مبدعون مازالوا بيننا -الجزء الثاني- الحلقة 7

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض المعالم النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.
في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

محمد الحمري: إبداع من وحي المدينة والناس

خلوة إبداعية

الفنان محمد الحمري (1932 – 2000) الذي فارق الحياة بأحد مستشفيات القصر الكبير ودفن بقرية جهجوكة، وهي قرية تقع في الطرف الجنوبي لجبال الريف بشمال المغرب؛ ينتمي إلى عائلة فنية، فوالده كان فنانا خزافا يبدع قطعا تقليدية أصيلة، وكان عمه من كبار الموسيقيين بجهجوكة، وتجدر الإشارة إلى أن الحمري هو والد سناء الحمري، أول مغربية تقوم بإخراج فيلم في الأوساط الهوليودية.
عاش الفنان الحمري في خلوة إبداعية بعيدا عن الأضواء، مستمدا رسوماته من وحي المدينة والناس، وكذا من عالم الأحياء والبيوت الشعبية بطنجة، وفي جلها كان يوظف الألوان البنية والترابية. أقام معرضه الفردي الأول بطنجة عام 1948 (وهو من أوائل المعارض الفردية لرسام مغربي بالمغرب)، إبان الحقبة الاستعمارية، برز كرسام لجداريات “المقاهي المغاربية”، لتتواصل معارضه في المغرب وتونس وأوروبا. في تنفيذ لوحاته الفطرية، يوظف عدة تقنيات ومواد، منها الرسم الزيتي على الخشب، الغواش والألوان المائية، وكم يحيل الموضوع العام للوحاته على تفاصيل الحياة اليومية في قلب المدينة. يحكى أن الحمري التقى بالرسام بريون جيسين -مخترع تقنية التقطيع- الذي علمه وقدمه إلى الرسامين الأوروبيين المعاصرين، وأقاما معا معرضا مشتركًا عام 1952.

فطرية عجائبية

تبدو فطرية الرسام محمد الحمري “عجائبية لأنها تستمد نسغها من الوهم حينا، ومن الخارق للعادة حينا ثانيا، على أنها في كلتي الحالتين تتخذ من اليومي موضوعا لها… تعريه من مظهره المنطقي الواقعي وتزج به في إطار العجيب والمدهش، حتى لكأن الحقيقي وهو العادي رتيب، مما يجعلها تقترح على المشاهد عالما جوانيا ساخرا توحيشيا تتكوم فيه المرئيات والمحسوسات… وتتوسل هذه العجائبية إلى ذلك باستعمال الألوان المضيئة المصممة تصميما دقيقا لكي تعبر عن المحلي في المدينة أو القرية الجبلية. المدينة عبارة عن قباب خضراء تشير إلى عالم الملاية والأولياء والقرية وهدة أو منبسطة من الأرض، ليست ذات كثافة سكانية” (محمد السرغيني: “نشأة الفن المغربي المعاصر/ مسار تشكيلي مضطرب” – صحيفة الصحراء المغربية/ العدد 5248 – الثلاثاء 03 يونيو 2003).

ففي تصاويره، “نشاهد محاولة تشكيلية واعية تحمل أفكارا عميقة وأحيانا فلسفية، بالإضافة إلى تجارب في اللون والشكل. إنه رسام لا يصح أن ننعته بالعفوي ولو كان لا يعرف القراءة والكتابة والقواعد المدرسية للرسم. فمنذ البداية الفنية لحياة محمد الحمري، وهو مولع بموضوعات ذات علاقة بحياة الناس وتقاليدهم ومشاكلهم وهمومهم حتى يتراءى لنا كراهب وكواعظ في الكثير من أعماله الفنية. إنه يتقمص أحيانا شخصية الواعظ لينشر نوعا خاصا من الأفكار، أو من المذاهب والعقائد، فغالبا ما نجده يرمز إلى أفكاره الباطنية بأشكال بسيطة وألوان صافية جدا كالأبيض والأخضر الناصع والأزرق… يعتمد كثيرا في رسومه على إبراز تعاطفه الإنساني مع الفنانين والمظلومين وإيمانه الكامل بأن الوسيلة الوحيدة لنشر السلام في العالم، هي الحب والانسجام، فالطبيعة لم تخلد إلا لتآلف عناصرها وانسجامها… تنعكس هذه المضامين على الشكل الذي تتخذه لوحات الحمري، فهو يفكك الصورة الطبيعية إلى قطاعات يركز عليها ريشته وينثر عليها الأصباغ المتناغمة، ومن خلال هذا الإنجاز التشكيلي، تبدو اللوحة وكأنها تحليل علمي لفكرة ما، ويعمد غالبا إلى صب طابع الشعبية على اللوحة سواء بواسطة الزخرفة أو الألبسة أو الملامح. فتأتي اللوحة مرتبطة ببلدها ووسطها وخالقها، ويبدو هذا الشكل واضحا في معالجته لبعض مدننا وشوارعنا التي تنال إعجاب الفنان، إنه يحاول أن يبرر النظرة التي تستقر في نفس الإنسان المغربي من خلال السطوح والأزقة والحدائق، كما في لوحات: سطوح طنجة، بوجلود، داخل وخارج المسجد، مولاي ادريس…” (محمد مصطفى القباج: جريدة جريدتك – الرباط/ مجموعة 1960 – 1970).

