في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض المعالم النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.
في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟
محمد بناني (موا.. خيمياء المادة ومتاهة اللون
محمد بناني (1943 – 2023) مبدع متفرِّد التحق في عام 1958 بمدرسة الفنون الجميلة بتطوان، كما غادر المغرب مبكرا لاستكمال تكوينه بمدرسة الفنون الجميلة بباريس (1960 – 1964). خاض، فضلا عن ذلك، غمار تكوين بالمركز البيداغوجي الجهوي بعد عودته إلى المغرب. وقام بتدريس شعبة الفنون التطبيقية بالرباط لسنوات عديدة. في عام 1989، حصل على منحة دراسية من الحكومة الفرنسية خولت له الإقامة لمدة ثلاث سنوات في رحاب المدينة الدولية للفنون بباريس. مثل المغرب في عام 2005 ضمن فعاليات بينالي البندقية، وقد عرضت لوحاته الصباغية على نطاق واسع في داخل المغرب وخارجه، حيث عزز البعض منها عددا وازنا من المجموعات العامة والخاصة.
حوار مع الألوان
اشتغل الفنان محمد بناني على المادة واللون، وقدم أعمالا راقية تعكس تمكنه من ناصية الخلق الفني عبر ملكة التحكم في بنية العمل الصباغي بصرف النظر عن السند ومقاساته. ففي الكثير من الأحيان، “يخيل لك أن الفنان محمد بناني لن ينهي أية لوحة من لوحاته لأنه لا يوقعها، ربما كان يرى أن لوحة واحدة لا يمكن بحال أن تكون لها نهاية، وفي نظره إن دور الرسام إذا انتهى، فيجب عليه أن يعيش حياته كالآخرين، فهو ليس كعرائس لا ترقص إلا بحركة خيط… إنه يريد أن يلقي علينا بآلامه المستمرة عبر أعماله. هذا هو الرسام في مسار تطوره، ولكنه حتى في تعاقب الاتجاهات الجمالية في الرسم وامتلاك المفاهيم التأثرية في أعماله، نحس أنه شخصية ساذجة أحيانا وقوية أحيانا أخرى، فهو على الأقل مخلص في أن يرسم بلون وبظل وبخط وبفكرة من خالص وحيه” (محمد السرغيني: مجلة دعوة الحق/ العدد الخامس- مارس 1963).
[
إنه فنان تجريدي معاصر مفتون بالدعائم والخامات الطبيعية التي يدمجها في اللوحة أو يحولها إلى سند للاشتغال، مثل الخيش والخشب والجلد… وغير ذلك من السنائد التي يبث فيها حياة جديدة عن طريق المحو والكشط وتكثيف الأصباغ، باستعمال ألوان تعبيرية من المحيط والأرض. لا يتعامل مع الألوان كشخوص، واللوحة بالنسبة إليه مثل فيلم سينمائي اختار لها ألوانا تؤدي دور البطولة، وأخرى تؤدي أدوارا ثانوية، لذلك تجد علاقته ببعضها حميمية جدا، وكم يحب اللون البني كثيرا، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الأسود والأبيض والأزرق. في الوقت نفسه، يمقت ألوانا أخرى ولا يتصورها في لوحة من لوحاته، كاللون الوردي مثلا، كما أن هناك ألوانا تتمرد أحيانا وتفرض نفسها في اللوحة، كما يقول، مضيفا حول ارتباطه بالألوان: “أتحاور مع الألوان طوال الوقت فأثني على الأزرق حين يعجبني وأقبل البني عندما يروقني وألعن الأصفر عندما يغضبني. إنها مواد تحمل روحا ولغة أعبر من خلالها عما أريد”.
لقد سكنه افتتانه باللون والمادة لسنوات إبداعية ممتدة، كما “دفعه شغفه بالمواد إلى استعمال التراب والرمل والحجر في إنشاء سطوح لوحاته، فكان بمثابة الأب لكل التجارب الفنية التي قامت من بعده على أساس العلاقة بين المادة والسطح. بالنسبة إليه، لم يكن السطح مجالا تتحرك فيه الأشكال وتشتبك منسجمة ومتناقضة، بل هو جزء من ذلك الصراع الذي يشهد على حيوية اللوحة. ومن صلته بالمواد اخترع نظريته الخاصة بعلاقة المكان بالألوان التي تطغى على اللوحات. فعلى سبيل المثال، يغلب الأزرق والأبيض على رسوم رسامي الشمال المغربي، وهو منهم بالطبع.” (فاروق يوسف: محمد بناني رسام الشمال المغربي الشغوف بالمواد- جريدة العرب اللندنية، الأحد 02 أبريل 2023).
