تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟
بوجمعة لخضر .. الأخيلة والأساطير الطقوسية
تلقى المبدع الموسوعي بوجمعة لخضر(1941-1989) المبادئ الأولى للفن بعصامية في حضرة الصويرة منذ عز شبابه. بالموازاة مع منجزه الإبداعي، استكمل بتفوق دراساته الجامعية بكلية العلوم بالرباط بعد أن حصل على كل شهادات الباكلوريا في عهده: الرياضيات، العلوم التجريبية، الآداب العصرية، الباكلوريا التقنية بالمدرسة الصناعية بالدار البيضاء. درس بكل من ثانوية اليوطي بمدرسة الفلاحة، الحاج قدور. في عام 1980 عين محافظا لمتحف سيدي محمد بن عبد الله بالصويرة منذ افتتاحه خلال المهرجان الأول “الموسيقى أولا”، حيث كان وراء إغناء محتواه الإثنوغرافي، وتنشيطه الثقافي.
فنان وإثنوغرافي معا منذ معرضه الأول عام 1958 في إطار صالون الشتاء بمراكش، عرف كيف يزاوج بين الإبداع والبحث. تقلد منصب أستاذ الغرافيزم الفني بالمركب الحرفي بمدينة الصويرة، حيث أنجز بحث استحقاق في الموضوع بباريس 8 تحت إشراف جورج لاباصاد (أستاذ علوم التربية بجامعة باريس 8 والانثروبولوجيا المغاربية بجوسيو) حول موضوع “تعليم تطعيم الخشب بالصويرة”. قام بعدة أبحاث ودراسات في مجالات مختلفة كالسحر الشعبي، والأهازيج التقليدية، والنحت، والإرساءات، والجداريات، والديزاين، والصناعة الحرفية، وتاريخ المدينة التي كان متيما بها حد الولع. كان عضوا في طائفة حمادشة وصديقا لطائفة كناوة. خلال شهر عاشوراء، يتوقف لخضر عن الإبداع. جمع أزيد من 900 مثل شعبي بالصويرة ووظفها كأساس لإبداعاته التشكيلية كما وصف دور ركراكة في فصل من كتابه الموسوعي قيد النشر وقد أنجز حاجبا لفندق الجزر بالصويرة. له مسار كبير في الشعر والتصميم الغرافيكي (كتب عدة أشعار، وصمم عدة ملصقات إعلانية). كان الفنان لخضر من بين الفنانين المائة الذين وقع عليهم الاختيار للمشاركة في معرض “سحرة الأرض” المقام عام 1989 بمتحف الفن المعاصر التابع لمركز جورج بومبيدو، وتحديدا بصالة لافيليت الكبرى بباريس، وهو من أهم معارض الفن التشكيلي المعاصر التي شهدها النصف الثاني للقرن الماضي، وقد تمحور حول الفنون البدائية والشعبية والتشكيلية بكل أقطار العالم.
في هذا المعرض التيماتي العالمي، تركت أعمال لخضر التي اشتغلت على سنائد متنوعة (العرعار، الجلد، الأكاجو، النحاس، الفضة…) صدىً طيباً واسعاً لدى الجمهور والنقاد يعكسه الاستحسان الذي لقيته من قبل مندوب المعرض الناقد الفني هوبيرت مارتان. يقول الراحل في هذا السياق: “لأول مرة أعرض خارج بلدي. إنه حظ العرض داخل فضاء سحري آخر”. مضيفا: “هذا المعرض مهم بالنسبة لي، لأنه لا يجمع فحسب على الأقل مائة فنان من مختلف بقاع العالم، كما أن العرض معهم في إطار ثقافي أصيل أحسن هدية يمكن الحصول عليها بعد ثلاثين سنة من العمل اليدوي، ولكن هذا سيمنحني أيضا نفسا جديدا للذهاب بعيدا في مسلكي التشكيلي، لكي تتحرر غزالات: فكري بشكل كامل…لا يوجد إلا هذا العنوان (يقصد “سحرة الأرض”) الذي يتلاءم تماما مع هذا المعرض الكبير الذي يخرج عن المعتاد بعدد الفنانين المشاركين فيه من مختلف الثقافات، والذي يشبع سحر هذا الكون” (آر بريس، عدد 136، ماي 1986).
من أبرز أنشطته وأبحاثه، نذكر: دراسات إثنوغرافية ومتحفية للأعراف الموسيقية والحرفية بالصويرة ونواحيها بحثا عن التحف التراثية، تسجيلات بالفيديو للممارسات الثقافية الشعبية (كناوة، حمادشة، ركراكة، خزفيو حاحا…)، المشاركة السنوية في حفل عاشوراء (الرزون) المحافظ عليه من طرف قدماء مريدي الطائفة الحمدوشية، تنظيم الجولات الأولى لكناوة الصويرة مع جورج لاباصاد خارج المغرب لتأكيد الموقع الدولي لهذه الطائفة، المساهمة مع الباحث عمر الهشماوي في توثيق نصوص محمد بن الصغير الذي يعد أكبر منشد ملحون صويري (أنظر الجزأين المنشرين من طرف عمالة الصويرة عام 1989 الخاصين بندوة علم الموسيقى، والأهازيج الشعبية بالصويرة)، المساهمة في مجلة “ترونزيت” المنشورة من طرف مركز الأبحاث لجامعة باريس 8 بسان دوني: (العدد الأول حول الجذبات وأحوال المس والعدد الثاني حول أقوال الصويرة)، المشاركة في المؤلف الموسوم بـ “الموسيقى بالصويرة” المتمحور حول أبحاث الصابقي ولاباصاد، ومانا (من منشورات عمالة الصويرة)، مؤلف مونوغرافيا حول الفنون الحرفية بالصويرة التي نشرت بعض نصوصها في اليوميات المغربية والمجلات الثقافية (لمالف، سندباد، رسالة الأمة، لوبينيون)، المساهمة في مجلة “أيلال” (المرقنة)، بحث حول النساء “النقاشات بالحناء” وتنظيم معرض لأعمالهن الفنية بمتحف سيدي محمد بن عبد الله، ما بين 01 مارس و30 ابريل 1982، مرافقة حمادشة بمهرجان الموسيقى الروحية بنونتير (فرنسا) عام 1984، المشاركة في موسوعة “ميموريال دو ماروك” (الجزء 8) بمقالات حول “سحر العلامات” عام 1985، المشاركة في الموسوعة المغربية الكبرى بمقال حول فن الصياغة الحرفية وموادها المعدنية (الدق الصويري خاصة) عام 1988.
حول عوالمه التشكيلية الرمزية، كتب لخضر: “أدبج على هذا الكتاب الذهبي وأتخيل نفسي حينها يافعا، لكني لست يافعا بعد لكي أعبر عن فكري وهنا يكمن كل هذا الإزعاج. ولهذا السبب، لا أتوقف أبدا عن التصوير الصباغي دون تقليد اليافعين… للذهاب بعيدا، يجب استلهام الثقافة الشعبية، فالعودة إلى الذات وثقافتها هي التي ستمكن من الإلهام والتقدم إلى الأمام. لا يتأتى الإلهام إلا من معيش بالنظر إلى الذات”.
< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن