في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.
في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟
محمد أبو الوقار رسام البراءة المفقودة
الفنان التشكيلي والفوتوغرافي والسينمائي محمد أبو الوقار (1946 – 2022) انتقل إلى روسيا عام 1966، حيث درس في معهد موسكو للسينما، وخلال هذه الفترة تعرف على أعمال كبار أساتذة الرسم والتصوير الروسي والغربي. تعزز مساره السينمائي برصيد حافل بالأشرطة الروائية والوثائقية. كما أنجز أبو الوقار عام 1990 أعمالا إبداعية موسومة بـ “حكايات صوفية”، يتعلق الأمر بالسينوغرافيا من اللوحات التي تعكس جانبا من عوالمه الباطنية. حظي بتكريم اعتباري من طرف متروبوليتان نيويورك نشرت نصوصه في كتالوغ خاص بفناني العالم العربي لسنوات بين ضفتي المغرب وروسيا وعمق مقاربته التشكيلية لموضوعاته الأثيرة المتمحورة حول الأشكال الأسطورية والقضايا الوجودية.
رسام اللاوعي الجمعي
تفصح لوحات أبو الوقار الصباغية الأولى عن مدى تأثره بالشعر الغنائي الروسي والمنمنمات البيزنطية، لذلك بدت مشبعة بالألوان الزاهية والأشكال المكثفة التي تشغل مساحة السند، مع انشغاله اللاحق بالجسد الآدمي الشارد نتيجة قلقه اليومي وصراعه الدائم مع إكراهات العيش والحياة. الجسد، كما صاغه، يتجاوز صورته المحاكاتية ليبدو في هيئة كائنات غرائبية عارية وممزقة: كائنات متشظية وضبابية تتقن الصمت والصراخ معا، وترسم بذلك واقعا عصيبا يسوده اليأس والتذمر والخوف من الزمن المقيت.
في عمق لوحاته، يطالعنا رجال ونساء وملائكة وشياطين وسلاليم وشخصيات مستوحاة من المحكيات العربية، وهي تتوزع على تكوينات صباغية هجينة تتشابك أحياناُ مع الخدوشات والكتابات المبهمة، فضلا عن تعدد خاماته وسنائده التعبيرية، من قماش وزجاج وكرتون مموج… تحيل لوحاته التعبيرية على ثقافته المزدوجة التي تنهل من معين الصوفية، حيث التأمل في معنى الحياة والموت والمصير، كما يتجلى ذلك في مجموعة من لوحاته التعبيرية أشهرها لوحة “تحية إلى فيليني” التي أبدعها عام 2009.
لقد ظل طويلا يبحث عن حياة أخرى محتملة تستجيب لأحلامه التي لا يستطيع القبض على خيوطها سوى الرسام، لذلك أمست أعماله الفنية “تتحدث عن نفسها، ولا تحتاج إليه”، كما يبوح بذلك في مناسبات متعددة. لوحاته هي منفذه الوحيد الذي ينتصر على كل قلق وجودي أو ضيق وجداني. شاء القدر أن يرحل عنا هذا الفنان الطلائعي الملقب بـ “رسام البراءة المفقودة”، عن عمر يناهز 76 عاما، حيث وافته المنية في روسيا بعد صراع طويل مع المرض. نشرت ابنته آسيا على صفحتها الفايسبوكية شهادة مؤثرة باللغة الروسية، في ما يلي مقتطف منها: “لقد كان سموحا متسامحا.. ولم تكن لديه ضغينة لأحد أبدا.. لم يحمل أبدا شرا لأحد في قلبه… قد تجد روحك يا أبي التحرر من القلق والمخاوف والآلام التي كانت في الحياة الأرضية… سنتذكر النور والفرح والطاقة واللطف والعمق الذي كنت تمنحنا إياه دائما.. أحبك يا أبي.. نحن نحبك”.
أبدع الفنان أبو الوقار في مجال الأشرطة الوثائقية التي استلهمت قضايا جمالية من وحي تاريخ الفن، ومدى تقاطعاته التفاعلية مع فنون فرجوية مثل الدراما المسرحية، وكذا الفنون الأدبية مثل القول الشعري الإيحائي. لقد راكم هذا المبدع متعدد المواهب والتخصصات الفنية عدة أعمال غرافيكية لا تنفصل عن أجواء رسوماته الصباغية، إذ شكل الجسد بجغرافيته السرية وجرحه المنسي بؤرتها البصرية الإشكالية. كما أعد وأنجز مختارات نموذجية من منجزات فن الفيديو، مدشنا بذلك عتبة جديدة من عتبات حداثة الفن المغربي المعاصر الذي تجاوز دائرة اللوحة الضيقة.
مازلنا نستحضر أعماله الفنية التي وسمت معرضه الفردي عام 2020 تحت عنوان دال على شتى المستويات: “العمل في الحركة” متأثرا بالمبدعين المستقبليين ورواد الفن البصري، وقد شكلت الدراسة الجمالية التي أعدها الباحث محمد الناجي أرضية عامة محايثة لهذا المعرض الاستثنائي، ففي تضاعيفها أكد على الأبعاد الحلمية، والمشاهد الغرائبية المؤسطرة بشكل هجين وبليغ.
