مناضلات حصلن على نوبل -الحلقة 2-

“…أن تكون مُؤمنًا بقضية لا يعني الكثير، أما أن تقرّر أن تُناضل من أجلها فأنت تُقرّر حينها أن تحيا أسطورتك الذاتية، يعني أن لديك قلبًا ينبض وعقلًا يضيء فتشعر حينها بأنك تحيا إنسانيتك، وتستشعر وجودك، فإذا كان صنع السلام أصعب من خوض الحرب لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحياناً مقاربات جديدة وصعبة، إلا أن ذلك يبقى رهينا بالتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف، شعرن دومًا بقلوبهن النابضة وعقولهن المضيئة بذلك الإنسان القابع في نفوسهن برغم القيود التي فرضها عليهن المجتمع لا لشيء إلا لكونهن ملحقات بتاء التأنيث، وبرغم ذلك قررن أن يحملهن تاء التأنيث سلاحا في نضالهن، ينتشرن في التاريخ كالزهرات الجميلات يمنحن الأمل ويتركن حلما لدى الجميع يقول: أنا المرأة، أنا النضال، أنا الحرية، أنا الإنسان دون تمييز… فتدافعن نحو الحرية وحماية حقوق الإنسان بشجاعة ومُثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والسلام، دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان، حتى كوفئن أخيرا بتسجيل أسمائهن في وصية ألفريد نوبل التي كتبها تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل، إنهن مناضلات دافعن عن الحياة وحصلن على نوبل….”. 

غابرييلا ميسترال.. عندما قرع نوبل أجراس الأدب اللاتيني

النضال النسوي الذي دافع عن حقوق المرأة بالشعر فتخطّى الحدود الجغرافية

“…يُطل علينا وجهها من بين حقول التشيلي الخضراء مُخضّبا بالشمس الاستوائية، مُغمّساً بحلاوة القصب السُكري وحليب جوز الهند، مُعطراً بنكهة الخبز الطازج والكاكاو، أما اسمها فيُطرب الآذان ذوقا كلما قرأته كقصيدة من قصائدها المُتلاحمة والمُترابطة، يغنّي حُروفه الإنسان في مجده، فقره وغناه، عزّه وانكساره، تحاول من خلاله أن تعبر الحدود والإنسان وتسمح للآخرين بأخذه كإهداء خاص يتغنون به ويتقاسمون به معها المحبة والزاد وشركة الحياة…”.

ولادة القصيدة

وُلدت غابرييلا  ميسترال (غابرييلا جيرنيمو فيلانويفا) في السابع من أبريل 1889 بواد فيكتوريا حيث الشمال الشرقي لحدود التشيلي، لتفتح عينيها على حياة والدها جيرنيمو فيلانويفا ذلك الشاعر البوهيمي الذي لم يلبث أن هجر عائلته أسوة بعادات الرجال في تلك المنطقة تاركا زوجته بترونيلا الكاياغادي مولينا وطفلتيه أملينا، وغابريللا (أو لوسيا كما يحلو للبعض تسميتها) يواجهون قسوة الحياة، تتقاسم حياة البؤس رفقة شقيقتها ووالدتها التي انطلقت للعمل في التدريس بالمعاهد الابتدائية النائية ورفضت لوسيا الخضوع لقوانينها، وفي هذا تقول في مذكراتها التي حملت اسم (غابرييلا ميسترال: سيرة حياة) “.. كانت أمي تجبرني وتَجرني إلى المدرسة آملة بأن تتفتح مواهبي، مواهب هذه الفتاة الصغيرة ذات العينين الخضراوين والبشرة البرونزية والشعر الكستنائي الجميل، لكن شيئا من النباهة لم يظهر، حينها رفضت أمي نصائح المعلمات لها بالإبقاء علي في المنزل للاهتمام بشؤون التنظيف والخياطة والطبخ، وانكبت مع شقيقتي املينا بتدريسي وأنا في عالم آخر تماما، فما أكاد ادخل غرفة الصف حتى تخطفني مناظر عالم غير مرئي، أسرح فيه ذاهلة بكل من حولي…”.