“الأم والملائكة”

تشرب محمد الحمري منذ نعومة أظافره بالتشكيلات الزخفية التي وسمت وسطه الخارجي، متقمصا في أعماله الفنية دور الروائي الذي يسرد يومياته في قالب أسلوبي يجمع بين المشاهد المألوفة وبعض الإيحاءات المزاجية. إلى جانب الأشكال التسجيلية المسطحة، تجده يولي أهمية قصوى للألوان الساطعة المنجزة بإتقان ودراية، عارضا على أنظار المتلقين الجماليين عالما بصريا مشبعا بروح صوفية شعبية تنتشي بالمرح والدعابة.

منذ عام 1853، التزم محمد الحمري بارتياد مغامرة التصوير الصباغي، مستوحيا أجواء لوحاته من جماليات الكيان/الفضاء في تلازمها الوثيق مع الكائنات والأشياء. ففي لوحة “الأم والملائكة” (1976) التي نشرها الباحث محمد السجلماسي في كتابه المرجعي “الفن المعاصر بالمغرب” عام 1989، تطالعنا صورة الأم المحتضنة والواقية في هيأة عملاقة لافتة وهي مستلقية داخل فضاء رحب من الصعوبة بمكان الإحاطة الشاملة بتفاصيله العامة وأبعاده الخاصة. أم رحمية مبؤرة ترمق المشاهدين بنظرة ثاقبة، محاطة بأربعة كائنات طفولية في هالة ملائكية وطباع انبساطية. كان دائما محمد الحمري في مساره العصامي مسكونا بهذه النزعة الطفولية التي تشي بالمصالحة مع الذات والمجتمع والطبيعة، وتؤكد على فضيلة العيش المشترك في سلام ووئام. يخيل إلينا أن الإنسان استعاد زمنه الطفولي المفقود، وأخلص إلى طبيعته الحالمة الأولى التي تمثل جوهر شرطه الوجودي ومنهل خصائص منجزه الفطرية. لقد فطن مبكرا محمد الحمري لتأثير التفاعل مع الطبيعة على نشاط الكائن وحالته المزاجية وفق ما أكدته عدة دراسات بحثية. سادت هذه الروح الأمومية – الطفولية في كل أعماله التشكيلية كعودة للمنابع التي لا تنضب، حيث تتبدى العلاقة التناغمية والانسجامية بين الطبيعة والإنسان بعيدا عن كل أوهام الصراع والسيطرة والتحكم والامتلاك. أكيد أن هذا الاستحضار الأمومي إقرار رمزي بأن أم الكائنات والأشياء دلالة إيحائية على أصلها وجذرها. أليست الأم رمز البذل، والتضحية، والحنان الغامر، والوجدان الجياش والقلب الرحيم؟ ألم يرد في القول المأثور بأن الأم مدرسة الطفل، وقلب الحياة الأبيض الذي لا تغير لونه الأيام؟

إمبراطور القطار

فضلا عن التصوير الصباغي، كان محمد الحمري يمارس الموسيقى الشعبية، فقد نسج علاقة متينة مع الموسيقار الأمريكي ميك جاكر ومواطنه بريان جونسون والكاتب بول بولز ومحمد شكري وغيرهم. و”نظرا لعلاقاته المتعددة، استطاع محمد الحمري أن يستقطب الكثير من الفرق الموسيقية الغربية إلى قريته، من بينها فرقة “رولينغ ستون” و”بابي سناكس” الشهيرتين، كما يرجع له الفضل في فتح أبواب العالمية في وجه فلكلور الغيطة والدقة الجهجوكية التي استطاعت أن تتجاوز الحدود الجغرافية المحلية لترتاد باب العالمية. علاوة على هذا، كان يعتبر فنانا تشكيليا وموسيقيا، حيث أحيـى سهرات موسيقية نذكر من بينها حفلا فنيا أقامه بالعاصمة الإيرلندية رفقة صديقه جوو أمبروس.
تستقي أعمال الفنان الحمري التشكيلية مواضيعها من خصوصيات الثقافة المغربية، حيث عرضت بأشهر الأروقة خارج الوطن، وتتحلى بموقع فريد ضمن المجموعات الخاصة. إبان الحرب العالمية الثانية، ونظرا للظروف العصيبة التي شهدتها القرى المغربية، صاحب فرقة جهجوكة لتقديم استعراضاتها بمدينة طنجة. في سنة 1951، تعرف الفنان الحمري وهو لا يزال شابا في سن الثامنة عشرة بالكاتب الأمريكي بول بولز، ليلتقي بعد ذلك بالفنان التشكيلي بريون جونز في معرض مشترك سنة 1952 بطنجة. أتاح له هذا الفنان المذكور الفرصة للتعرف على عدد من الفنانين الغربيين الحداثيين، وفي السنة ذاتها دشن محمد الحمري مطعمه باسم “ألف ليلة وليلة”، بعدما كان في شبابه يقطع المسافات تلوى المسافات كبائع متجول ذهابا وإيابا بالقطار بين القصر الكبير وطنجة، فلقب على إثر ذلك بـ “إمبراطور القطار” (شفيق الزكَاري: “الفنان محمد الحمري: إمبراطور القطار الذي مات في صمت” – يومية المساء، 24 أبريل 2013).
توفي الفنان محمد الحمري سنة 2000، ودفن بمنطقة “جهجوكة” ضواحي مدينة القصر الكبير حسب زوجته “بلونكا الحمري” تاركاً وراءه سجلا فنيا حافلا بالعطاء والإنتاج.

< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top