ألفة سحرية
حول تجربته الصباغية، كتب الناقد والشاعر عزيز أزغاي: “منذ أزيد من عشر سنوات وأنا ألاحظ وأدوّن وأنصت وأناقش وأشاهد كيف يصنع هذا المعلم الودود الجمال الذي لا يوصي ولا يؤنب أو ينصح، بتأن وسعة صدر وشك دائم في الخبرة، كما في المعرفة التي تحصلها، ومن التجارب التي راكمها على امتداد أزيد من نصف قرن من الإبداع ومن المحو على حد سواء. لعل أهم ما يحقق ألفة سحرية بين مختلف هذه العناصر هو تلك الكيمياء التي تنطلق أساسا من ذات الفنان، من حياته الشخصية، بما هي مرآة للإنسان فيه، بفرحه وسخائه وطيبوبته، وبضعفه وخساراته، وانكساراته وتشظيه كذلك، وأيضا من قدرته على تدبير سلسلة من المتواليات الصعبة التي تبدأ بحسب الناقد الفرنسي إيلي فور بالتلخيص وتمر بالتبسيط والانتقاء لتصل إلى التشكيل، مع ما يعنيه ذلك من إعمال نشط لثنائية التحوير والتحريف. فلا شيء يترك للمصادفات الماكرة، كما أن لا شيء يأتي أيضا هكذا عفو الخاطر، أو بمجرد الرغبة في الإدهاش والانخراط في الصراع التشكيلي أو الموضات الفنية السيارة. من هنا يصبح التجريد – باعتباره عملية تأمل إنساني تتسم بالرقي – موازيا للطبيعة وليس تابعا لها، ما دام ينخرط في الكشف عن النظام العام (القانون) المستتر وراء الأشياء، لفهم الظواهر التي استخلص منها هذا النظام” (عزيز أزغاي: أثر المادة… تجليات اللون”، كاتالوغ معرض الفنان محمد بناني – مؤسسة أونا – فيلا الفنون بالدار البيضاء والرباط – يناير 2013).
شارك الفنان محمد بناني في تأليف كتاب فني بعنوان “نور وعتمة” مع الكاتب الطاهر بن جلون، وله تجربة جمالية مشتركة مع الشاعرة عائشة البصري موسومة بـ “صديقي الخريف”، وهي عمل شعري تشكيلي تزاوجت فيه العبارة باللون وفق إحساس إبداعي رهيف. تمَّ توقيع هذا العمل المشترك يوم الخميس 15 يناير 2009 برواق مرسم ببوركَون بالدار البيضاء.
هيولى تشكيلية
منذ عام 2000، صاغ الفنان محمد بناني لغة تشكيلية إنسانية في صورة أشكال وألوان هلامية لا تعرف الحدود والتخوم. لوحات عبارة عن تدفقات صباغية ذات أبعاد غنائية تحاور العناصر الكونية الأربعة في انسجام بصري قل نظيره.
هل يحاكي الفنان على نحو مغاير الحركة السماوية للمجرات؟ هل يناجي خلجاته وسرائر ذاته بأقيستها الثلاثة: العقل والوجدان والغريزة؟ لماذا هذا الانطباع الأولي حيال أعماله التشكيلية التي تذكرنا بالحمم البركانية ذات المواد الخيميائية المنصهرة؟ هل غليان اللوحة البصري معادل ذاتي للغليان الباطني الذي يسكن قريحة الفنان وهواجسه الإبداعية؟
هيولى تشكيلية. تدفق مائي من الناحية المجازية يعبر مسالك الصحراء، نقصد صحراء الذات الصغرى والكبرى، وهي تحاول ترسيخ حضورها الكينوني في الواقع والوجود معا. تترجم المعالجة اللونية قدرة الفنان على الفيض البصري والغواية الجمالية. عبر صبغات طبيعية متداخلة وعائمة. تنبض الألوان والأشكال التلقائية ككائن حي يجدد انبعاثه في كل لحظة، حيث كل شيء يبدو متشظيا ومحموما. يا له من كرنفال لوني يحتفي بطقس أفول كل المعالم الواقعية التسجيلية والإيحاءات الطرائفية. هنا، اللون يحاكي اللون، والشكل يداعب الشكل. هنا، يصبح التصوير الصباغي هو موضوع للتصوير الصباغي ومركز انشغالاته وأسئلته المرحة لا القلقة. في عوالمه الفنية الفاتنة، ينتفي الفصل الإجرائي بين انطباعات المواد الطبيعية وإيحاءات المواد المعدنية.