مفاجات القصيدة

يروي مارغو دي فاسكيز في كتابه (غابرييلا ميسترال: الشاعرة وأعمالها) اختزالات وإرهاصات المداد الأول لقصائد غابرييلا بالقول: “… كان من شأن إصرار والدة غابرييلا على تعليمها أن جعلها تُنهي سريعاً مرحلتها الابتدائية والثانوية، وبالتالي تنجح جهود شقيقتها املينا التي سهرت على تعليم الصغيرة لوسيا (كما أحبوا أن يسموها) ويُفجّر طاقاتها التي أخذت تفيض حُبّاً وولها بالقراءة والكتابة والمُطالعة، لكن حادثا صغيرا ومُفاجئا سيترك بصماته على شخصيتها إلى آخر يوم في حياتها، فبينما كانت تُساعد مديرة المعهد الكفيفة النظر والتي أخذت تعتمد عليها وتُكلفها كل يوم بتوزيع الدفاتر على الطالبات، إذا بها وقد تناولت ما تحتوية الخزانة من دفاتر وأخذت بتوزيعها على الطالبات اللاتي ينخفض عددهن عن عدد الدفاتر، ودفع الإدارة إلى تأنيبها واتهامها بالسرقة، فقرّرت حينها ترك المعهد والدراسة دون ترك الكتابة التي نظمت في قصائد جميلة أخذت الصحف المحلية على عاتقها مهمة نشرها، وقد بدا الإعجاب فيها ظاهراً بشاعرها الكولومبي فارغاس فيلا وذهبت إلى التحدث عنه في مناسبات مُتعدّدة غير آبهة بحالة عدم الرضا والرغبة التي يُكنّها الآًخرون له باعتباره شخصا غير مرغوب به سياسيا، وبينما هي في أحضان سيرينا الجميلة التي ساعدتها على توسيع أفقها الشعري، إذ بالقدر يكشف لها عن مفاجأتها الثانية والتقائها بحب حياتها الذي لم يكتمل، فها هو روميليو أوريتا أحد سائقي القطارات والشاب الغريب الشخصية، رث الملابس المُتفجر بالحيوية والنشاط قد أطل عليها برياح الحب والعشق، فأحبته وقرّرت الإبقاء على حبه بداخلها والابتعاد عنه رغم سيطرته على عاطفتها لكثرة حديث الناس من حولها وتحجّجهم بعدم تكافؤ المستوى الفني والفكري والروحي، بينهما.. وتتلقى بعد ثلاثة سنوات (وفي رواية أخرى خمسة سنوات) خبر مقتله بعد العثور عليه جثة هامدة، بعد فراقها عنه بمدة قليلة، حينها بدأت القصائد تتدفق من قريحة غابرييلا مُحمّلة بالحزن ومرارة الخيبة، وكأن الشاعرة قد أخذت تُؤكد للجميع عدم قدرتها على نسيان حبيبها الأول، واختارت لقصائدها أن تحمل اسمها غابرييلا ميسترال تيمّناً بالشاعر الفرنسي فريدريك ميسترال والإيطالي غابرييل دانونزيو اللذين أحبتهما ونحتت اسمها المستعار من اسمهما المشترك، وذهب العديد من مُتتبعيها إلى القول، في رواية أخرى، بأنها اختارت اسم جبريل الملاك الحامل للبشائر الطيبة، وميتسرال الرياح الحارة العتية التي تهب على بلادها، ممّا جعل البعض يدعوها بصاحبة الاسم الملائكي والكنية الرهيبة.

قصائد وادي الكي

رمز جائزة نوبل

ويستطرد مارغو دي فاسكيز بالقول “.. مهما كانت أسباب التسمية، فإن حاملة الاسم هي مدار الكلام هنا، فهي الذات المتفجرة بكل العواطف المُتأجّجة التي أودعتها في صدرها التجارب، والمناخ العام وأصلها الجامح نحو البوهيمية بفضل الدماء الهندية التي تجري في عروقها وتمتزج مع دماء أخرى حارة ورثتها عن جدود قدموا من منطقة الباسك الإسباني، يُقابله إرشاد روحي تَحَدّر إليها من جدّة مُتصوْفة غرست تلك البذرة السامية في نفس الحفيدة فأينعت وأعطت ثماراً خيّرة في قصائدها التي تحمل أسمى ما في المشاعر الإنسانية من حس ومحبة وحنان، إنها الموسيقى الجارفة في شعر مياه الوديان حيث وادي الكي الذي كتبت فيه بحروف زُلال أجمل القصائد المُستوحاة من الطبيعة، القصائد التي كتبها وهي إلى جانب الصوْر التي جسدتها من جلسات التأمل الهادئة على كتف الوادي وهي تراقب الغيوم الراحلة ونجوم الليل الصافية وتتحدّث إلى الطيور والفراشات والنوارس حتى بقي مجرى نهره يجري مجاري الدم في جسدها، وأخرج معه ديوانها الأول (الهجر) الذي أهدته إلى حبيبها الذي قرّر هجرها والزواج من أخرى.. وفي ذكرى موته المأساوي، وجعل شعرها ينتشر انتشار النار في الهشيم سريعا في بقاع الدنيا وبلغاته المختلفة بعد أن سهر على جمعه وباللغة الاسبانية أستاذ الأدب الاسباني بجامعة كولومبيا (فيديريكو دي أونيس)، حتى بدت تنسى معه الحزن والألم وتنتشي نفحات الشعر وتتذكر الشاعر التشيلي التي أحبته وأرادته لنفسها وتركها وحيدة وقرّر الارتباط بأخرى ووضع بذلك بصماته على تجربتها الخاسرة مع الحب والإنسان، وأخذت أعمالها تنفجر بالشعر البَهيْ وتقول “….باعني الذي خطف ذات يوم حُلما من عيني، أهديته قصائدي مع الحب ووجهي المُخَضّب بالدم، فحتى مَعصرة الموت لن تستطيع أن تجفف قلبي…”، وانطلقت من هذا الوادي إلى الأطفال لتكتب لهم ديوانها (حنان) المليء بالشعر الطفولي حيث حبّ الأم لأولادها، لتُخْرج معهم أيضا وبعد ستة عشر عاما ديوانها الآخر (تالا) الذي أهدته إلى الأطفال المُهجّرين في مقاطعات الباسك وكاتالونيا الإسبانية.

