مبدعون مازالوا بيننا – الحلقة 14-

 تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

عبد اللطيف الزين .. شعائرية الفن الشمولي

     دشن المبدع والمهندس الثقافي عبد اللطيف الزين (1940 – 2016) ميثاق تكوينه الدراسي في طلائعه الأولى بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، ثم واصل حلقاته الأكاديمية والتجريبية معا في أحضان المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة بباريس. في سنة 1963، شارك ضمن فعاليات معرض “ألفا سنة من الفن بالمغرب” المقام بالرواق الباريسي شاربونتيي قبل أن يمتد حضوره الحداثي وما بعد الحداثي في آن معا داخل الأوساط الثقافية المغربية والدولية، متوجا رصيده الفني بالميدالية الذهبية للأكاديمية الفرنسية للفنون والعلوم والآداب عام 2004 قبل أن يصبح خبيرا لدى المحاكم في الفنون الجميلة.

     انفتح مساره التشكيلي على عدة مغامرات وتجارب إبداعية طلائعية: المنجز الجمعوي )أسس  الجمعية الوطنية للفنانين التشكيليين عام 1986(، المنجز النقابي )أسس نقابة الفنانين التشكيليين المغاربة عام 1992)، بصمات الرياضة، ألوان الجاز، فن الجذبة، ألوان التبوريدة، النحت الروحي، فضاء الناس، الصالون المغربي للفن المعاصر الذي أقيمت دورته الخامسة بالدار البيضاء عام 2016، حيث انفتح إلى جانب التصوير الصباغي والنحت والفوتوغرافيا على أنماط فنية أخرى من قبيل المنجزة، المنشأة، الفيديو…إلخ.. 

 

     حول الدورة الرابعة لفضاء الناس بمراكش (مسقط رأسه)، كتب عبد اللطيف الزين كلمة موسومة بـ “من جامع الفنا إلى جامع الفن”: “منذ عام 1992، أعدت وبلورت الجمعية الوطنية للفنون التشكيلية مسلكا سوسيوثقافيا فريدا لتقديم، وعرض الفن، وتقاسمه جاعلة منه إبداعا في متناول الجميع. فالفن ينمي روح المواطنة والهوية الإبداعية، ويرسخ القيم الثقافية العميقة، ويتيح التقاسم… فالمستقبل واعد بالنسبة للفن والثقافة. ساحة جامع الفنا ستصبح ساحة جامع الفن”.

     الواقع أن التجربة الجمالية لفن الجذبة (ترونس آرت) التي خاض غمارها الفنان عبد اللطيف الزين بمراكش عام 1990 ثم بالدار البيضاء وباريس “استطاعت أن تكشف عن عمق العلاقة بين المادة الصباغية والجسد في قالب لا يخرج عن إطار الثقافة الشعبية المغربية الأصيلة للتعبير عن حالات لا شعورية تتحكم فيها مقامات انتشائية لا إرادية. 

    إن مجموع العناصر المتوفرة كتغيير فضاء الاشتغال من المرسم إلى الضريح (الولي الصالح مولاي أحمد بن الوافي) وحضور الفرقة الموسيقية – كناوة -، جعلت من هذا الإنجاز نقطة تحول جديدة غيرت المنظور المفاهيمي للتشكيل المغربي الذي انحصر داخل فضاء الرواق والمرسم، وجعلت منه موضع تساؤل عن إمكانيات جديدة في البحث عن أساليب مغايرة  في التعامل مع الموسيقى الخاصة بالجذبة الصوفية  كإرث تراثي شعبي.

     فتدخل الفنان عبد اللطيف الزين ضمن هذه العملية كجسد وكفعل يختلف كل الاختلاف عن التجارب السابقة في هذا المجال، خاصة وأن هذا التدخل يصب في عمق بحث جوهري يستمد أسسه المرجعية من مصادر تاريخية شكل الاشتغال على الجسد بؤرة فن شمولي يجمع  بين الموسيقى والرقص والإنشاد والرسم التلقائي.

     في أواخر حياته، سينزاح عن اشتغاله التعبيري على مناهل التراث الشعبي وروافد الذاكرة الجماعية وسيقيم معرضا بالمحمدية تحت عنوان “سفر روحي بالأبيض والأسود”، قدم فيه أجواء الكعبة الشريفة الروحية انطلاقا من زوايا نظر ورصد مختلفة (التضخيم، التبئير، الرؤية من الزاوية) ووفق معالجة تسجيلية بصيغة تجريدية.

     ختم بعد ذلك الفنان عبد اللطيف الزين مساره الحياتي عام 2016 بتنظيم نسخة جديدة من عرضه الفني الجريء “ترونس آرت” بقاعة أستوديو الفنون بالحي الحسني بالدار البيضاء.

     يقول عن هذه التجربة الطلائعية: “في سياق شعائرية الفن الشمولي، الجذبة الكناوية بالألوان هي مزيج بين الموسيقى والرقص والفن التشكيلي. فالموسيقى الكناوية بكل أشكالها المتحررة تعد سفرا روحيا متميزا، وهي جديرة بهذا العرس الفني”. في معرض تقديمها لهذا العرض الفرجوي، أبرزت  آن فان إزنيير (باحثة متخصصة في مقاومة الألم)، أن الجذبة تعد “طعاما ربانيا شهيا، انتشاء، تحررا، شفاء… إنها فرح، حفل وخلاص… هي الحياة، إنها قبل أي شيء آخر، انفتاح حقل الوعي، وليست مجرد عالم يفزع الفكر الذي نسي تقاليده الخاصة… الجذبة تحرر الإبداع وتوقظ كل شيء يختفي في أعماق الذاكرة… إن الجذبة الشعائرية تشرك المجموعة الاجتماعية التي تكون معنية كلها، فالإنسان لم يسع إلى الجذبة بل الجذبة هي التي وجدته، إنها فطرية، ويعرف ذلك الأطفال الذين يرسمون عفويا تصميم الجذبات الحركية، لأنهم لا يزالون قريبين من الوعي ما قبل الشفهي”.

     سبق لبيير ريستاني، منظر الواقعية الجديدة، أن صنف منجزة “ترونس آرت” ضمن  خانة ما بعد الحداثة في مجال الفنون التشكيلية لأنها تحيل على طقوس البصمات الإنسانية العريقة والموغلة في القدم، معتبرا عبد اللطيف الزين من أبرز الفنانين الأكثر تمثيلية للفن المعاصر.

 إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top