يضرب المغاربة منذ سنوات طويلة، موعدا خاصا واستثنائيا خلال شهر رمضان الأبرك، مع وجوه فنية مميزة ومتألقة تضفي طابعا خاصا على مائدة الإفطار العائلي، وتزيد من قوة الطابع الاستثنائي لهذا الشهر الفضيل، سواء عبر الشاشة من خلال الوصلات الفنية المتنوعة طيلة اليوم، أو عبر المواعيد المباشرة مع جمهور الركح أو السينما أو الحفلات…
وتتميز الساحة الفنية المغربية بصعود أسماء جديدة بشكل متواصل، إلا أن هناك وجوها فنية خاصة ألفها المغاربة وأصبح غيابها عن الساحة بشكل عام وخلال الشهر الفضيل بشكل خاص، يشعرهم بفجوة في أجواء رمضان.
ورغم أن الأسماء الجديدة منها ما تميز وأبدع ووصل إلى قلوب المغاربة، إلا أنه من الصعب جدا تعويض الوجوه التي كبر وترعرع معها جيل من المغاربة وشكلت جزءا كبيرا من ذكرياتهم، حيث إنه في الأخير يبقى للجيل الجديد دوره ومكانته في إغناء الساحة، لكن ما من أحدهم قد يعوض آخر أو يحتل مكانته، خاصة في الذاكرة والقلوب.
وحيث إننا نضرب موعدا خلال هذا الشهر الكريم مع إبداعات فنية متنوعة سواء عبر الشاشة أو المسرح والسينما وغيرهما، يساهم فيها خليط من أجيال متعددة، سنستغل هذه المناسبة بجريدة بيان اليوم، لنستحضر عددا من الوجوه الفنية المغربية التي غادرتنا إلى دار البقاء في مجالات التمثيل والغناء التمثيل والإخراج، التي بصمت الساحة الفنية الوطنية بعطاءات ظلت شاهدة على تفرد موهبتها، التي رسختها في سجل تاريخ الفن بالمغرب والعالم بمداد من ذهب.
الراحل إدريس الخوري.. نقطة ضوء في الأدب المغربي الحديث
نستضيف في حلقة اليوم، الكاتب والقاص المغربي الراحل إدريس الخوري، الذي بدأ مشواره الأدبي شاعرا في مطلع الستينيات، لكن سرعان ما اتجه إلى كتابة الخاطرة والقصة والمقالة.
ولد إدريس الخوري في العام 1939 بمدينة الدار البيضاء، وعمل صحفيا بجريدة “المحرر” التي تحولت لاحقا إلى “الاتحاد الاشتراكي”.
انضم إلى اتحاد كتاب المغرب في العام 1968، واشتهر خاصة في مجال القصة القصيرة حيث أصدر عدة مجموعات قصصية من أشهرها “حزن في الرأس والقلب” في العام 1973، و”ظلال” في 1977، و”البدايات” في 1980 ثم “الأيام والليالي” في نفس العام، و”مدينة التراب” في 1988، و”فضاءات، دار الكلام” عام 1989، ثم “يوسف في بطن أمه” في 1994.
ويعد آخر العنقود من ثلاثي مغربي مبدع وفريد بأسلوبه في عالم الرواية والأدب. ولكن مسيرة عطائه انتهت، حيث توفي بمنزله في الرباط عن سن ناهزت 83 عاما، ووري الثرى الثلاثاء 15 فبراير 2022 بالعاصمة المغربية، ليلتحق بالراحلين محمد شكري ومحمد زفزاف.
فلا يمكنك أن تتحدث عن الأدب المغربي الحديث دون المرور تحت شجرة إدريس الباسقة، حيث شكل رفقة صديق عمره محمد زفزاف، ومحمد شكري ثلاثيا جهنميا دوّخ متاهات الأدب المغربي السرية، وحانات الرباط والدار البيضاء، ونقاد المشرق العربي.
بضحكته المجلجلة ونكته الصاخبة يرخي بظلاله على فضاءات الرباط والدار البيضاء، إذ يعتبر شخصية “عمومية” يحييها سائقو التاكسي، الطلبة، رجال الأعمال أو الأدباء، فإذا زار كاتب مدينة الرباط ولم يجالسه في فضاءاته المحببة، تعتبر زيارته باطلة، لأنه لم ير شخصية الرباط الرئيسية.
إدريس الخوري قبل أن يكون شخصية محببة، هو كاتب خبر. مبكرا درس الكتابة، أي نفذ إلى أعماق الحياة ليستخرج لنا ذهبها الأدبي النادر. فصاحب “خديجة البيضاوية”، وشرب ماء الحياة في الدار البيضاء العامرة، ويروي في حديث له قائلا: “ولدت في النصف الثاني من سنة 1939 بحي درب غلف الشعبي، قريبا من “المعاريف” الحي الأوروبي آنذاك. ففتحت عيني في نفس الوقت على الثقافة الشعبية ونظيرتها الأوروبية. ترعرعت إذن في أسرة عمالية فقيرة جدا تتكون من خمسة إخوة وأخت واحدة. نزحت إلى الدار البيضاء من سهول الشاوية، وبالضبط من ولاد بنداوود”. هذه الأصول البدوية التي صهرتها الثقافة العمالية البيضاوية، مكنت الكاتب من حاسة التقاط أدبية فتحت له أبوابا جديدة في الكتابة الأدبية. إن هذه العين اللاقطة للكتاب الكبار لم تكن يتيمة المرجعية، بل متحت من نصوص مغربية وعربية شحذت قدرتها على التغلغل في الوجدان المغربي الشعبي.
