسرحي محمد الشغروشني بتوظيف التراث الشعبي في مسرحيته لتحقيق البعد الجمالي ولشد القارئ/المتفرج، باعتبار أن ما يجري أماه هو من صلب واقعه، وأنه معني به، وعليه أن يتفاعل معه بفكر نقدي. فاستلهام قصة الحمام، وشخصية حديديبو، لم تكن الغاية منها الإضحاك، أساسا، بل حث القارئ/ المتفرج على إعادة النظر في موروثه بنقد يهدف إلى التخلص من ترسباته السيئة، وبخاصة ذاك الذي يحمل تصورات خرافية تضاد العقل، وتعرقل نمو الواقع بشكل صحي.
كما أن المسرحي قد عمد إلى توظيف قصة الإخوة الأعداء، وأساسا عنصرها الأول، والمتعلق بصراع ابني آدم عليه السلام، أي الصراع القاتل الذي جرى بين قابيل وهابيل، وهو صراع مازال مستمرا في الزمان، تتعدد أشكاله، وتختلف أهدافه، لكنه يبقى المولد والمحرك لدينامية الحياة. والهدف، من وراء هذا التوظيف، في نظرنا، هو التطهير من جرثومة الصراع المفضي إلى القتل، والقيام، بذل ذلك، بزرع المحبة في القلوب، لأن ذلك هو المعبر لبناء عالم جميل، تزهر فيه القيم النبيلة، والمحافظة على كرامة الإنسان. إن المسرحي، يعلن، وبصرخة قوية، رغبته في إيقاف حمام الدم الذي يغمر حياتنا منذ بدء الخليقة.
التناص:
وارتباطا بجانب توظيف التراث، تجدر الإشارة إلى أن المسرحي، ومن خلال نصه هذا، تحكمه خلفية دينية لا مراء فيها، دليلنا حضور النص القرآني بشكل مضمر، من جهة، وتوظيف المعجم الصوفي من جهة ثانية.
بالنسبة للنص القرآني، يمكن تلمسه في قول “ريان” وهو يؤدي دور الوالي، حيث يقول: “أريد أن تصنع لنا رداء فخما يليق بحضرتنا… رداء لم يصنع لأحد من قبل.. ولن يصنع لأحد من بعد”، ص 61. وهو قريب من قوله تعالى، في سورة المائدة، وعلى لسان عيسى ابن مريم عليه السلام: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114).
وإذا كان الوالي يرغب في الحصول على رداء لم ولن ينسج مثله، فإن المائدة هي كذلك، ورغبة الوالي تكمن في أن يحصل على شيء معجز يدل على سلطانه، كما أن المائدة يراد بها التدليل على صدق رسالة عيسى عليه السلام، مما يجعل الاقتباس عنصرا مقويا للدلالة، ومعضدا لها.
أما بخصوص المعجم الصوفي، فيمكن تلمسه من خلال مفردات كلام “ريان”، هذه الشخصية المسكونة بالرؤيا، والعاشقة للشطح، والسفر، والحلم؛ ومن بينها على سبيل التمثيل لا غير، نذكر الكلمات التالية:
أنت قاصد وأنا قاصد، لبست شيخي ومعلمي وارتويت إذ نشدت مع الناشدين: الله حي، الله حي..الناسك، الحجاب، إلخ..
على سبيل الختم:
لقد سعت المسرحية إلى تحقيق مجموعة من العناصر الفنية والجمالية في أفق تنوير القارئ / المشاهد وحمله على المشاركة في الكتابة والبناء، وفي الوقت نفسه، سعت إلى المساهمة إلى كتابة مسرح مغربي وعربي ذي خصوصيات معينة تجعله مستقلا عن المسرح الغربي، ومساهما في إثرائه، كمساهمة فعالة وذات نوعية.
هكذا، وجدنا النص يشتغل على مجموعة من التيمات، كالتسلط والخوف والإحساس بسطوة الزمن، والرغبة في التغيير، موظفا مجموعة من الآليات الفنية كالتغريب، والتباعد، واستلهام التراث بشقيه العالم والشفوي.
وقد كان الهدف نبيلا، ونجح في تحقيق رهانه. نص مسرحي جدير بالقراءة والمتابعة، وما كانت مساهمتنا إلا محاولة متواضعة ترنو إلى لفت القراء إليه. وكل أملنا أن نكون قد حققنا هذا الهدف.
بقلم: عبد الرحيم التدلاوي