ليست اللوحة، إذن، وعاء لمنظور يختزل اللون والمادة في هاجس تقني محض. إنها إبحار سرمدي بين القماش ذي الملمح التجريدي والطيف التخييلي الذي يتعالى على كل تناظر أو تأطير أيقوني. يا لها من صلاة رمزية على طريقة الزن التي تلقننا دور الحياة المتجددة والمنبعثة في كل لحظة وحين. الحركة هي الشخصية المحورية للوحات التعبيرية التجريدية، فالمبدع محمد بناني نصير الحياة ورسام الأحياء والاستعارات المائية والنارية والهوائية والترابية التي نحيا بها (نتذكر كتاب “الاستعارات التي نحيا بها” لجورج لايكوف ومارك جونسن).
رحالة أبدي وطفل يأبى أن يكبر
في خضم بحور إيحاءاته التصويرية التي لا شاطئ لها، تغدو اللوحة قارب نجاتنا وملاذ أرواحنا، وتغدو معها قراءة المعاني الضمنية جولة تليها جولات من التأمل والحيرة والسكينة. أدرك محمد بناني منذ عشقه الأول للإبداع أن التشكيل نسق تصويري تحكم الاستعارة بنياته خارج ثنائية فوق -تحت، إذ نستوعب عملية التلقي الجمالي لأعماله الإيحائية كسفر أفقي في المكان والزمان، وكسفر عمودي في الذات والوجود. إن بلاغة الفضاء من منظوره كتابة مشهدية للون والشكل الهائمين داخل متاهة الصمت الذي يسود كل أجواء اللوحة الفياضة والسخية معا: لعله صمت محمد الصغير الباطني الذي تملك حياته برمتها. رحالة أبدي وطفل يأبى أن يكبر. أجاد محمد بناني العزف على اللوحة وقدسها كما أجاد أبوه العزف على البيانو وقبله. رسم جولاته وذكرياته بشكل مغاير لا علاقة له بدفاتر الأسفار المعهودة. كان الرسم غذاءه اليومي وزوجته الثانية بعد مرحلة الطلاق المريرة بالرباط.
نوافذ صغيرة مفتوحة على كون فسيح
قال عنه آلام ماكير: “في لوحة بناني، كأنك تسمع ما تشاهده حتى تسمع حينما يرسم الصمت، لوحات بناني تتحدث عما هو عميق في النفس ومتجذر، فهو يعيش في الجهة الأخرى من العزلة”. من جهته، أكد دومينيك بوتييه ما نصه: “أعمال محمد بناني ترابية وملونة، يجمع عناصره الساحرة ويكشف عن توازنها الخفي بإتقان ومهارة، لكن أعماله نوافذ صغيرة مفتوحة على كون فسيح”. هكذا يشن محمد بناني حربا بلا هوادة مع لوحاته، فقد يبدو هادئ الطباع، لكنه يخفي بركانا جوانيا كاسحا لا يستقر على حال.
رحل عنا وفي ذاكرته دار تطوان الكبيرة، وما تبقى من ذكريات جارته كارمن الإسبانية التي زودته بالألوان والأوراق وكانت مدرسته الأولى. رحل عنا وهو ما زال يخاطب لوحاته ويسمعها وتسمعه. رحل عنا وصورة الوالدة تخالج كيانه، هي التي كانت تطلب منه رسم سمكة أو حمامة لتطريزه بالحرير في أشكال تذكره برسومات بول كلي.
< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن