عندما أترك سيجارتي تدخن نفسها
أسارع إلى توضيب الفضاء قبيل التحاق الزبناء، ترتيب الكراسي بما يليق براحة جلوس الرواد، وتلميع الطاولات، وترتيب كل الأغراض، طقوس أصبحت من فرط تكرارها تطاوعني وأنا منهمك في تنزيلها، كروبوت برمج على أداء مهمة بأساليب معلبة.
لا شيء يستجد، إلا من بعض الوجوه الجديدة التي تقصد المقهى قادمة من محطة الحافلات أو القطار.
صوت عكازها الذي لامس الأرض جعلني ألتفت ..
هي المتسولة العجوز التي دأبت على تسجيل حضورها اليومي بالمقهى.
لم أتردد في منحها درهما، وبدعوات على شكل قصيدة محفوظة ردت على صدقتي المتواضعة.
غادرت إلى حيث اعتادت…
أشغل التلفاز، باحثا عن قناة الجزيرة، والتي يفضلها السواد الأعظم من الزبناء خصوصا في الصباحات.
برشفة سواد الكافيين، أكسر مرارة السيجارة التي ألتهم عقبها بنهم..
متدثرا بجلباب صوفي، وبخطى وئيدة يدخل عمي عبد السلام، واحد من قدماء الزبناء، بعدما ركن دراجته الهوائية في وضعية تتيح له مراقبتها.
يتسلل بين الطاولات لينزوي حيث ألف.
مظطرا لخدمته، أترك سيجارتي تدخن نفسها بروية على سور النفاضة.
بتحية أهل الإسلام يحييني، سائلا عن أحوالي…
«كل شيئ بخير،، الله يعطيك الخير عمي عبد السلام»… هكذا أجبت…
متسمرا قبالة التلفاز، يتابع أخبار سوريا، والعراق، واليمن، متحسرا على ما آلت إليه أحوال الوطن العربي الجريح، بدأ السي عبد السلام يتمتم بقاموس لا يفك معناه إلا هو.
ناولته كالعادة كوب قهوة ممزوجا بالحليب.
لم يباشر تذويب قطع السكر في المشروب، ولم يستعجل تذوقه..
أمسك الكوب بملء يده، راغبا في الاستدفاء حسب ما فهمت.
خلوة عمي عبد السلام، كسرها صوت عاشور، ذاك الجندي المتقاعد الذي جاء من أقصى الصحراء، بعدما أتم خدمته في الجندية، وغدا رأسماله ذكريات مزيج من المغامرة والمعاناة، وأحيانا الهوليودية في توصيف ما عاشه في رحاب الرمال أيام كان يحرس الحدود على حد روايته.
باستعجال وبعبارة» زير شي وحدة سي هشام»، كانت طلبيته، وعلى جناح السرعة لبيت الطلب، خصوصا وأنني لست بحاجة إلى إيتيكيت استقبال للزبناء، لأن معرفتي بهم تتجاوز معرفتي بأصابع يدي.
يتقاطر الزبناء على المقهى، لتدب الحركة في الأرجاء وتختلط الأصوات ليعزف كل لحنه وإيقاعه تحت سحابة الدخان التي شكلتها أمتار من السجائر المشتعلة.
قليلون هم الذين لا يأسرهم سحر السجائر الشقراء، وكثيرون هم الذين يتلذذون بمنظرها وهي تحتضر اختناقا على أعتاب الشفاه.
< بقلم: هشام زهدالي