رسام اللاوعي الجمعي، هو المبدع أبو الوقار الذي أدرك جيدا مع المحلل النفساني كارل يونغ مدى تأثير اللاوعي المذكور في الأنا والشخصية الذاتية بكل خبراتها ورواسبها الماضوية التي تؤطر، لا محالة، ملكات الإدراك والتفكير والوجدان عبر سجلات النماذج العليا والمؤمثلة باعتبارها هي المحمول المشترك بين مختلف الأجناس البشرية. هكذا حاول أبو الوقار التمثل البصري للعلاقة اللزومية بين اللاوعي الجمعي والوعي الجمعي كما نظر له الفيلسوف وعالم الاجتماع إميل دوركايم، منتصرا للبعد الواقعي المجرد لماهية المجتمع. كل أعمال أبو الوقار وإن اكتسبت طابعا غرائبيا وعجائبيا تنهض كمقاربة نقدية للبنيات الذهنية والاجتماعية الخفية. فهو يمشهد على طريقة التصوير التركيبي مختلف أنماط السلوكات الفردية والجماعية الثابتة أو المتغيرة التي نجم عنها القهر الخارجي للأفراد والجماعات، إذ يظل التحول والتغيير على الطريقة الأسطورية قاعدة كل شرط إنساني طليق ومستقل خارج كل الإملاءات والنمذجات الاصطلاحية.
المصالحة بين الثنائيات الضدية
تشبع أبو الوقار بهذا الفكر النقدي الذي يصالح بين المثال والواقع، واللامرئي والمرئي، والقدسي والدنيوي. في هذا الباب، أسس لنسقه الإبداعي في ما وراء التأملات المعرفية والعرفانية العميقة والطوباوية. لطالما أكد أبو الوقار على نظرته السوسيو ثقافية للفن التي ترى إلى المجتمع كمنظومة من الأفكار والمعتقدات والقيم الوجدانية لا كأفراد في سياقات اجتماعية ومواقع جغرافية. بهذا، أضفى هذا المثقف العضوي على الأشكال الأولية لحياتنا الجمعية خلفية بصرية عبارة عن رسومات ساخرة تقدم الكائنات كضحايا الوهم والعبث والمجهول واللامساواة. لطالما ردد أيضا أبو الوقار على مسامعنا مقولة دوركايم: “الإنسان في أفق التربية ليس هو الإنسان كما خلقته الطبيعة، بل كما يريد المجتمع أن يكونه”. حول غرائبية الوحدات المشهدية التي تسكن مخيال الفنان، كتب الباحث محمد الناجي: “أعماله فقاعات متواصلة تتدفق في الحمم المتوهجة من الغضب البركاني الذي يسكن الفنان والذي يأتي من بعيد. مستكشف لا يكل ولا يصنف، يجلس في مرتفعات عصره، مستوحى بشكل كبير من خصوصية الأستوديو الخاص به، وبحثه المتواصل لإبراز هويته”.
مديح القلق الوجودي هو العنوان البارز لتجربة هذا الفنان المنزوي والانطوائي الذي يتكلم بلغة الكاميرا والريشة معا، محلقا بأجنحة الخيال الملائكي المؤنسن، ومخترقا إيكونوغرافيا الجماليات البصرية القروسطوية، هو الذي خبر كيمياء التصوير بالمركز السينمائي المغربي، وفي أحضان استوديوهات غوركي بالعاصمة الروسية، ليكرس بعد ذلك قداس حياته لبلاغات التصوير السينمائي والصباغي والفوتوغرافي وفن الفيديو.
اجترح أبو الوقار مسلكا بصريا يتراوح بين إبدالات الواقع والأسطورة في ضوء هجنة مشهدية تحيلنا، من الناحية المرجعية، على عوالم شاغال الحلمية تارة، وعلى إيحاءات المنمنمات السردية تارة أخرى.
للأسف الشديد، غادرنا الفنان أبو الوقار في غياهب الصمت ومتاهات الظل والنسيان، فقد عاش غربة قاسية داخل الأوساط المغربية، ولم تنصف تجربته في عز حياته ولا بعد مماته، معمقا جرح رحيل الناقد والباحث محمد مفتاح والفنان التشكيلي محمد المليحي والمفكر محمد سبيلا وغيرهم من صناع الثقافة والجمال.
انزاح أبو الوقار عبر منزعه التجريبي عن كل طرح سياسي أو إيديولوجي إبان الحرب الباردة، متفاعلا مع المحكيات الأسطورية والخرافية للإفصاح عن حلمه الاستيهامي الذي اتخذ من الجسد الجريح رسالته الوجودية، وكأن به يقاوم “البشاعة” بالبهاء السماوي الذي يحررنا من عبودية المادة وعولمتها الموحشة.
في سنة 2016، نشر رواق أتولييه 21 كتابا فنيا تحت عنوان “محمد أبو الوقار: شغف الحلاج” تضمن عدة مقالات رصينة لكل من الناقد الفني عزيز الداكي والكاتب الروائي كبير عمي والكاتب الإعلامي محمد جبريل، رفيق الفنان إبان المرحلة الدراسية بموسكو.
الشريط الروائي “حادة”
أبدع الفنان أبو الوقار الشريط المستلهم من الواقع “حادة”، شريط روائي طويل يحكي مأساة فتاة اكتسحها تيار الاغتصاب الغاشم بكل تداعياته وصدماته النفسية والعضوية والدينية، وهو اغتصاب واقعي ورمزي معا للحياة والحلم على حد سواء. حاز هذا المنجز الفيلمي عام 1984 على الجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للفيلم المغربي لدورته الثانية نظرا لارتكازه على التجريب والبعد التشكيلي بعيدا كل البعد عن نزعات التسجيل الواقعي والتموقف الإيديولوجي من المستعمر. يقر هذا الشريط التعبيري بحوار الشعر والسينما الذي يحول الكاميرا إلى ريشة، واللوحة المشهدية إلى قصيدة شعرية بلاغية وإبلاغية في آن معا.
إعداد: عبدالله الشيخ ـ ابراهيم الحَيْسن