مبدعون مازالوا بيننا -الجزء الثاني- الحلقة 1

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.
في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

زهرة زيراوي .. رهان المزاوجة بين التشكيل والكتابة

زهرة زيراوي (2017-1940) فنانة تشكيلية وكاتبة استثنائية، لأنها ترتضي التفكير في بعده التركيبي والتحليلي معا موضوعا أثيرا للحوار اللامتناهي مع الهوامش والجغرافيات المنسية… الكتابة الجمالية عموما والتشكيلية خصوصا لدى زهرة زيراوي هي الجسر الذي نتقاسم العبور عليه… إنها، بمعنى آخر، دورتنا الدموية التي تضخ الحياة الرمزية في شرايين وجودنا الاعتباري بكل جبهاته ونوافذه المتعددة. تراها مكابرة تضمد جراحاتنا اليومية بأريحيتها الإنسانية التي تسع الجميع، رافضة لغات الإقصاء، والمحو، والمزايدات المغرضة المبطنة بالأحقاد والحسابات الضيقة. تراها، أيضا، تعزف على إيقاع السفر الباطني محتضنة أحلام فنانين رواد وآخرين من الجيل الصاعد في مختلف بقاع الوطن العربي بمختلف حدوده الجغرافية، نتذكر مؤلفيها المرجعيين “التشكيل في الوطن العربي: مقامات أولى ومقامات ثانية”.

التفكير عمل الروح وليس عمل اليد

أديبة أريبة، فنانة تشكيلية مبدعة وإنسانة بامتياز. في حضرة كتاباتها الجمالية والعرفانية كما في حضرة بيتها الأسري بالدار البيضاء ـ بيتنا جميعا ـ نتعلم أبجديات الحوار التفاعلي، وحقائق دبلوماسية القرب بمعانيها النبيلة بدون تكلف أو تصنع أو أقنعة. هكذا، عرفنا المبدعة المتبصرة والحكيمة زهرة زيراوي. انشغال دائم بقيم التراث والحداثة، ومساءلة عميقة لجغرافيات الجمال الرمزي والروحي التي لا وطن لها بالمفهوم المجالي للكلمة. إنها تمارس الكتابة بعين القلب بصفتها مجرى هواء، فهي تعتبر التفكير عمل الروح وليس عمل اليد. هذا هو سر سلاسة أفكارها ولوحاتها التعبيرية وبساطتها الممتنعة. فما يشغل مخيلة زهرة زيراوي هو الفلسفة الجمالية ذات النزعة الإنسانية. فهي تعتبر مدار اشتغالها هو الإنسان كطاقة مفكرة، وكروح وجدانية حرة، راصدة تجليات الإبداع المستقل في عدة مسارات لا ترتهن بالجنس، أو بالسن، أو بركام التجربة. وحده الإبداع يسكنها، ويحدد بوصلة اختياراتها الحدسية العميقة. إبداع بالتذكر لا بالمحو نصير معه متلقين من الدرجة الثانية.
زهرة زيراوي، أم المبدعين بامتياز وحارسة همومهم الفكرية والجمالية، ليست مجرد كاتبة أو باحثة في تاريخ الجماليات فحسب، بل هي “مبدعة في الإبداع” و”باحثة جمالية في الجماليات”. أليس الأمر شبيها بـ “فن الفن”، أو “فكر الفكر”. إلى جانب حسها التربوي واندفاعها الجمعوي المنساب، تراها، بتعبير الأديب صلاح الوديع، تمارس “صلاة صامتة” على طريقة الناسكات المتعبدات في محراب زمننا الإسمنتي الذي يرثي موته اليومي باستمرار تحت شعارات التبضيع والتسليع.