قصائد الحرب والحدود

ما أن حطّتْ الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى ذهبت الشاعرة غابرييلا إلى نثر قصائدها بين الجنود لتحطّم معهم قيود الحدود وحواجز المكان، تعْصر ألمها وألم الناس هناك، عبر ديوانها (لاغار: أو المعصرة)، ترسم من خلاله صور الدمار والحرائق المُشتعلة في العالم بسبب همجية الإنسان وتسلطه واستبداده، وأخذت تلتحق سريعا بعد سنوات بالمكسيك بناء على دعوة وزير التربية لتشارك في إصلاح النظام التعليمي واضعا لها وتحت تصرفها دار أنيقة وسيارة ومرافقه، وشيّدت مدرسة على اسمها وأحيطت بالاحترام والتقدير الكبير مما لم يبسق لها أن حظيت بمثله، حتى أخذت تكتب إلى أحد أصدقائها تقول “…. لأول مرة أجد المكان الذي حلمت به، حيث أنعم بالهدوء بعيداً عن المتاعب المالية…”، لكن حنينها للوطن أجبرها على العودة، ولهفتها للأطفال جعلها تُكرّس حياتها لتحتضن إبن شقيقها خوان غودوي التي أحبته كإبنا لها، وأخذت تُلصق به الأسماء الرائعة، فتناديه بصنوبر حلب وأرْز لبنان حتى فُجعت بموته وتلقت خبر وفاته أثناء رحلتها للبرازيل عام 1943، لينطفيء حينئذ أملها الأخير في الحياة ويبدأ قمر القصائد في الغياب بعد أن أثقلت المآسي قلمها وأخذت صحتها بالانهيار تحت وطأة وتأثير الخسارة دون أن يُنسيها ذلك أصوات نوبل الذي أخذ يقرع لأجلها أجراسه عام 1945 ويمنحها جائزته الشهيرة تقديرا لقيمتها وكيانها الإنساني ونجاحها الفريد في رسم الصورة الجميلة للأدب اللاتيني.

سقوط القلم وبقاء الشعر

بالرغم من الانهيارات والنكسات التي حلّت بالشاعرة غابرييلا (يضيف فاسكيز في كتابه) إلا أنها ظلت أشبه بسفارة مُتنقلة راقية، تُدعى من جامعة إلى أخرى لإلقاء الشعر ومناقشة شؤونه، ومُنحت لأجله العديد من شهادات الدكتوراة الفخرية وحاضرت لأجله ولأجل الأدب الإسباني في جامعة بورتوريكو التي منحتها لقب المواطنة الشرفية، لكن آلآمها الشخصية بقيت من خصوصياتها، وعالمها الداخلي بقي مُقفلاً ولم تسمح لأحد بتخطي عتبته بقدر ما يفهمه الآخرون من شعرها، حتى مرافقتها المتلازمة (دوريس دانا) لم تستطع بدورها أن تلج بوابة ذلك العالم الذي تبدو فيه غابرييلا المرأة الهادئة المُنطوْية على ذاتها وكأنها تتحدّث إلى كيان لا يُبصره الآخرون، سمحت لنفسها أن تعيش عزلتها الذاتية طويلا حتى ارتحلت عن العالم في العاشر من ديسمبر 1957 وتترك لنا بعدها تراثاً أدبيا وإنسانيا وشعراً يحمل نكهة الأصالة المُعطرة بالكاكاو ونزعة التجديد التي تَنْضَحُ بالحب والإخلاص لعالمها الأول ونهرها الغالي الذي أنشدته أصفى شعرها، وكأنها شاءت أن تودع عالمها مثلما يَليق بشاعرة مُلوحة بقصيدة الرحيل: والآن، أفك صندالي الشهير، وأحل غدائر شعري، إني أتوق إلى النوم، وبينما أضيع في الليل، أرفع صوتي بصرخة تعلمتها منك، يا سيدي/سيد ..”.

سلسلة من إعداد وتقديم: معادي أسعد صوالحة

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم

Related posts

Top