ماذا كان يقرأ إدريس شابا؟ قال: “تماهيت في صغري، عربيا، مع نصوص نجيب محفوظ، محمود تيمور، مارون عبود، محمود بدوي، ومغربيا كنت أقرأ لمحمد برادة، عبد القادر الصحراوي رحمه الله، عبد الكريم غلاب، عبد الجبار السحيمي ومحمد بيدي الذي كان كاتب قصة متميزا آنذاك”. هذه النصوص الغائبة صهرها إدريس الخوري في كتابة مغايرة أدخلت القصة القصيرة المغربية في مراحل حداثتها المتقدمة. كما تحدث عن تجربته وهو شاب في إحدى المكتبات والتي ساعدته على تقوية حسه الأدبي بالكتب الكثيرة التي كان يعيره إياها صاحب المكتبة اللبناني.. يقول الخوري في هذا الصدد: “كانت الدار البيضاء تعج بالمكتبات في الستينات من القرن الماضي. فمن يتذكر الآن “مكتبة الوحد” لصاحبها عيسى اللبناني الذي كان رجلا طيبا، و”المركز الثقافي العربي” لعائلة نزار فاضل اللبنانية التي استقرت في درب الأحباس بشارع فيكتور هوغو إلى يومنا هذا… فقد اشتغلت معه كمساعد في مكتبته بين سنتي 1964و1965، وكان يعتبرني مثل ابنه فيدعوني إلى بيته ويعيرني العديد من الكتب التي كانت تعجبني. إنني مدين له بحبي للأدب”. وبعد أن درس إدريس بمساعدة أخيه البكر، عانق مبكرا عالم العمل/ الكتاب.
دين الكتابة الحقيقي يدين به إدريس الخوري للمجتمع المغربي الشعبي الذي عبر عنه الكاتب بفنية عالية، جعلت الكتابة الأدبية صنوا للحياة نفسها. وهذه سمة ميزت أدب جيل الخوري الذي كان يكتب كما يتنفس ويعيش الحياة/ الكتابة بطولها وعرضها. فكان إدريس الخوري من أوائل من وظف الدارجة المغربية توظيفا جماليا بارعا، وخضرم اللغة الأدبية بـ “درجة الصفر في الكتابة” فجلب لب القارئ المغربي الذي رأى ذاته في مرآته الواقعية الجديدة. فأصبح يجد نفسه سائحا في قصص إدريس، لا يفرق بين الواقع والتخيل.
ابتكر إدريس الخوري لغته القصصية الخاصة، مازجا بين السخرية والنميمة والنقد الاجتماعي ووصف الأمكنة، فاستطاع تأسيس هوية أدبية جعلته من أكبر كتاب القصة في المغرب والعالم العربي. فلماذا فضل ادريس القصة القصيرة على الرواية، قال: “بقيت مرتبطا بالقصة القصيرة لأسباب شخصية وأدبية. وفي المغرب يظل هذا الجنس الأدبي في حاجة إلى تراكم حقيقي حتى يؤسس نوعيا هوية هذا الأدب بالذات”. وقد ظل إدريس الخوري وأحمد بوزفور، وفيّين لفن القصة باعتبارها فن التفاصيل الصعبة التي لا يقبض عليها إلا الكتاب الحقيقيون.
ومن رفاق درب إدريس الخوري محمد زفزاف الذي شاركه الطعام ومتعة الكتابة ومقالب الحياة، وقال في حديث له: “تعرفت على محمد زفزاف عندما كان ينشر قصصه الأولى في جريدة العلم. كان كاتبا متميزا. وقد كان طالبا بكلية الآداب بالرباط في شعبة الفلسفة. وهكذا صرنا صديقين بحكم عملي في جريدة “العلم” ونشره فيها، تجمعنا الصداقة والكتابة. ولما عين زفزاف في الدار البيضاء، ساعدته لينتقل لإحدى الثانويات بحي المعاريف، وتركت له شقتي لأنني تركت آنذاك نهائيا الدار البيضاء لأستقر وأعمل بالرباط. وبالمناسبة فزفزاف كان أنيقا، يرتدي بذلة رمادية ويركب على دراجة نارية من نوع «سوليكس». وكان حريصا على تناول الغداء في مطعم «ماجستيك» الذي ما زال مفتوحا إلى يومنا هذا. وكنت أزوره كل أسبوع لنلتقي بالأصدقاء. وذات يوم استدعيت إلى المحكمة، وكنت قد انتقلت نهائيا إلى الرباط. وكانت المفاجأة أن صديقي محمد زفزاف لم يؤد الكراء لمدة سنة، فحكمت عليه المحكمة بالإفراغ لصالح صاحب الدار!».
لقد التهم جيل إدريس الخوري ومحمد زفزاف، ومحمد شكري فيما بعد، الحياة بنهم وحفر هوية أدبية مغربية مشرعة على الاختلاف الوحشي. ورغم الصراعات التي تعرفها الأجيال الأدبية في مختلف بلاد المعمورة، فقد كانت الصداقة وهواء الحرية الطلق والوجودية، ملامح جيل متمرد أصر على الكتابة والحياة بشكل مغاير وأصيل.
* عبد الصمد ادنيدن