إبحار في قعر محيطات بلا ضفاف

في حضرة زهرة زيراوي نتماهى مع المقامات التشكيلية والنصوص القصصية والروائية الجميلة، وننصت إلى عوالم اللوحات النابضة بالحياة في إطار حفر عمودي، وانشغال عرفاني بكل ما هو ثاو وباطني في التجارب قيد البحث والسؤال: فقد عرضت لوحات بليغة داخل المغرب وخارجه خاصة في الديار البلجيكية، نستحضر لوحتيها “شعر” و”الزوجان”. إنها لا تمارس الكتابة والتشكيل معا بمعنى “الثقافة العالمة”، والرصد التاريخي للمدارس والاتجاهات والأسماء، بل ترقى بفكرنا الجمالي إلى مستوى تأمل “شروط الإبداع” و”شروط التفكير في الإبداع”، ناحتة مفاهيمها الخاصة عارضة رؤيتها المحايثة للأشياء والكائنات المحيطة بها حتى لا يظل الشح الثقافي المشترك على هامش المنظومة المعرفية الإنسانية، وحتى لا يصبح “هوية متوحشة”.
خارج كل وصاية أبوية واهية، تمارس زهرة زيراوي شغب كتاباتها متعددة الأصوات كنفس انعكاسي يهجس بالبحث عن حفريات الحقائق المغيبة: حفريات مشرعة على العتبات والهوامش، أي على ما هو جوهري وأساسي بعيدا عن الكليشيهات والتقليعات السائدة بقوة المال والسلطة. ما يشكل عمق مقامات زهرة زيراوي هو بحثها الدؤوب عن التجارب الخلافية، راصدة بلغة العارفات كيفياتها ومقاصدها، ومخلخلة أفق تمثلاتنا البديهية لعوالم الإبداع في الوطن العربي الممتد الخ…
إن نصوص زهرة زيراوي تمد عشاق الفن ببعض مفاتيح الجمال الروحي علها تمكنهم من الإبحار في قعر محيطات بلا ضفاف بتعبير المفكر الوسائطي ريجيس دوبري. فالأديبة الحكيمة صاحبة ثقافة علمية وفنية عميقة، وتتحلى بروح إنسانية قل نظيرها، إذ لا نجد بعض معالمها إلا في مأثورات الصوفيين، وعشاق الحكمة والجمال من أمثال جبران خليل جبران وغيره من سارقي نيران المحبة النورانية التي كتبتها يد من نور على صحيفة من نور. أليس الإنسان شاعرا يسكن هذه الأرض بتعبير هولدرلين؟ هكذا، ارتأت زهرة زيراوي أن تجعل من ورشة لوحاتها الرمزية وكتاباتها العميقة أقصد مقاماتها “مشتلا فكريا” يرخي السمع بالعين لنبضات التجارب بمختلف أجناسها، وانتماءاتها العمرية، هاجسها في ذلك هو خوض المغامرة الحية للفكر الذي يغير شاطئه في كل لحظة.
تحية لك، أمنا زهرة، لأنك لم تكتف بتقديم “المعلومات الضرورية” عن الفنانين المبدعين في إطار بيداغوجي مدرسي، بل طرحت أسئلة وإشكاليات تهم ثقافة العين، ومصير الجماليات البصرية في عالم يتحدث لغة العمارة الإسمنتية. تحية لك، أيضا لأننا نتنفس هواء نقيا في ضيافة نصوصك الحوارية، وننصت لعمق الذات ولحركاتها الصامتة. إنك تكتبين رهاناتنا الجمالية، وتمارسين تجربة الكتابة في الإبداع والحياة معا. ما أروعك، لالة زهرة، فمقولك عطش وارتواء، فراغ وامتلاء. إنه مصالحة لا مخاطرة.

دفاع مستميت عن النبوغ المغربي

من باب التذكير، توفيت زهرة زيراوي يوم الاثنين 23 أكتوبر 2017 بالدار البيضاء، عن سن 77 عاما، حيث جاء في نعي “اتحاد كتاب المغرب” إن الأديبة الراحلة عرفت بكتابة القصة والرواية والشعر والمقالة الأدبية، ولها في هذا الباب العديد من الإصدارات داخل المغرب وخارجه، كما عرفت بممارستها التشكيل، ولها مشاركات في العديد من المعارض الجماعية داخل المغرب وخارجه، عدا اهتمامها بكتابة النقد الفني. تخرجت الراحلة، في 1961، من دار المعلمين، وعينت أستاذة في مركز تكوين المعلمين في الدار البيضاء، حيث تحملت مسؤولية رئيسة ملتقى الفن. كما حصلت على شهادة الدكتوراه الفخرية عن الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب. فضلا عن كتاباتها العديدة، التي نجد بينها روايتها “الفردوس البعيد” ومجموعتها القصصية “نصف يوم يكفي”، فقد عرفت الراحلة بكونها جعلت بيتها صالونا أدبيا منذ 1990، سخرته لتنظيم اللقاءات والأنشطة المفتوحة وتنظيم الأماسي الشعرية، ولقاءات التكريم للأدباء والفنانين التشكيليين والكتاب المغاربة ولغيرهم من المثقفين والكتاب العرب والأجانب، هي التي عرفت بطيبتها النادرة، وبكرمها الحاتمي، وبدعمها اللافت للأدباء الشباب، وأيضا بدفاعها المستميت عن النبوغ المغربي. كما شاركت الأديبة الراحلة في العديد من المهرجانات الأدبية والمحافل التشكيلية العربية والأوروبية، وعرفت بنشاطها الثقافي المندرج في إطار الدبلوماسية الموازية.
تقول في حقها الكاتبة والفنانة التشكيلية لبابة لعلج في نص موسوم بـ “فنانة النور”: “زهرة زيراوي فنانة تشكيلية، شاعرة وامرأة السلام. تنتمي إلى حظيرة اللواتي يكسرن حاجز الصمت. زهرة زيراوي مناضلة جمعوية. تتواصل كي تبعث الأمل مجددا. تطالب بحياة كريمة لسائر النساء! الإبداع هو الإشادة بقيم الاعتراف، والجمال والحرية. تجسد ألوانها الروح الشعرية والانسيابية” )أيقونات التشكيل بصيغة المؤنث، 2021).

< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top